اللقاءات المباشرة بين السعودية وإيران في العراق تحول جذري في مسار العلاقات بينهما، وغياب أمريكا عن تلك اللقاءات ملمح جوهري كاشف أيضاً، فهل هذا تطور سلبي لواشنطن؟
كانت المحادثات السرية التي جرت بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين قد بدأت منذ يناير/كانون الثاني، وكانت صحيفة Financial Times البريطانية أول من نشر تقريراً بشأنها في أبريل/نيسان الماضي، بينما أفاد موقع Amwad.media البريطاني لاحقاً بأنه تم عقد خمسة اجتماعات بين الجانبين، وأن بعض هذه الجلسات ضمَّت أيضاً مسؤولين من الإمارات ومصر والأردن، حول مواضيع تتراوح بين الحرب في اليمن إلى الأمن في سوريا ولبنان.
وفي ظل عدم وجود علاقات دبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران منذ عام 2016، وتجاهَلَ القادة والدبلوماسيين من كلا الجانبين تهديدات الحرب فيما بينهما منذ ذلك الحين، يمكن القول إن تلك المحادثات بين الرياض وطهران تمثل في حد ذاتها تحوُّلاً سياسياً هائلاً، حتى وإن لم تفضِ إلى نتائج ملموسة في نهاية المطاف.
تغيير في لغة الحوار
وفي هذا السياق من المهم التوقف عند تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في أبريل/نيسان الماضي بشأن إيران والتي قال عنها إنها "دولة جارة وكل ما نطمح إليه هو أن يكون لدينا علاقة طيبة ومميزة مع إيران".
واستطرد ولي العهد: "لا نريد أن يكون وضع إيران صعباً، بالعكس، نريد لإيران أن تنمو وأن يكون لدينا مصالح فيها ولديها مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار"، مضيفاً أن "إشكاليتنا هي في التصرفات السلبية التي تقوم بها إيران سواء من برنامجها النووي أو دعمها لميليشيات خارجية عن القانون في بعض دول المنطقة أو برنامج صواريخها البالستية".
وعلى الرغم من أن تلك التصريحات لم تستغرق سوى دقيقتين خلال مقابلة تليفزيونية امتدت أكثر من 90 دقيقة، إلا أنها مثلت تغييراً جذرياً، بل تناقضاً، عن تصريحات الحاكم الفعلي للمملكة تجاه طهران منذ نحو ست سنوات، وهو التحول الضخم الذي يراه البعض تبريداً للأزمة المشتعلة بين الجارتين، بينما يراه البعض الآخر تمهيداً للتوصل لتسوية بينهما.
وردَّت طهران على تصريحات ولي العهد وقتها بصورة مقتضبة لكنها معبرة في الوقت ذاته، إذ أكدت الخارجية الإيرانية على أن الحوار مع السعودية هو "دائماً موضع ترحيب"، وهو الموقف ذاته الذي أعلنته طهران في يناير/كانون الثاني.
اللقاءات في غياب أمريكا
وعلى الرغم من نفي وسائل الإعلام السعودية في البداية تقارير عقد محادثات سرية بين الرياض وطهران، إلا أن تصريحات ولي العهد بشأن إيران أضفت مصداقية على التقارير الخاصة بتلك الاجتماعات، وأكدتها أيضاً صحيفة New York Times الأمريكية والعديد من الصحف الأخرى، بينما لم تنفها طهران من الأساس وإن كانت لم تؤكدها أيضاً.
وفي كل الأحوال لا يمكن استبعاد التغيير الذي طرأ على البيت الأبيض كسبب رئيسي وراء هذا التواصل المباشر بين الرياض وطهران، والمقصود هنا هزيمة الرئيس السابق دونالد ترامب ومجيء الرئيس الحالي جو بايدن إلى السلطة في واشنطن.
وهذا ما عبرت عنه مجلة Slate الأمريكية في تقرير لها تناول الجدل في أروقة السياسة الأمريكية بشأن اللقاءات السرية بين إيران والسعودية في غياب الولايات المتحدة، ورأت المجلة أن هذا التحوُّل كان مدفوعاً بالاعتراف بأن الولايات المتحدة تبتعد عن الشرق الأوسط.
ونقلت عن أحد كبار مستشاري بايدن، أثناء الانتقال من الانتخاب إلى التنصيب، قوله إن المنطقة ستحتل المرتبة الرابعة في أولويات بايدن، بعد آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا وأمريكا الجنوبية.
وعلى الرغم من حديث ترامب عن الانسحاب من الشرق الأوسط، إلا أنه أبقى قلبه دائماً- وكذلك محفظة دافعي الضرائب الأمريكيين- مفتوحاً للسعودية، أما التغيير الرئيسي، فهو أن بايدن يشدِّد من موقفه تجاه العائلة المالكة السعودية.
وكما صاغ الباحث السويدي إيراني المولد تريتا بارسي، المقيم في الولايات المتحدة، الأمر مؤخَّراً، في مجلة Foreign Policy الأمريكية، فإن "المسألة تتعلَّق بما فعلته أو أوقفته واشنطن- أي طمأنة شركائها الأمنيين في المنطقة بأنها ستستمر في دعمهم دون قيدٍ أو شرط، بغض النظر عن السلوك المتهوِّر الذي ينخرطون فيه".
لأمريكا والمنطقة.. تحول سلبي أم إيجابي؟
وعلى الرغم من أن البعض رأى في إجراء مسؤولين أمنيين من السعودية وإيران محادثاتٍ سرية دون أيِّ تدخُّلٍ أمريكي مؤشراً على تراجع القوة الأمريكية، في ظل تراجع اهتمام إدارة بايدن بالشرق الأوسط والسعي للانسحاب منه، إلا أن واقع الأمر يؤكد أن تلك اللقاءات تمثل نبأً جيِّداً للولايات المتحدة ولآفاق الاستقرار في المنطقة، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
كما قد يمثل هذا التطوُّر أيضاً درساً للسياسة الخارجية الأمريكية على نطاقٍ واسع، فهو إشارةٌ على أن واشنطن ليست بحاجةٍ إلى إشراك نفسها في كلِّ صراعٍ في العالم، وأن دورها الذي تتبجَّح به أحياناً كقوةٍ لحفظ السلام أو وسيط لا يزيد إلا التوتُّرات فقط، وأن من الأفضل أحياناً السماح للقوى المحلية بالعمل على حلِّ مشكلاتها وحدها.
ويبدو أن هذا هو الاستنتاج الذي توصَّلَ إليه بايدن وفريقه، نعم، سيواصل بايدن التشاور مع السعوديين والقوى السنية الأخرى، (وكذلك مع إسرائيل) حيث يحاول هو والقادة الأوروبيون إحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي كان ترامب قد انسحب منه عام 2018.
ولهذه الدول مصلحة في النقطة التي ستقود إليها تلك المفاوضات، وتتلاقى المصالح الأمريكية أو تتطابق في عددٍ من القضايا، ولكن، مثل معظم البلدان بما في ذلك السعودية إلى حدٍّ كبير، يجب على الولايات المتحدة أن تسعى وراء مصالحها وقيمها الخاصة- ويجب أن تتجنَّب وضع تلك المصالح والقيم على المحك في محاولة تسوية النزاعات بين الدول الأخرى، خاصةً أن غالباً ما ينتهي الأمر بتكثيف تلك الخلافات، كما اتَّضح عندما حاول أوباما تهدئة السعوديين بعد إبرام الاتفاق النووي مع إيران.
وبالطبع هناك استثناءاتٌ لهذه القاعدة، إذ يجب أن تمارس الإدارة الأمريكية نفوذها عند التعامل مع حلفاء أقوياء، خاصةً عندما تكون مُلزَمة بموجب المعاهدات بحماية أمنهم.
وعلى سبيل المثال يعتبر التوسُّط في التوتُّرات التاريخية بين كوريا الجنوبية واليابان في مصلحة أمريكا إلى حدٍّ كبير، حيث إن تلك التوتُّرات- بين أقوى دولتين ديمقراطيَّتين في آسيا والمحيط الهادئ- تعرقل صنع السياسات المتماسكة داخل التحالف الإقليمي الأكبر.
وبغض النظر عن الاستثناءات، فهذه ليست دعوة إلى الانعزالية، بل إنها وصفٌ لما يجب أن تكون عليه السياسة المنطقية في عالمٍ مُمَزَّق. إنها سياسةٌ مدفوعةٌ بالمصالح والقيم والالتزامات المهمة حقاً، وليست مدفوعةً بمفاهيم غامضة وعفا عليها الزمن لما قد تمليه الجغرافيا السياسية، بحسب تقرير Slate.
إن السماح للمملكة السعودية وإيران بالوصول إلى بعض أساليب العمل بمفردهما لا يعكس تراجع القوة الأمريكية، ولا يحتمل أن ينظر إليه أيُّ شخصٍ بهذه الطريقة، بل من المُرجَّح أن يُنظَر إلى هذه السياسة على أنها نهايةٌ معقولة لتبديد الموارد الأمريكية.