"قط بسبع أرواح"، هكذا وصفت إسرائيل محمد الضيف، قائد أركان كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، الرجل الذي هدد جنود الاحتلال المتظاهرين في القدس بالعقاب إذا هتفوا باسمه.
فعلى مدار 30 عاماً حاولت المخابرات الإسرائيلية مرات عديدة تصفية محمد الضيف، وبررت فشلها بأنه هدف يتمتع بقدرة بقاء غير عادية، ويحيط به الغموض، ولديه حرص شديد على الابتعاد عن الأنظار، حتى تصفه بعض المصادر الإسرائيلية بأنه قادر على الذوبان بين الناس والتخفي وتغيير لونه مثل الحرباء.
إذ يستطيع الضيف أن يعيش في حفرة صغيرة في جوف الأرض أو قبو مغلق، دون استخدام وسائل اتصال حديثة، حسبما قال مصدر مصري معني بالملف الفلسطيني لـ"عربي بوست"، فلقد كيّف الرجل نفسه على التخفي في مواجهة قدرات إسرائيل الاستخباراتية والتكنولوجية العالية، التي أدت إلى اغتيال عدد من قادة الجناح العسكري لحماس السابقين.
وفي هذا الصدد قال مسؤول في حماس طالباً عدم كشف اسمه إن الضيف لا يستخدم أياً من وسائل التكنولوجيا الحديثة، مشيراً إلى أنه "يحيط نفسه بسرية لا مثيل لها، ودائم الحذر، ولديه سرعة بديهة غير عادية، وذكي جداً"، حسبما نقل عنه موقع فرانس 24.
المقدسيون يهتفون باسمه رغم التهديدات
وبرز اسم محمد الضيف الذي يعتبر قائد هيئة أركان كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الأيام الأخيرة، عندما هتف المقدسيون باسمه في مظاهراتهم، سواء داخل المسجد الأقصى، أو في مناطق أخرى من البلدة القديمة لمدينة القدس المحتلة، حيث بات شعار "إحنا رجال محمد الضيف" من أكثر الشعارات ترديداً في مظاهرات الشباب المقدسيين.
لدرجة أن قوات الاحتلال كانت تطلب من المحتجين الفلسطينيين عدم ذكر اسمه في المظاهرات، وعدم رفع العلم الفلسطيني، وذلك حتى لا تقمع المظاهرات، وفق ما ذكر في موقع "الجزيرة نت".
وجاء ترديد اسم القائد محمد الضيف، الذي يعد من أبرز المطلوبين الفلسطينيين لدى تل أبيب، في مظاهرات القدس، عقب تحذيره الأسبوع الماضي لسلطات الاحتلال والمستوطنين أنه "إن لم يتوقف العدوان على أهالي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة والأقصى في الحال، فإن كتائب القسام لن تقف مكتوفة الأيدي، وسيدفع الاحتلال الثمن غالياً".
وعندما أصدر الضيف تصريحه المكتوب النادر، علمت سلطات الاحتلال أنه سينفذ إنذاره بتوجيه ضربة صاروخية لإسرائيل، رداً على ممارستها في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وهو ما حدث فعلاً قبل أيام.
وفي حدث صادم للإسرائيليين، قصفت حماس القدس في نفس توقيت المظاهرة التي نظمها المستوطنون لاقتحام المسجد الأقصى يوم 28 رمضان، ما أدى إلى انفضاض المظاهرة، وبعد ذلك طالبت فصائل المقاومة الفلسطينية بفض الحصار عن المسجد الأقصى، واستجابت إسرائيل جزئياً.
وتتهم إسرائيل محمد الضيف، الذي تسميه بـ"رأس الأفعى" و"ابن الموت" بالوقوف وراء عدد من العمليات العسكرية الكبرى ضد أهداف إسرائيلية، ونجا من محاولات اغتيال عدة، آخرها أثناء العدوان على غزة عام 2014.
ويكتنف الغموض والسرية نشاط الضيف، وتعد شخصيته مجهولة للرأي العام، ولا يظهر إعلامياً إلا فيما ندر من خلال تصريحات مكتوبة أو تسجيلات صوتية.
خسر زوجته وطفله، ويُعتقد أنه فقد يداً وقدماً
رغم نجاحه في البقاء حياً في السنوات الماضية، فقد كان الضيف الملقب بـ"أبوخالد" قريباً من الموت في 5 محاولات اغتيال، تعرض لها في 2001 و2002 و2003 و2006 و2014، حسب تقرير الجزيرة.
وكانت أشهر محاولات اغتيال الضيف في أواخر سبتمبر/أيلول 2002، حيث اعترفت إسرائيل بأنه نجا بأعجوبة عندما قصفت مروحياتها سيارات في حي الشيخ رضوان بغزة، لتتراجع عن تأكيدات سابقة بأن الضيف قُتل في الهجوم المذكور.
وفي آخر محاولة لاغتيال الضيف في صيف 2014 قُتلت زوجة محمد الضيف وداد، (كانت تبلغ من العمر 27 عاماً)، وطفله علي، الذي كان يبلغ من العمر سبعة أشهر، في غارة جوية استهدفت منزلاً في حي الشيخ رضوان في مدينة غزة.
وفي إحدى محاولات الاغتيال أصيب محمد الضيف إصابة مباشرة جعلته مشلولاً يجلس على كرسي متحرك، وفق تقارير إعلامية، وتقول تقارير أخرى، إنه فقد يداً ورجلاً.
وتتحدث تقارير عن إدارة الضيف للعمليات من على مقعده المتحرك بعد إصابته عام 2006، عندما استهدف صاروخ إسرائيلي سيارته، ، كما تفيد تقارير بأنه أصيب في عينه أيضاً، حسب موقع فرانس 24.
ولكن ذلك لم يؤكد أبداً، إذ لا يوجد للضيف سوى صورة التُقطت قبل 20 عاماً يظهر فيها وجهه نحيفاً وغير ملتحٍ، حسبما ورد في تقرير لموقع فرانس 24.
قائد القسام الذي كان محباً للعمل المسرحي
ينتمي الضيف للجيل الأول والثاني من قيادات حماس، الذين تعرّض كثير منهم للاغتيال، ويتمتع باحترام في صفوف الحركة لتحديه إسرائيل.
ولا يعرف إلا القليل عن عائلته، كما أن الكثيرين يشكّكون فيما إذا كان الضيف هو اسمه الحقيقي أم لا، فيما يقول البعض إن اسمه الحقيقي هو محمد المصري، وإن اسم الضيف لزمه بعد مشاركته في مسرحية عندما كان طالباً في الجامعة.
ولد محمد دياب إبراهيم المصري، المشهور بمحمد الضيف، عام 1965 لأسرة فلسطينية لاجئة أُجبرت على مغادرة بلدتها (القبيبة) داخل فلسطين المحتلة عام 1948.
فقر أسرته المدقع أجبره مبكراً على العمل في عدة مهن ليساعد والده، الذي كان يعمل في محل للغزل، حسب تقرير "الجزيرة نت".
درس العلوم في الجامعة الإسلامية بغزة، وفي تلك الفترة برز طالباً نشيطاً في العمل الدعوي والطلابي والإغاثي، كما أبدع في مجال المسرح.
إذ يقول عنه مسؤول في حماس كان "مبدعاً في العمل المسرحي والفني، لكنه نشيط جداً في التطوع وخدمة الطلاب الفقراء خصوصاً"، مشيراً إلى أنه كان يمكن وصفه حينها بأنه " شاب خجول ومؤدب دمث الخلق، صوته دائماً منخفض، هادئ بطبيعته، ومتواضع، ويحب القراءة والعمل الخيري، ومولع بالعمل العسكري منذ أن كان مراهقاً".
تشبّع الضيف في فترة دراسته الجامعية بالفكر الإسلامي، فانضمّ إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان من أبرز ناشطي الكتلة الإسلامية. والتحق بحركة حماس وعُدّ من أبرز رجالها الميدانيين.
كيف صعد محمد الضيف لقيادة الجناح العسكري لحماس؟
اعتقل الضيف لأول مرة في 1989 مع مئات من عناصر وقادة حركة حماس، وأمضى 16 شهراً في الاعتقال الإداري دون محاكمة، وتولى مساعده أحمد الجعبري قيادة عمليات كتائب القسام.
تزامن خروجه من السجن مع بداية ظهور كتائب القسام بشكل بارز على ساحة المقاومة الفلسطينية، بعد أن نفذت عدة عمليات ضد أهداف إسرائيلية.
انتقل الضيف إلى الضفة الغربية مع عدد من قادة القسام في قطاع غزة، ومكث فيها فترة من الزمن، حيث أشرف على تأسيس فرع للقسام هناك، ثم برز كقيادي كتائب القسام بعد اغتيال عماد عقل عام 1993.
أشرف محمد الضيف على عدة عمليات ضد إسرائيل، من بينها أسر الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان، وبعد اغتيال يحيى عياش -أحد أهم رموز المقاومة- يوم 5 يناير/كانون الثاني 1996، خطط لسلسلة عمليات فدائية انتقاماً للرجل، أوقعت أكثر من 50 قتيلاً إسرائيلياً.
اعتقلته السلطة الفلسطينية في مايو/أيار 2000، لكنه تمكّن من الفرار مع بداية انتفاضة الأقصى التي عُدّت محطة نوعية في تطور أداء الجناح العسكري لحماس.
وأصبح محمد الضيف قائداً لكتائب القسام في 2002، بعد اغتيال صلاح شحادة في غارة إسرائيلية.
ثم اغتالت إسرائيل الجعبري في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، في بداية العملية العسكرية على قطاع غزة في 2012، التي أطلقت إسرائيل عليها اسم "عمود السحاب" واستمرت ثمانية أيام.
وبعد استشهاد الجعبري، الذي كان نائب الضيف وقائداً تنفيذياً يُشرف على العمل العسكري، تم الإعداد لترتيبات جديدة في تشكيلات القسام أعدها الضيف، ولكنها "سرية جداً"، حسبما ينقل موقع فرانس 24 عن مسؤول كبير في حماس.
واللافت أنه بينما تخلصت إسرائيل من قيادات عدة لحماس، خاصة قادة الجناح العسكري، قدم الضيف تجربة لافتة في النجاة، وأصبح "العدو رقم واحد لإسرائيل"، فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود أرسل الفدائيين، ووجَّه عمليات اختطاف الجنود الإسرائيليين.
ونُقل عن عماد الفالوجي، أحد قادة حماس السابقين، ومن القلائل الذين تعرفوا على الضيف عن قرب قوله "أي الضيف"، "رجل هادئ جداً، ويفضل الحياة البعيدة عن الأضواء، ويختفي بين الناس"، ويرى الفالوجي أن سر نجاح الضيف في التخفي مرتبط بالدائرة الصغيرة التي يتعامل معها "ولهذا السبب فهو لا يزال على قيد الحياة".
الإضافة الحقيقية التي قدمها الضيف لاستراتيجية المقاومة
بينما اشتهر الضيف بقدراته على التخفي، والنجاة من محاولات الاغتيال الإسرائيلية، والعمليات الأمنية الذكية، فإن الإضافة الحقيقية التي قدمها الضيف للعمل المقاوم في غزة أهم من هذه الأمور.
يمكن القول إن الضيف أضاف عدة نقاط أساسية للمقاومة الفلسطينية.
الأولى هي إضفاء طابع من السرية البالغة على العمل العسكري، خفف قدرة إسرائيل على استهداف قادته، وهو الأمر الذي كان يمكن أن يقضى على كتائب القسام برمتها.
الثاني: تعميقه الطابع المؤسسي للجناح العسكري، وبالتالي لم يعد استمراره يرتبط بشخص.
أما الإضافة الثالثة فكانت تحويله الجناح العسكري لحماس من منظمة صغيرة تركز على الأعمال الأمنية الخاطفة، لحالة أشبه بجيش صغير يطور أسلحته الخاصة، ويتدريب طول فترات الهدنة، ليقاتل في حرب عصابات تلائم طبيعة غزة المزدحمة، وقادر على منع الاحتلال من البقاء، لدرجة أنه نفذ عملية كوماندور بحرية في حرب عام 2014.
النقطة الرابعة: هي اهتمام كتائب عز الدين القسام البالغ بتطوير أساليبها وأسلحتها الذاتية، خاصة في ضوء تزايُد صعوبة الحصول على سلاح من الخارج، خاصة في ظل تشديد الحصار على غزة من قبل مصر بعد 30 يونيو/حزيران 2013، وأيضاً توتر علاقة حماس مع إيران وحزب الله بسبب مواقفها من الثورة السورية.
تم هذا التوسع في العدد والعدة دون تراجع في مستوى الأداء العسكري.
وبالفعل تعتبر الاستخبارات الإسرائيلية محمد الضيف العقل المدبر الذي يقف وراء استراتيجية حماس العسكرية؛ أي تصنيع وإطلاق الصواريخ على إسرائيل وبناء الأنفاق التي يمكن من خلالها اختراق خطوط العدو الإسرائيلي.
وتتسم استراتيجيات حماس والجهاد التي يلعب الضيف دوراً كبيراً فيها بالقدرة على التكيف، فمع نجاح إسرائيل في اكتشاف الأنفاق وتدميرها، وتطور القبة الحديدية، بدأت حماس على سبيل المثال الاهتمام بالطائرات المسيرة، لأنها مصنوعة من مواد يصعب رصدها من القبة الحديدية، ومحركاتها لا تنبعث منها طاقة كبيرة، وهو ما يصعب اكتشافها.