نشرت صحيفة New York Times الأمريكية تقريراً تناولت فيه نظرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبلاده في تعاملها مع الغرب، في ظل تصاعد التوتر خلال الآونة الأخيرة بين موسكو من جهة، وواشنطن والعواصم الأوروبية من جهة أخرى.
"روسيا في صعود بينما الغرب في حالة من الفوضى"
تقول الصحيفة إن العالم كما يراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبدو كالتالي: روسيا في صعود بينما الغرب في حالة من الفوضى. ويسعى الغرب، مدفوعاً برئيسٍ أمريكي جديد أكثر معاداة لروسيا من سلفه، إلى تدمير روسيا وتدمير بوتين نفسه، وقد حان الوقت لردِّ روسيا.
قال بوتين، الشهر الماضي، مارس/آذار، منتقداً الولايات المتحدة: "قد يظنون أننا مثلهم، لكننا مختلفون، ولدينا شفرة جينية وثقافية وأخلاقية مختلفة، نحن نعرف كيف ندافع عن مصالحنا".
في الوقت الذي كان يحشد فيه بوتين القوات بالقرب من أوكرانيا، الأسبوع الماضي، ويقمع المعارضة المحلية وينخرط في صراعٍ سريع التكثيف مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، فإن بوتين على وشكِ اتِّخاذ قراراتٍ يمكن أن تحدِّد مرحلةً جديدةً أكثر تشدُّداً من رئاسته. واليوم الأربعاء، 21 أبريل/نيسان، ألقى بوتين خطابه السنوي عن حالة الأمة، وهو خطابٌ يلقي الضوء على مدى استعداده لتصعيد التوتُّرات مع الغرب.
وقال بوتين في خطابه إن "روسيا سترد بحزم على أي استفزازات تهدد أمنها"، محذراً من أن بلاده "لن تسمح لأحد بتجاوز الخطوط الحمر"، بحسب تعبيره.
كما كشف بوتين في خطابه عن خطط لتحديث القدرات النووية الروسية بنسبة تتجاوز 88% بنهاية العام الحالي. حديث بوتين يأتي مع تحذير موسكو لأوكرانيا وحلف الناتو بـ"الامتناع عن اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى التصعيد في دونباس"، كما يتزامن أيضاً مع إعلان الخارجية الروسية 10 من موظفي السفارة الأمريكية في موسكو أشخاصاً غير مرغوب فيهم، وأمهلتهم شهراً لمغادرة روسيا.
ويبدو بوتين الآن، وهو في عقده الثالث في السلطة، ويبلغ من العمر 68 عاماً، مقتنعاً أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بدوره الخاص والتاريخي "كأبٍ لأمةٍ روسية وُلِدَت من جديد، يقاتل في الداخل والخارج ضد الغرب الجبان والمنافق والمتحلِّل أخلاقياً".
بوتين والشعور بالتفوق الروسي على أوروبا
وتقول تاتيانا ستانوفيا، المحلِّلة الروسية التي أخذت تدرس بوتين لسنوات: "هذا الشعور بالتفوُّق الممزوج بالغطرسة يمنحه شعوراً بالقوة، وهذا أمرٌ خطير. عندما تعتقد أنك أقوى وأكثر حكمةً من أيِّ شخصٍ آخر حولك فأنت تعتقد أن لديك تفويضاً تاريخياً للقيام بعملٍ أوسع نطاقاً".
اتَّخَذَ بوتين خطواتٍ في الأسابيع الأخيرة تشير إلى تصعيدٍ في صراعه مع أولئك الذين يعتبرهم أعداءً له في الداخل والخارج. رفع المُدَّعون العامون الروس دعوى قضائية الأسبوع الماضي لحظر حركة زعيم المعارضة أليكسي نافالني، وهي خطوةٌ يمكن أن تؤدِّي إلى أشد موجةٍ من القمع السياسي في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي. وفي جنوب غربي روسيا، حشد بوتين حوالي 100 ألف جندي، وهي قوةٌ أشار الكرملين أنها يمكن أن تستعد للانتقال إلى أوكرانيا المجاورة.
ودعا معارضو بوتين إلى احتجاجاتٍ في جميع أنحاء البلاد، الأربعاء، دعماً لنافالني، الذي يقول حلفاؤه إنه مُضرِبٌ عن الطعام ويقترب من الموت في سجنٍ روسي. حيث ستُفرَّق المظاهرات بالقوة من قِبَلِ الشرطة.
الحرب الدبلوماسية بين موسكو والغرب
أما بالنسبة لمنتقدي بوتين وكثير من العالم الخارجي فتبدو تصرُّفات بوتين الأخيرة وكأنها من مظاهر جنون العظمة، لكن بالنسبة لمؤيِّديه والمُحلِّلين الذين يتابعونه عن كثب فإن تحرُّكاته لها منطق داخلي مُحدَّد، يدور حول الاقتناع بأن الغرب يسعى إلى إضعاف روسيا، وأن بوتين جزءٌ لا يتجزَّأ من قوتها.
ويقول مُحلِّلون إن انتخاب بايدن، رغم وعده بأن يكون قاسياً مع روسيا، مَنَحَ الأمل للكرملين في البداية. كان يُنظَر إليه على أنه أكثر احترافاً وموثوقية وواقعية من سابقه دونالد ترامب، مع نظرةٍ عالمية شكَّلتها حقبة الحرب الباردة مع الدبلوماسية التي انخرطت فيها واشنطن وموسكو كقوتين عظميين متساويتين في مسؤولية الأمن العالمي. وفي أول مكالمةٍ هاتفية بينهما في يناير/كانون الثاني، وافق بايدن وبوتين على تمديد معاهدة البداية الجديدة للحدِّ من الأسلحة، وهو هدف السياسة الخارجية الروسية الذي فشل الكرملين في تحقيقه في ظلِّ ترامب.
ثم جاءت المقابلة التلفزيونية في مارس/آذار، والتي وافق فيها بايدن عندما سُئِلَ عمَّا إذا كان بوتين "قاتلاً". وبعد شهر تبدو تلك اللحظة -التي ردَّ عليها المسؤولون والمُعلِّقون الروس بضجة من الغضب المعادي للولايات المتحدة- كنقطة تحوُّل. تبع ذلك سلسلةٌ من العقوبات الأمريكية ضد روسيا، الأسبوع الماضي، بالإضافة إلى دعوة بايدن لعقد اجتماع قمة مع بوتين، والذي بدا بالنسبة للكثير من الروس محاولةً أمريكية فجَّة للتفاوض من موقع قوة.
وقال ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي موسكو للأبحاث: "يُنظَر إلى هذا على أنه وضعٌ غير مقبول، لن تطاردنا من خلال فرض العقوبات".
وكانت روسيا قد عزَّزَت قواتها بالقرب من الحدود الأوكرانية، مُدَّعيةً أنها كانت تردُّ على النشاط العسكري المتزايد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وكييف، قبل أن تبدأ بسحب جزء من قواتها يوم الجمعة.
بوتين وأزمة نافالني
وزاد من الضغط على نافالني، الذي يعتبره الكرملين عميلاً للنفوذ الأمريكي، وبلغ ذروته في الدعوى القضائية، الأسبوع الماضي، من قِبَلِ المُدَّعين لإعلان حركته "متطرِّفة" وغير قانونية. ويعد تصنيف حركة نافالني باعتبارها تنظيماً متطرِّفاً، والذي ستنظر فيه محكمةٌ في موسكو في محاكمةٍ سريةٍ الأسبوع المقبل، من شأنه أن يجبر فعلياً أقوى حركة معارضة في روسيا على العمل السري، وقد يؤدِّي إلى أحكامٍ بالسجن لفترات تمتد لسنوات على النشطاء المؤيِّدين لنافالني.
في أثناء ذلك لا يزال نافالني مضرباً عن الطعام في مستشفى سجن روسي، ويصرُّ على السماح بمعاينة أطباء من اختياره له. وذكر المحامي الذي زاره، فاديم كوبزيف، يوم الثلاثاء الماضي، أن ذراعيّ نافالني ثُقِبا وأُصيبَا بكدماتٍ بعد أن حاولت ثلاث ممرضات وفشلت ثلاث مرات في توصيل المحاليل بالتنقيط في ذراعه.
وورد في رسالةٍ من نافالني نشرها فريقه على وسائل التواصل الاجتماعي: "إذا رأيتموني الآن فسوف تضحكون. هيكل عظمي يمشي ويتمايل في زنزانته".
وحذَّر البيت الأبيض الحكومة الروسية من أنها "ستُحاسَب" إذا مات نافالني في السجن. ويرفض المسؤولون الغربيون وأنصار نافالني وحلفاؤه فكرة أن زعيم المعارضة يتصرَّف نيابةً عن دولةٍ أخرى.
ولكن في منطق الكرملين، يمثِّل نافالني تهديداً للدولة الروسية، حيث يقوم بما يطلبه الغرب من خلال تقويض بوتين. وقال ترينين إن بوتين هو الذي يحافظ على استقرار روسيا، من خلال الحفاظ على التوازن بين الفصائل المتنافسة في النخبة الحاكمة الروسية.
وقال ترينين: "إذا غادر بوتين ستندلع معركةٌ بين مجموعاتٍ متنوِّعة، وسوف تنغلق روسيا على نفسها، ولن يكون لديها الوقت لبقية العالم، ولن تقف في طريق أحد. الغرب بالطبع يستخدم نافالني، وسيستخدمه لخلق مشكلات لبوتين".