بدأ ينجلي الغبار على دور شركة فاغنر الروسية في دعم المتمردين التشاديين، الذين زحفوا من ليبيا وسيطروا على شمالي تشاد قبل أن يتم إيقاف تقدمهم على بُعد 300 كلم من العاصمة إنجامينا، لكن بأي ثمن.
فالرئيس التشادي إدريس ديبي إتنو، الذي حكم البلاد طيلة 31 عاماً، فقد حياته في معارك بمنطقة كانم، المحافظة الحدودية مع النيجر، والواقعة شمال إنجامينا، في ظروف غامضة وملتبسة.
فعادة ما تكون هجمات المتمردين التشاديين من فصائل وزعامات مختلفة، خاطفة ومفاجئة، لكن يتم سحقها، بدعم فرنسي، خلال يوم أو يومين، غير أن متمردي جبهة الوفاق والتغيير بقيادة محمد مهدي علي، حققوا انتصارات متتالية ومذهلة في شمال البلاد، ولم تتمكن الغارات الجوية من إيقاف تقدمهم السريع إلا بعد 9 أيام من المعارك.
إذ إن تسليح متمردي جبهة التغيير والوفاق، أصبح أفضل، بدليل تمكنهم من إسقاط 3 مروحيات عسكرية للجيش الحكومي، بمنظومات دفاع جوي، على حد زعمهم، وأيضاً ادعائهم امتلاك طائرات بدون طيار (على الأغلب للاستطلاع فقط وليست هجومية).
وقدرتهم على التخطيط والمناورة فيها لمسة احترافية، تجلى ذلك عندما كان من المنتظر أن يهجموا على مدينة فايا (وسط) كبرى مدن الشمال، بعد استيلائهم على منطقة تيبستي (شمال غرب)، إلا أنهم غيروا مسارهم بشكل مفاجئ واتجهوا غرباً نحو كانم، قرب الحدود مع النيجر، وهي أقصر طريق نحو إنجامينا، وأخطرها، ولا تفصلها عنها سوى منطقة بحيرة تشاد، التي تنشط بها جماعة بوكو حرام.
وقتلُ المتمردين للرئيس ديبي، إذ صحَّ ذلك، يكشف عن جهة ما أكثر احترافية يمكن أن تكون تدخلت في هذه العملية المعقدة.
وهذا ما دفع عدة أطراف للتساؤل عن دور محتمل لشركة فاغنر في دعم المتمردين التشاديين بهدف إسقاط نظام ديبي، الذي يوصف بأنه "دركي فرنسا" في الساحل الإفريقي.
السفير الأمريكي يتهم فاغنر
أول شخص مسؤول اتهم صراحة فاغنر بدعم هجوم المتمردين التشاديين، كان السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند.
ويقول نورلاند، في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط اللندنية: "مجموعة فاغنر كان لديها أشخاص شاركوا في الهجوم داخل تشاد، وكانوا يرافقون قافلة المهاجمين من جماعة جبهة التغيير والوفاق داخل شمال تشاد".
ويؤكد أن "عدداً من المرتزقة التشاديين الذين تم جلبهم للمساعدة في القتال إلى جانب (زعيم قوات الشرق الليبي خليفة) حفتر، كانوا بالتأكيد جزءاً من المجموعة التي شنت الهجوم في تشاد".
كما عززت السفارة الأمريكية لدى ليبيا اتهاماتها لفاغنر بمساعدة المتمردين التشاديين، بتصريحات رئيس مؤتمر التبو عيسى عبدالمجيد منصور، خلال لقائه السفير نورلاند بتونس، في 20 أبريل/نيسان 2021، في نفس اليوم الذي أعلن فيه مقتل الرئيس التشادي.
وعبَّر زعيم التبو، حينها، عن قلقه من جهود "بعض العناصرالليبية الداخلية، وكذلك القوى الخارجية، مثل فاغنر، لدعم العمليات العسكرية ضد تشاد من الأراضي الليبية".
وهذه المرة الأولى التي يتم فيها الإعلان عن مشاركة ليبيين (من التبو على الأغلب) ومرتزقة فاغنر في القتال إلى جانب متمردي جبهة التغيير والوفاق في شمال تشاد.
وتعتبر قبائل القرعان، التي ينحدر منها المتمردون التشاديون، فرعاً لقبائل التبو المنتشرين في جنوب ليبيا وتشاد، ويَسنُد الطرفان بعضهما البعض في أي نزاعات قبلية أو سياسية في البلدين، على غرار المواجهات المسلحة بين التبو في ليبيا وقبائل من الطوارق والعرب.
إذ ساهمت هشاشة الوضع الأمني في ليبيا من تسهيل حركة المتمردين والأسلحة على الحدود مع تشاد، ناهيك عن التهريب والمخدرات والهجرة غير الشرعية.
ما مصلحة فاغنر في دعم المتمردين التشاديين؟
رغم أن الرئيس الراحل إدريس ديبي، كان أحد حلفاء فرنسا الرئيسيين في وسط إفريقيا طيلة أكثر من 3 عقود، إلا أنه كان قادراً على إزعاجها بل وعدم الخضوع لجميع طلباتها.
وحاول ديبي التقرب من روسيا في السنوات الأخيرة، بالنظر إلى اعتقاده أنه لا يحظى بدعم كافٍ من باريس، في ظل أزمات اقتصادية وأمنية ضربت بلاده خاصة مع تراجع أسعار النفط.
ووافق ذلك استراتيجية روسيا الساعية لمد نفوذها في كامل القارة الإفريقية، التي تمكنت منذ 2018، من بسط نفوذها في جمهورية إفريقيا الوسطى، الجارة الجنوبية لتشاد، بعد إنهاء فرنسا مهمتها العسكرية بالبلاد في 2016، إثر فشلها في إنهاء الحرب الأهلية.
تواجد روسيا العسكري عبر شركة فاغنر في كل من جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا والسودان، التي تحيط بتشاد، عزز رغبة روسيا في التوغل بمنطقة الساحل عبر البوابة الشرقية للمنطقة (تشاد) ومركز قيادة عملية برخان الفرنسية.
وبدأ هذا التوغل الروسي عبر ملف التعاون الاقتصادي والاستثمارات، ففي مارس/آذار 2018، أعلن وفد من رجال الأعمال الروس من إنجامينا، عن استثمارات بقيمة 7.5 مليار يورو، تتضمن تشييد مطار دولي، ومصفاة نفط، ومحطة طاقة تعمل بالطاقة الشمسية، وإعادة بناء نظام الإمداد بالطاقة.
وتعززت العلاقات بين روسيا وتشاد، بعد زيارة إدريس ديبي، إلى مدينة سوتشي في أكتوبر/تشرين الأول 2019، لحضور القمة الروسية الإفريقية الأولى.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بدأت تشاد وروسيا مناقشات حول اتفاقية تعاون قضائي من أجل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين وتنويعها.
بالمقابل، تعرضت العلاقات التشادية الفرنسية إلى أزمة صامتة بعد رفض ديبي إرسال 1200 جندي من قواته إلى منطقة الحدود الثلاثة بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، احتجاجاً على عدم تقديم باريس وحلفائها الدعم المالي والعسكري لإنجامينا في مواجهة جماعة بوكوحرام، التي غزت أجزاء من منطقة بحيرة تشاد وقتلت العشرات من الجنود في مارس/آذار 2020، قبل أن يستعيد الجيش التشادي المبادرة بعد شهر.
لكن فرنسا، التي تتواجد عسكرياً في تشاد منذ 1986، عرفت كيف تستعيد ديبي إلى صفها مجدداً، بعد وعود بتقديم مساعدات وقروض لإنجامينا، بينها قرض بـ 560 مليون دولار من صندوق النقد الدولي، تم الاتفاق عليه في يناير/كانون الثاني 2021.
وساهم ذلك في قرار إنجامينا في فبراير/شباط 2021 إرسال 1200 من قواتها إلى منطقة الحدود الثلاثة الملتهبة، التي ينشط فيها تنظيم داعش في الصحراء الكبرى بكثافة.
بالمقابل، توترت العلاقات بين موسكو وإنجامينا بسرعة، بعد أن أدلى السفير الروسي لدى جمهورية إفريقيا الوسطى فلاديمير تيتورينكو، في مؤتمر صحفي عُقد في 29 آذار/مارس 2021 في بانغي، بتصريحات أغضبت السلطات التشادية.
حيث ذكر موقع "تشاد أنفو" أن السفير الروسي قال: "ولسوء الحظ، فإن حكومة تشاد غير قادرة أو ربما لا تريد مساعدة حكومة إفريقيا الوسطى على تأمين المنطقة الحدودية التي يوجد فيها العديد من المرتزقة على جانبها، حيث توجد الطرق التي تمر عبرها الأسلحة والناس لتضخيم صفوف المقاتلين المتمردين".
وردت الخارجية التشادية في بيان، في 3 أبريل 2021، عبَّرت فيه عن "دهشتها" من تصريحات السفير الروسي، وأعربت عن أسفها "لتجاوز السفير صلاحياته كدبلوماسي معتمد لدى جمهورية إفريقيا الوسطى، وأنه أعطى الحق لنفسه لإدارة العلاقات" بين إنجامينا وبانغي.
لكن هذا السجال لم يتوقف عند هذا الحد، إذ فندت السفارة الروسية في 6 أبريل/نيسان، ما نقل عن سفيرها في المؤتمر الصحفي.
ويتهم تقرير للأمم المتحدة تشاد بدعم متمردي تحالف "سليكا"، الذي أطاح بنظام فرانسوا بوزيزي، في مارس/آذار 2013، وقال إن "هناك ما يكفي من الأدلة للاعتقاد بأن (الرئيس السابق) دجوتوديا وسيليكا، تلقيا دعماً مالياً وعسكرياً من حكومة تشاد" لقلب نظام بوزيزيه.
ويوضح التقرير الصادر في 2014، "شوهد ضباط تشاديون في بانغي بعد استيلاء سيليكا على الحكم ضمن صفوفها.. وبعد سقوطها تحت ضغط دولي في يناير/كانون الثاني 2014، "اندمج هؤلاء الضباط مجدداً في الجيش التشادي" وأصبحوا أعضاء في القوة الإفريقية ببانغي.
وتأتي اتهامات السفير الروسي لدى بانغي لتشاد بالتساهل مع المتمردين والمرتزقة على الحدود، في الوقت الذي تدعم فيه موسكو حكومة الرئيس "فوستان آرشانج تواديرا"، بـ520 مستشاراً عسكرياً، ونحو ألف عنصر من فاغنر، بالإضافة إلى أسلحة وآليات عسكرية.
والمفارقة أن هذه الأزمة الدبلوماسية بين إنجامينا وموسكو تلاها بعد بضعة أيام هجوم متمردي جبهة التغيير والوفاق على شمالي تشاد، حاملين معهم معدات روسية بشكل جزئي، بحسب مجلة "جون أفريك" الفرنسية، ويرافقهم مجموعة من فاغنر، بحسب السفير الأمريكي لدى طرابلس وزعيم تبو ليبيا.
ليبيا قاعدة خلفية للمتمردين التشاديين
جبهة التغيير والوفاق، بقيادة محمد مهدي علي، تعد أكبر قوة بين الحركات الأربع المشكّلة لجبهة التناوب والوفاق، التي هاجمت شمالي تشاد في 11 أبريل/نيسان 2021.
وهذه الحركة المنشقة عن جماعة تشادية متمردة أخرى تدعى "اتحاد قوى الديمقراطية والتنمية"، زعمت أنها تضم 1500 مقاتل عند تأسيسها في 2016، وفي أحد بياناتها الأخيرة، ذكرت أنها تضم آلاف المقاتلين، بينما قال تقرير لخبراء أمميين إن عدد أفرادها لا يتجاوز 700 عنصر.
في حين ذكرت وسائل إعلام عن شهود عيان أن الرتل الذي دخل تشاد من ليبيا كان يضم 100 سيارة مسلحة تحمل معها نحو 500 عنصر.
بينما ذكر الجيش التشادي أنه قتل 300 متمرد وأسر 150 منهم في معركة كانم، التي وقعت في 17 أبريل/نيسان، ليصل عدد أسرى المتمردين ما بين 11 و19 أبريل، إلى 246، من ضمنهم 11 قاصراً و4 قادة، ما يؤكد أن عدد المتمردين يفوق 550 عنصراً.
وتمركزت جبهة التغيير والوفاق، في بداية تأسيسها بمحافظة الجفرة، وسط ليبيا، والتي توجد بها قاعدة جوية استراتيجية، تحمل نفس الاسم، والخاضعة منذ 2017 لقوات حفتر، وكانت بمثابة قاعدة إمداد عسكري لتموين قواته التي حاولت اقتحام طرابلس (2019-2020).
وقاتل متمردو جبهة التغيير والوفاق كمرتزقة إلى جانب قوات حفتر، لكنهم وضعوا دوماً نصب أعينهم العودة إلى تشاد لإسقاط نظام إدريس ديبي، واستغلوا الحرب الفوضوية في ليبيا لتكديس الأسلحة والمال والخبرة في ميدان المعركة، حيث عرفوا بشراستهم في القتال.
ويقول تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إن متمردي جبهة التغيير والوفاق "قاتلوا بأسلحة قدمتها الإمارات العربية المتحدة، أحد الرعاة الأجانب الرئيسيين لحفتر".
وتواجدهم بقاعدة الجفرة الجوية التي يتمركز بها مرتزقة فاغنر، من شأنه أن يكون ساعدهم في التدرب على أساليب قتال جديدة واستعمال أسلحة حديثة، وهو ما أكده السفير الأمريكي نورلاند.
وهذا ما يفسر تمكن المتمردين من إسقاط 3 مروحيات عسكرية للجيش الحكومي، وقتل الرئيس ديبي، والتوغل مئات الكيلومترات في عمق الأراضي التشادية.
ففاغنر لم تكتفِ بالتموقع في قاعدتي القرضابية بـ(سرت) والجفرة (وسط)، بل امتدت تحركاتها إلى غاية قاعدتي براك الشاطئ وتمنهنت في أقصى الجنوب الغربي الليبي، بالقرب من مثلث الحدود الليبية التشادية والنيجرية.
إذ تسعى فاغنر للتمدد في وسط إفريقيا، واستغلال حركات التمرد التشادية والسودانية في ليبيا كأوراق ضغط لتحريكها وفق مصالحها وحسب طبيعة علاقاتها مع حكومات هذه الدول، ما يحول المرتزقة الأجانب في ليبيا إلى خطر عابر للحدود.