الرسالة التي وجهتها إثيوبيا إلى مجلس الأمن الدولي، طالبةً الضغط على مصر والسودان للعودة إلى مفاوضات سد النهضة، تمثل في حد ذاتها سابقة من الجانب الإثيوبي، فماذا وراء هذا التحرك؟
وقبل التوقف عند الرسالة الإثيوبية وما جاء فيها، من المهم التوقف عند آخر ما وصلت إليه المفاوضات بشأن السد، حيث كانت الجولة الأخيرة في كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية التي تتولى حالياً رئاسة الاتحاد الإفريقي راعي تلك المفاوضات، وكما كان متوقعاً فشلت تلك الجولة في التوصل لأي جديد بشأن الأزمة المستمرة منذ عشر سنوات.
وسد النهضة هو سد كهرومائي عملاق تبنيه إثيوبيا على مجرى النيل الأزرق، الذي يمثل الرافد الرئيسي لمياه نهر النيل، وتقول أديس أبابا إنها تهدف من إنشائه إلى توفير الكهرباء والمساعدة في تنمية البلاد، وهو ما لا تمانع فيه دولتا المصب مصر والسودان، بحسب تصريحات مسؤولي البلدين، لكن القاهرة والخرطوم تخشيان من تأثير السد على حصتهما المائية من النيل، الذي يمثل، خصوصاً لمصر، شريان الحياة الرئيسي.
ماذا طلبت إثيوبيا من مجلس الأمن؟
أمس الإثنين 19 أبريل/نيسان، وجهت إثيوبيا رسالةً إلى ممثل دولة فيتنام، التي تتولى رئاسة مجلس الأمن الدولي خلال الشهر الحالي، دعت من خلالها أعضاء المجلس إلى "حث مصر والسودان على العودة إلى المفاوضات الثلاثية بشأن الملء الثاني والتشغيل السنوي لسد النهضة واحترام العملية التي يقودها الاتحاد الإفريقي".
الرسالة التي وجهها نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإثيوبي دمقي مكونن، أشارت إلى أن العملية التي يقودها الاتحاد الإفريقي "حظيت بالدعم الكامل من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، على أساس مبادئ التكامل، وبروح إيجاد حلول إفريقية للمشاكل الإفريقية".
والإشارة هنا إلى الجلسة التي كان مجلس الأمن الدولي قد عقدها بشأن ملف سد النهضة، في يونيو/حزيران 2020، بناء على شكوى قدمتها مصر وقتها، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يصل فيها الملف إلى المجلس، ووقتها طلبت أديس أبابا من مجلس الأمن أن يعيد الملف إلى الاتحاد الإفريقي ليواصل متابعته على أساس أنها قضية إفريقية ووافقت مصر بالفعل، ليعود الملف إلى الاتحاد الإفريقي برئاسة جنوب إفريقيا وقتها، لتستمر المفاوضات وتعلن إثيوبيا خلال إحدى جولاتها، في أكتوبر/تشرين الأول الملء الأول للسد.
اتهامات لمصر والسودان بانتهاك "إعلان المبادئ"
وبالعودة إلى رسالة أديس أبابا إلى مجلس الأمن، نجد أن إثيوبيا زعمت أن مصر والسودان "لا تتفاوضان بحسن نية، وليستا مستعدتين لتقديم التنازلات اللازمة للوصول إلى نتيجة مربحة للجميع"، وأن البلدين "اختارا إفشال المفاوضات وتدويل القضية لممارسة ضغط لا داعي له على إثيوبيا".
وزعمت الرسالة أيضاً التزام إثيوبيا الراسخ بإعلان المبادئ، الذي تم توقيعه من قبل قادة الدول الثلاث، وأن مصر والسودان "تتراجعان عن التزاماتهما بموجب إعلان المبادئ"، وأضافت أن "أي محاولة للضغط على إثيوبيا وتهميش العملية التي يقودها الاتحاد الإفريقي ستزيد من تقويض الثقة بين الدول الثلاث".
هذه الفقرة في الرسالة الإثيوبية تشير إلى اتفاق المبادئ الذي وقعته مصر برئاسة عبدالفتاح السيسي، والسودان برئاسة المعزول حسن البشير، وإثيوبيا برئاسة رئيس وزرائها السابق هيلاماريام ديسالين، في مارس/آذار 2015، وهو الاتفاق الذي حول سد النهضة من مشروع مخالف لقواعد القانون الدولي إلى مشروع قانوني، بحسب الدكتور أحمد المفتي خبير القانون الدولي المصري، وعضو اللجنة الدولية للتفاوض بشأن السد، والمستشار السابق لوزير الري المصري وقتها، والذي استقال اعتراضاً على بنود الاتفاق التي "أضاعت حق مصر والسودان في مياه النيل".
إعلان المبادئ ذلك هو ما أوصل الموقف الإثيوبي في ملف سد النهضة إلى التعنت التام والإصرار على عدم توقيع اتفاقيات أخرى، وهذا الموقف ليس جديداً، فقد وصلت المفاوضات في إحدى مراحلها، برعاية أمريكية من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 إلى فبراير/شباط 2020 إلى اتفاق بالفعل، لكن إثيوبيا تراجعت عن التوقيع في اللحظة الأخيرة، رغم أن بنود ذلك الاتفاق -المعلنة وقتها – حملت مزيداً من التنازلات المصرية، تمثلت في تخفيض حصة القاهرة من المياه خلال سنوات ملء السد.
الموقف الإثيوبي المتعنت وقتها دفع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى إصدار تصريحه الشهير بشأن إقدام مصر على تفجير السد، تعبيراً عن أن موقف أديس أبابا لا يترك خياراً آخر أمام المصريين، الذين يمثل لهم نهر النيل قضية وجودية، بحسب وصف السيسي نفسه للموقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول 2019.
لماذا تسعى مصر والسودان "لإفشال" المفاوضات؟
الرسالة الإثيوبية لمجلس الأمن وجهت الاتهام للقاهرة والخرطوم بالإصرار على "الحفاظ على الوضع الراهن غير العادل، ومنع استخدام إثيوبيا للمياه عند منبع سد النهضة، تحت ذريعة إبرام اتفاق شامل ملزم"، معتبرة ذلك "أمراً غير مقبول".
وهنا استشهدت أديس أبابا بما وصفتها بمبادرة إثيوبيا المتعلقة "بتبادل البيانات قبل بدء الملء الثاني للسد في موسم الأمطار المقبل"، معتبرة ذلك دليلاً على حسن نيتها، وكيف أن رفض القاهرة والخرطوم "للمبادرة" دون التوصل لاتفاق قانوني ملزم بشأن تعبئة وتشغيل السد العملاق يمثل تعنتاً من جانب دولتي المصب.
وواقع الأمر هو أن ما وصفتها إثيوبيا بالمبادرة لم يكن سوى خطاب موجه من وزارة الري الإثيوبية لنظيرتها في مصر والسودان، طالبة منهما تحديد جهات لتبادل البيانات بشأن الملء الثاني للسد، ورفضت الخرطوم والقاهرة الاستجابة للطلب، لأنه يعني رضوخاً للأمر الواقع الذي تفرضه إثيوبيا عليهما، والمتمثل في مواصلة تشييد وتعبئة سد النهضة بالطريقة التي تراها أديس أبابا مناسبة، وكأن مياه النهر الدولي أصبحت ملكية خاصة بإثيوبيا، وتفعل ذلك انطلاقاً من "اتفاق إعلان المبادئ".
وفي هذا السياق حذرت وزارة الري المصرية، الإثنين 19 أبريل/نيسان، من "معاناة ووضع سيزداد سوءاً"، مع الملء الثاني للسد في "حال ورود فيضان منخفض". بيان الوزارة المصرية يأتي تعليقاً على قيام الجانب الإثيوبي، يوم الأحد 11 أبريل/نيسان، بفتح المخارج المنخفضة بسد النهضة"، وأوضح البيان أن هذا الفتح "تمهيد لتجفيف الجزء الأوسط من السد للبدء في أعمال التعلية لتنفيذ عملية الملء للعام الثاني للسد".
الوزارة المصرية انتقدت في البيان حديث نظيرتها الإثيوبية، بأن "المخارج المنخفضة وعددها فتحتان قادرة على إمرار متوسط تصرفات النيل الأزرق"، قائلةً إن هذا "ادعاء غير صحيح"، وأكدت أن "القدرة الحالية للتصرف لا تتعدى 50 مليون متر مكعب كل يوم لكلتا الفتحتين، وهي كمية لا تفي باحتياجات دولتي المصب (مصر والسودان)، ولا تكافئ متوسط تصرفات النيل الأزرق".
لذا اعتبرت الوزارة أن تنفيذ عملية الملء الثاني هذا العام واحتجاز كميات كبيرة من المياه طبقاً لما أعلنه الجانب الإثيوبي، سيؤثر بدرجة كبيرة على نظام النهر؛ "لأن المتحكم الوحيد أثناء عملية الملء في كميات المياه المنصرفة من السد ستكون هذه المخارج المنخفضة".
ما هدف إثيوبيا إذن من مخاطبة مجلس الأمن؟
الحقيقة أن إجابة هذا السؤال، قياساً على السلوك الإثيوبي في ملف السد منذ توقيع إعلان المبادئ تحتمل سيناريوهين محتملين، أولهما مواصلة التلاعب وشراء الوقت حتى تنتهي عملية الملء الثاني، المقرر لها في يوليو/تموز، وإن كان السودان قد قال إن أديس أبابا ستبدأ العملية مبكراً، خلال مايو/أيار ويونيو/حزيران، قبل بداية موسم الأمطار، قياساً على سير التجهيزات في هذا الشأن، ومن ثم تكون أديس أبابا قد فرضت الأمر الواقع بالفعل، وقلصت كثيراً من قدرة القاهرة والخرطوم على اتخاذ رد فعل عسكري دون المخاطرة بأضرار كارثية ستواجهها الخرطوم أكثر من القاهرة.
والمقصود هنا هو أن اتخاذ أديس أبابا موقفاً هجومياً والتوجه إلى مجلس الأمن ليس بغرض أن يتولى المجلس نفسه الملف، بل بغرض إظهار مصر والسودان وكأنهما ترفضان الحلول السلمية التي يعرضها الجانب الإثيوبي من خلال الاتحاد الإفريقي، كي تضع دولتي المصب في موقف الدفاع على المسرح الدولي، في ظل ضيق الوقت المتاح قبل اكتمال الملء الثاني.
والسيناريو الآخر من وراء التحرك الإثيوبي غير المسبوق -وهو سيناريو يراه كثير من المراقبين أقل احتمالاً من الأول- هو أن تكون إثيوبيا قد بدأت تشعر بالقلق من إقدام مصر والسودان على توجيه ضربة عسكرية تهدف إلى تدمير السد، وبالتالي تسعى إلى تخفيف حدة الموقف وإقناع المجتمع الدولي بالضغط على الدولتين للعودة إلى مسار المفاوضات برعاية الاتحاد الإفريقي، والهدف أيضاً هو تمرير عملية الملء الثاني، ولو على وعد بالتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بعد اكتمال عملية الملء الثاني.
وهذا بالتحديد ما أقدم عليه رئيس الوزراء آبي أحمد بعد إكمال الملء الأول، إذ خرج بيان صادر من مكتبه يزعم أن الأطراف الثلاثة وجنوب إفريقيا (رئيس الاتحاد الإفريقي)، قد اتفقوا على مواصلة التفاوض للوصول إلى اتفاق قانوني ملزم يحافظ على مصالح الأطراف الثلاثة، وهو بالطبع ما لم يحدث حتى وصلت الأمور إلى النقطة الحالية.
الخلاصة هنا هي أن إثيوبيا ماضية في استعداداتها لتنفيذ الملء الثاني للسد، منطلقة من اتفاق المبادئ الذي وقّعه السيسي والبشير وديسالين، وسواء كان الهدف من وراء الرسالة الموجهة إلى مجلس الأمن شراء الوقت لإكمال الملء الثاني، أو قلقاً من رد فعل عسكري من جانب مصر والسودان، فإن الوقت يمر سريعاً، والكرة الآن في ملعب المسؤولين في القاهرة والخرطوم، وشعباهما في الانتظار.