الإعلان عن الأعداد الحقيقية لضحايا وباء كورونا من إصابات ووفيات يمثل لغزاً في كثير من دول العالم والأسباب متنوعة، لكن ما أقدم عليه شابان عبقريان في الرياضيات في المكسيك قدم حلاً للغموض.
ربما يكون نقص المعلومات المؤكدة أو انتشار المعلومات المتناقضة من أبرز الظواهر التي صاحبت الوباء منذ الإعلان عن ظهوره في الصين أواخر عام 2019 وحتى الآن، سواء كانت المعلومات تتعلق بنشأة فيروس كورونا توقيتاً ومكاناً أو تتعلق بطبيعته وموجاته وتأثيره على المصابين أو حتى لقاحاته.
وفي هذا السياق، كانت قارة إفريقيا على سبيل المثال تمثل لغزاً فيما يتعلق بانخفاض أعداد الإصابات والوفيات مقارنة بباقي القارات، لكن تقريراً نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية مطلع العام الجاري، ألقى الضوء على حقيقة كاشفة تقول إن الغالبية العظمى من دول القارة السمراء لا تقوم بتسجيل معظم الوفيات لديها من الأساس، وهو ما يعني أن الأمر نفسه ينطبق على وفيات كورونا.
غموض وفيات كورونا في مكسيكو سيتي
لكن الأمر لا يقتصر على القارة السمراء على ما يبدو، إذ يلقي تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية الضوء على لغز الغموض الذي أحاط بأعداد وفيات الوباء في العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي.
وسبب الغموض، كما رصدته الصحيفة، هو أنه في المراحل الأولى من انتشار وباء كورونا، تكدست المستشفيات بضحايا الفيروس، ورغم ذلك بدا التعداد الرسمي للوفيات في مكسيكو سيتي منخفضاً على نحو مدهش، وهو ما جعل لوريان ديسبيغيل، المستشارة الاقتصادية وعاشقة الرياضيات، 31 عاماً، تتخذ قراراً بالتحقيق في الأمر من خلال فحص المخططات والرسومات البيانية واحداً تلو الآخر، في محاولة للكشف عن الخسائر الحقيقية للجائحة.
وكتبت ديسبيغيل إلى ماريو روميرو زافالا، مطور البرمجيات وعبقري الرياضيات، 37 عاماً، تقول: "أعتقد أن البيانات موجودة بالفعل". فقد سمعت ديسبيغيل أن شهادات الوفاة موجودة في قواعد بيانات السجل المدني للعاصمة، لكن يصعب الوصول إليها. بعد يوم واحد راسلها روميرو زافالا قائلاً: "سأجعل الأمور تسير بشكل أسرع، أعتقد أننا سنحصل على البيانات بحلول صباح الغد".
وكان ذلك إيذاناً ببدء لعبة القط والفأر بين الثنائي من جهة والحكومة المكسيكية من جهة أخرى، وهي اللعبة التي استمرت قرابة العام تقريباً، فبعد أيام قليلة فقط من محادثتهما اكتشف الثنائي وفاة حوالي 8000 شخص أكثر في عاصمة المكسيك خلال الشهور الخمسة الأولى من عام 2020، مقارنة بالسنوات السابقة. وبحلول فبراير/شباط 2021، وصل التعداد إلى 83,235 حالة وفاة إضافية، أي أكثر من ضعفي إجمالي عدد الوفيات الرسمي الذي أعلنته الحكومة المكسيكية بسبب جائحة كوفيد-19.
لماذا قد تخفي الحكومات وفيات الوباء؟
ولا يختلف ذلك عن بقية أنحاء العالم، حيث يتدافع المواطنون للتحقق واكتشاف الإحصائيات الحقيقية للوفيات الناجمة عن الجائحة، إثر عدم جدية الحكومات في الإعلان عن الأرقام الحقيقية إما بسبب بطء عمليات الإحصاء أو رغبة منهم في عدم الكشف عن الحجم الحقيقي للكارثة، بحسب واشنطن بوست.
ففي المكسيك، لم تكن عملية حساب تعداد الوفيات دقيقة بشكل عام، وكانت الحكومة تكتب تقارير وفاة مفصلة، لكن لا تصدر إلا بعد فترة طويلة جداً، مع إجمالي عدد أقل بكثير للوفيات اليومية المؤكدة بسبب كوفيد-19، وهو ما أدى إلى تصاعد الشكوك بأن الحكومة تحاول إخفاء حجم الكارثة.
وقالت ديسبيغيل في مقابلة مع واشنطن بوست: "أردنا اكتشاف الرقم الحقيقي، وأن يعرف به الجميع". وجاء الدليل الأول من تقرير نشرته إحدى المجموعات المدنية مكسيكيون ضد الفساد والحصانة (Mexicans Against Corruption and Impunity) صدر يوم 18 مايو/أيار من العام الماضي، حيث كشفت تحقيقات المجموعة عن 4577 حالة وفاة مؤكدة أو مشتبهة بسبب كوفيد-19 في مكسيكو سيتي، أي أكثر من التعداد الرسمي بثلاثة أضعاف.
وكان المصدر عبارة عن مجموعة من شهادات الوفاة المسربة، وللتأكد من صحة المستندات قارنوا عينة من شهادات الوفاة المسربة بمثيلتها على موقع السجل المدني، باستخدام خاصية تتيح لهم الحصول على نسخ من شهادات الوفاة.
وفي اليوم التالي، درست ديسبيغيل تقرير المجموعة، وحاولت اكتشاف كيف تمكنوا من الوصول إلى بيانات السجل المدني. واكتشفت أن الأمر بمنتهى البساطة، فقد كتبوا فقط أرقام شهادة الوفاة، وظهرت أمامهم على الموقع الإلكتروني.
حل لغز الوفيات من خلال البحث والرياضيات
وقالت ديسبيغيل لزميلها روميرو زافالا: "المشكلة أنك ستحتاج إلى معلومات عن كل شهادة". لكن لم يوقفه ذلك عن محاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات على الموقع من خلال إدخال أرقام شهادات الوفاة، وبعد ثلاث دقائق أدرك أن شهادات الوفاة صدرت بترتيب تصاعدي من مكاتب السجل المدني في المدينة، والبالغ عددها 52 مكتباً، بدءاً من الرقم 1 في عام 2020. وبذلك أصبح كل ما يحتاج إليه روميرو زافالا هو تحديد الشهادة ذات أعلى رقم في كل مكتب، وجمع كل الأرقام، ليحصل على إجمالي حصيلة الوفيات في مدينة مكسيكو سيتي.
كتب روميرو زافالا، خريج معهد مونتيري للتكنولوجيا والتعليم العالي الشهير في المكسيك، خوارزمية لإنجاز العمل المطلوب بسرعة. تعمل الخوارزمية بمثابة مواطن يبحث عن نسخة من شهادة وفاة، مع تقديم تخمين أدق لأعلى رقم في كل مكتب سجل مدني بشكل متتالٍ.
وبعد خمسة أيام، أرسلا ما توصلا إليه إلى سيباستيان جاريدو، محرر مدونة البيانات في المجلة المكسيكية Nexos. ووجد الثنائي 8072 حالة وفاة إضافية في العاصمة، من يناير/كانون الثاني وحتى 20 مايو/أيار 2020، بينما أعلنت الحكومة عن 1832 حالة وفاة بسبب كوفيد-19 فقط. نشر جاريدو تلك المعلومات في مدونته يوم 25 مايو/أيار، وانتشرت بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الصحافة المكسيكية والدولية.
الغريب أنه عندما عاد روميرو زافالا إلى موقع السجل المدني بعد يومين، وجد أن عملية البحث أصبحت تتطلب إدخال رمز تحقق لحظر استخدام خاصية البحث آلياً، لذا اضطر زافالا وديسبيغيل إلى إكمال عملهم يدوياً، وبحلول 7 يونيو/حزيران، اكتشفا 17,310 حالة وفاة إضافية في المدينة، ووصلت الحصيلة إلى 22,705 حالة وفاة بنهاية الشهر. وبحلول أواخر أغسطس/آب، تجاوز الإجمالي 31,000 حالة وفاة.
كيف تصرفت الحكومة المكسيكية؟
الطرف الآخر في القصة هو خوسيه "بيبي" ميرينو، 46 عاماً، رئيس وكالة البيانات الرقمية الجديدة لمكسيكو سيتي. وكان ميرينو من أبرز المدافعين عن الشفافية، وهو مؤسس مدونة البيانات في مجلة Nexos عام 2016. وفي العام التالي قاد جهوداً جريئة للكشف عن معلومات من قواعد البيانات الحكومية تخص 32,000 شخص مختفٍ، ثم انضم إلى الحركة اليسارية التي يقودها أندريس مانويل لوبيس أوبرادور، الذي فاز بانتخابات الرئاسة المكسيكية عام 2018.
ويشعر ميرينو بالفخر لما قام به في وكالة البيانات؛ منذ بداية الجائحة، كشفت وكالته عن موقع على شبكة الإنترنت يسرد عدد حالات الإصابة بعدوى كوفيد-19 وعدد الفحوصات المخبرية وحالات الشفاء، وقال في مؤتمر صحفي إنها "أول قاعدة بيانات من نوعها في البلاد". لكن الأرقام التي تشير إلى أن العدد الهائل من الوفيات في المدينة تأخرت كثيراً في الظهور، وقال ميرينو: "كان المسؤولون يعملون وفقاً لمنهجية تفصيلية من أجل تحليل العمر والجنس وسبب الوفاة.
في قواعد البيانات، الأمر يختلف عن مجرد سرد المعلومات كما في المدونات". وأخيراً، بعد شهرين من نشر مقال مجلة Nexos، ظهر التقرير الأول للمدينة، وكان إجمالي عدد الوفيات أقل بمقدار 2% فقط عن الأرقام التي اكتشفها روميرو زافالا وديسبيغيل.
وفي شهر أغسطس/آب، نشرت المدينة قاعدة البيانات الكاملة لحالات الوفاة، مع إخفاء هوية أصحابها، وقال ميرينو في مقابلة: "في العادة، ستضطر إلى الانتظار عامين على الأقل حتى تُصدر الحكومة مثل هذه المعلومات".
وبحلول شهر أكتوبر/تشرين الأول، توقف روميرو زافالا وديسبيغيل عن نشر مقالاتهما، إذ لم تعد هناك حاجة لأعمال التقصّي التي تستهلك الكثير من وقتهما، وقد وعدت المدينة بإصدار تحديثات أسبوعية ببيانات الوفيات. وقبل بداية 2021، عاد الثنائي إلى موقع تعداد الوفيات، مع موجة قياسية من الإصابات عصفت بالمدينة. لكنهما فوجئا بعدم تحديث بيانات الموقع لأكثر من شهر، وعدم عمل موقع السجل المدني.
وكتب روميرو زافالا على تويتر لميرينو: "هل يمكنك أن تفسّر لنا سبب عدم عمل الموقع؟". وأجاب ميرينو أن ذلك بسبب الضغط الكبير على الخوادم، وجارٍ إصلاحها. أما بالنسبة للتحديثات الأسبوعية فقال مسؤولو المدينة إن عملية معالجة المعلومات أكثر تعقيداً من أن تُنجز بتلك السرعة، وكتب ميرينو على تويتر: "لن نخفي أو نعدّل أي معلومات أبداً".
وفي ورقة أكاديمية نُشرت في شهر مارس/آذار، أكد كبار العلماء الحكوميين أن معدلات الوفيات في المكسيك ظلت مرتفعة لعدة أشهر، مقارنةً بالدول الأخرى. وأرجعت السلطات ارتفاع معدل الوفيات إلى الكثافة السكانية العالية في منطقة العاصمة وانتشار الأمراض المصاحبة مثل السكري وأمراض القلب واحتياج الفقراء إلى الخروج للعمل، وأشار النقاد إلى نقص عدد الفحوصات المخبرية والدعم المالي الذي يسمح للأفراد بالبقاء في منازلهم.