معزولون ومنبوذون.. كيف تسببت استقلالية يهود “الحريديم” المتطرفين في وقوع أسوأ الكوارث بإسرائيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/04 الساعة 10:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/04 الساعة 10:21 بتوقيت غرينتش
رجال من يهود الحريديم خلال حضور جنازات من قتلوا بتدافع جبل الجرمق شمال إسرائيل/ رويترز

يعيش اليهود المتطرفون أو مَن يطلق عليهم الحريديم في إسرائيل في عالمهم الخاص المنعزل عن العالم الخارجي، فهم مواطنون إسرائيليون لكن ولاءهم واهتمامهم وطاعتهم للرب ولحاخاماتهم. وهم، في عالمهم المعزول، مُعفون من التجنيد العسكري ولا يلتحقون بنظام التعليم العام، وهم -في مساكنهم التي تخلو عادة من الإنترنت أو التلفزيون- غافلون إلى حد كبير عن الثقافة المحيطة بهم.

والآن، تتساءل إسرائيل "المصعوقة" إن كان هذا الانعزال الغريب -والساسة العلمانيون الذين دعموه لعقود- يتحملون مسؤولية إحدى أسوأ الكوارث في تاريخ إسرائيل، والتي نتج عنها موت 45 رجلاً من اليهود الحريديم في مهرجان ديني مزدحم شمال البلاد، في الساعات الأولى من يوم الجمعة، 30 أبريل/نيسان.

بداية.. من هم اليهود الحريديم؟

يعتبر الحريديم جماعة من اليهود المتدينين، ويعتبرون كالأصوليين، حيث يطبقون الطقوس الدينية، ويعيشون حياتهم اليومية وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية، ويحاولون تطبيق التوراة في إسرائيل، واسم حريديم جمع لكلمة حريدي، وتعني التقي، ويرتدون أزياء يهود شرق أوروبا، وهي المعطف الطويل الأسود والقبعة السوداء، ويرسلون ذقونهم لصدورهم، وتتدلى على آذانهم خصلات من الشعر المقصوع، وأحياناً ترتدي النساء البرقع الذي يشبه النقاب إلى حدٍّ بعيد.

لا يتحدث الحريديم العبرية قدر استطاعتهم، باعتبارها لغة مقدَّسة، ويفضلون التحدث بلغة الإيديش، وهي لغة يهود أوروبا التي نمت خلال القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين من لغات عدة منها الآرامية والألمانية والإيطالية والفرنسية والعبرية.

وتتميَّز عائلات الحريديم بزيادة عددها، فهم لا يحددون النسل، وأعدادهم تتزايد، ونسبتهم في إسرائيل تقترب من 10%، ويصل عدد ولاداتهم السنوية 35 ألفاً بما يشكل 25% من مجموع ولادات إسرائيل، ويتزوج فيها سنوياً 5 آلاف زوج حريدي، ينجب أحدهم 7-9 ولادات، ينتج عنها زيادة كبيرة في أعدادهم.

ما أسباب انعزالهم عن المجتمع الإسرائيلي؟

يتبنى الحريديم التفاسير الأكثر غلواً وتطرفاً في التراث الديني اليهودي، والتشدد في أداء العبادات والطقوس، بما يدفعهم للانعزال عن اليهود الآخرين في إسرائيل، لذلك يفترضون أن "على غيرهم من اليهود الاحتذاء بهم، لأنهم يلتزمون بتعاليم الكتاب المقدس، وينتظرون مجيء المسيح اليهودي المنتظر ليخلصهم من متاعب الحياة، ويقيم لهم مملكة الرب على الأرض التي ستتحد مع مملكة السماء".

معظم الذكور في المجتمع الحريدي يبقون في المدارس الدينية حتى سن الأربعين، ولا يشاركون في القوى العاملة بالمجتمع الإسرائيلي، ما يفسّر عيشهم في ظروف سيئة، وفقر كبير، واعتمادهم على دعم الدولة، وبناء على الأفكار الحريدية يطلب من اليهودي الانسحاب من النشاطات العامة والتفرغ للدراسات الروحية، ويعتبرون الانخراط في الجيش وممارسة النشاطات الاقتصادية والرياضة والموسيقى والتلفاز خطيئة.

وتفضل الأغلبية الساحقة من اليهود الحريديم عدم الخدمة في الجيش الإسرائيلي، ورغم أن إسرائيل توافق على إعفائهم من الخدمة العسكرية فإن ذلك يثير الجدل في المجتمع الإسرائيلي، وفي النهاية تم إنشاء كتيبة في الجيش مخصصة للمتدينين الراغبين في الخدمة العسكرية، ويمثل الحريديم عدة أحزاب بناء على أصولهم الإثنية، فالأشكناز تمثلهم كتلة يهودات هتوراه، والشرقيون يمثلهم حزب شاس.

كيف تسبب انعزالهم الحريديم بأسوأ كوارث إسرائيل؟

بالعودة إلى حادث التدافع المميت بجبل الجرمق شمال البلاد، بدأت يوم الأحد 2 مايو/أيار -بعد دفن آخر جثث الضحايا وتنكيس الأعلام على مستوى البلاد وإعلانه يوم حداد وطني- عدة تحقيقات في إسرائيل حول ترتيبات الشرطة والجهات التنظيمية المحلية ومديري المواقع والوزارات المسؤولة عن الرقابة، للحفل الديني ليهود الحريديم الذي انتهى بكارثة.

وبحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية، كان صحفيون إسرائيليون قد كشفوا بالفعل عن أدلة تثبت تجاهل الحريديم التحذيرات ورفض التوصيات وغياب الإشراف الرسمي من الدولة. ويخضع مسؤولون للتحقيق عن اجتماعات انعقدت في الأسابيع الأخيرة أُلغيت فيها بعض التوصيات من سلطات الصحة والسلامة بناءً على طلب مجموعات الحريديم التي صممت على إقامة الاحتفال الديني الذي ألغي العام الماضي مع انتشار جائحة فيروس كورونا.

ومن بين أولئك المعرضين للمساءلة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي أصبح في السنوات الأخيرة معتمداً على الأحزاب السياسية الدينية المتشددة للحفاظ على ائتلافه الحاكم، ووزير الأمن الداخلي أمير أوحانا والمدير العام للأماكن المقدسة يوسي شوينغر.

وطالب أعضاء في البرلمان بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في دور الحكومة، لكن وراء هذه التحقيقات ساد شعور بأن احتمال وقوع هذه المأساة كان سيكون أقل بكثير في بيئة أكثر التزاماً بالقيود الحكومية العادية.

ويقول يورام بيلو، أستاذ الأنثروبولوجيا وعلم النفس في الجامعة العبرية لواشنطن بوست: "هذا جزء من حقيقة أن الحريديم يتمتعون باستقلالهم، الذي لم يكن ليحدث دون موارد الدولة وامتثالها. انظروا إلى ما يحدث في مهرجانات موسيقى الروك الإسرائيلية. تفرض الشرطة والسلطات قيوداً أكثر صرامة بكثير".

"الحريديم لا يريدون خسارة حكمهم الذاتي"

ويقول بعض قادة الحريديم إن الوقت قد حان لإعادة تقييم علاقة الطوائف اليهودية المتشددة -التي أصبحت تشكل حوالي 13% من سكان إسرائيل- مع الدولة المحيطة بهم.

يقول الحاخام يهوشوا بفيفر، المسؤول السابق في مكتب الحاخام الرئيسي لإسرائيل ورئيس برامج الحريديم في منظمة Tikvah Fund: "الحريديم لا يريدون خسارة حكمهم الذاتي، لكن تنامي أعدادهم يعني أن يصبحوا أكثر انخراطاً واندماجاً، وأن يُمنحوا استقلالية بدرجة معينة. وهو ما لا يتقبله مجتمع الحريديم".

وهذا الوضع "الانعزالي وغير الانعزالي" للحريديم مثار جدل دائم في إسرائيل. فلعقود من الزمان منحت الحكومات من مختلف الأطياف السياسية الحرية الكاملة لهذه الطائفة، مقابل دعم قادتها في البرلمان، ودعمت أسلوب الحياة الذي يعطي الأولوية لدراسة التوراة على حساب التوظيف في القطاع التجاري. ورغم تزايد أعداد الحريديم الذين يشغلون وظائف في المجالات العلمانية التجارية -ومنهم نساء حريديم يعملن في قطاع التكنولوجيا- فما زالت نسبتهم محدودة في القوى العاملة. والحريديم من بين أكثر المستفيدين من الرعاية العامة في البلاد.

يقول بيلو، عالم الأنثروبولوجيا، إن قدرتهم على التفاوض على دعم الحكومة والاستقلال عنها نتج عنها "عصر ذهبي" بالنسبة لهم، مضيفاً: "لقد تكيفوا بشكل جيد. وظاهرة امتناع الرجال الحريديم عن العمل كانت ستكون مستحيلة دون دعم الدولة".

معزولون ومنبوذون.. الشعور بالاستياء من الحريديم يتصاعد بين الإسرائيليين

يُشار إلى أن الشعور بالاستياء من الحريديم يتنامى بين الإسرائيليين الآخرين. إذ تُظهر استطلاعات الرأي أن كثيرين ينظرون إلى هذه الطائفة على أنها منعزلة ومتحيزة جنسياً، بل ومعادية للوطنية، إذ يرفض بعض الحريديم، الذين يعتبرون المشروع الصهيوني لوطن لليهود مخالفاً لإرادة الله، المشاركة في الاحتفالات الوطنية، مثل الوقوف عند إطلاق الصفارات في يوم ذكرى إسرائيل. 

ونقلت صحيفة "ذي تايمز أوف إسرائيل" عن الجيش الإسرائيلي قوله، يوم السبت، إنه يحقق في تقارير تفيد بأن بعض أفراد الحريديم في جبل ميرون هاجموا جسدياً ولفظياً مجندات هرعن للمساعدة في جهود الإنقاذ.

ولم يُعرف عن أي سياسي في السنوات الأخيرة خضوعه لهذه الطائفة أكثر من نتنياهو، الذي يجاهد لتشكيل حكومة جديدة بدعم من أحزاب الحريديم. وقد بدأ الجمود السياسي في إسرائيل منذ عامين جزئياً، بعد انقسام ائتلافه بسبب محاولات إلغاء إعفاء الحريديم من التجنيد العسكري، الذي منعه نتنياهو.

ومؤخراً، واجه رئيس الوزراء انتقادات لعدم تطبيقه قيود الجائحة في أحياء اليهود المتشددين، التي كانت من بين أكثر المناطق رفضاً لقيود التجمعات وشهدت بعض أعلى معدلات الإصابة، حيث خاض الحريديم مواجهات عنيفة مع الشرطة الإسرائيلية رافضين ارتداء الأقنعة الواقية من فيروس كورونا العام الماضي، وعدم التجمع في الاحتفالات الدينية التي نشرت الوباء بينهم بشكل سريع.

ويرى كثيرون أن الإحجام عن تحديد حجم المشاركين في مهرجان جبل ميرون، وهو أكبر تجمع في البلاد منذ بدأ رفع قيود فيروس كورونا، مثالاً آخر على هذا الإهمال والتساهل.

وتقول صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، إنه في مطلع أبريل/نيسان، قال نتنياهو لممثلين عن حزب يهدوت هتوراة، الحزب السياسي اليهودي المتشدد الذي دعا إلى رفع القيود بالكامل عن المهرجان، إنه لن يحدد أعداد المشاركين في تجمع هذا العام، وفقاً لروايات تناقلتها وسائل إعلام.

وقال مسؤول كبير في الشرطة، تحدث للصحيفة ذاتها شريطة عدم الكشف عن هويته، إنه بغض النظر عن إخفاقات الشرطة التي قد تكشف التحقيقات عنها، فغياب الرقابة يمكن إرجاعه إلى مستويات أعلى في الحكومة.

ونُقل عن المسؤول قوله: "على مدى سنوات انعقدت هذه المهرجانات بحضور مئات الآلاف في ميرون، ولم تُتخذ أي إجراءات. ولم يحاول أي صانع قرار حتى تمرير مشروع قانون أو اتخاذ إجراء يلزم منظمي هذه المهرجانات باستخراج تصريح من الشرطة، ولم يتخذ أحد أي إجراء للحد من أعداد المشاركين أو عدد الأشخاص المسموح لهم بالمشاركة".

تحميل المزيد