“سيقضي على جيل بأكمله”.. كيف أصبح تعاطي مخدر “كريستال ميث” وباء يدمر العراق؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/16 الساعة 09:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/16 الساعة 09:44 بتوقيت غرينتش
سجن في البصرة العراقية يكتظ بالنزلاء من متعاطي مخدر "كريستال ميث"/ رويترز

تناول تقرير لصحيفة The Independent البريطانية تفاقم ظاهرة تعاطي مخدرات "الكريستال ميث" بين الشباب العراقي حتى أصبحت "وباء يدمر البلاد"، وكيف اكتسحت عصابات بيع المخدرات العراق، التي يواجه فيها الشباب الذين نشأوا وسط حروب، البطالة والفقر وغياب الدعم الحكومي.

"نريد الهروب من حياتنا البائسة"

وتفتتح الصحيفة البريطانية تقريرها بقصة شاب عراقي يدعى علي، وصل به الحال لبيع أنبوبة غاز طهي سرقها من موقد والديه، وأنه حين فعل ذلك أدرك متأخراً أنَّ المخدرات هي التي تستهلكه، وليس العكس. كان هذا الشاب العراقي، البالغ من العمر 27 عاماً، قد باع بالفعل هاتفه النقّال وكراسي المنزل والسرير وحتى المرتبة التي كان ينام عليها لشراء بضعة جرامات إضافية من مخدر "الميثامفيتامين" البلّوري المعروف باسم "كريستال ميث".

أُلقى القبض على هذا الشاب العراقي مصاباً بالحمى عند نقطة تفتيش في أحد الأحياء المتهدمة بمدينة بغداد. قال علي لصحيفة "The Independent" البريطانية من مركز شرطة القناة في شرق بغداد، حيث يقضي عقوبة مدتها 4 أشهر لحيازته مادة مخدرة، "كنت في عالم آخر، نريد جميعاً الهروب من حياتنا البائسة".

شاب عراقي ألقي القبض عليه بتهمة تعاطي مخدر "كريستال ميث" في البصرة/ رويترز

يُعد علي، وهو اسم مستعار، واحداً من آلاف مدمني مخدر الميثامفيتامين البلّوري في العراق، البلد الذي لم يكن حتى وقت قريب يعاني من انتشار إدمان المخدرات حتى عندما اجتاح الأفيون والهيروين دولاً مثل إيران وأفغانستان.

تحدثت صحيفة The Independent مع عاملين بالقطاع الصحي العراقي وصفوا تنامي ظاهرة تعاطي الكريستال ميث بأنَّها وباء تتفاقم خطورته منذ تفشي جائحة فيروس كورونا في العراق.

ما الذي يفعله "كريستال ميث" بجسم الإنسان؟

يقول قاسم ورش، كبير الممرضين في مستشفى "ابن راشد" للطب النفسي، وهي الوجهة الرئيسية لعلاج الإدمان وإعادة التأهيل النفسي بالعراق: "يدمر مخدر الكريستال ميث النظام المناعي لجسم الإنسان، الأمر الذي يجعل المدمن عرضة للإصابة بجميع الأمراض، من بينها فيروس كورونا المستجد".

تدمر هذه المادة المنشطة المسبّبة للإدمان، التي اخترعتها اليابان واستخدمتها خلال الحرب العالمية الثانية لإبقاء الجنود مستيقظين، جهاز المناعة وينتج عنها العديد من الآثار الجانبية المهددة للحياة، من ضمنها فشل وظائف القلب والكلى وفقدان كبير للوزن.

ومع ذلك، لا تردع المخاطر الإضافية لفيروس كورونا متعاطي هذه المادة المخدرة. يقول علي: "لا نكترث بالمخاطر. نعيش جميعاً حياة صعبة للغاية. بدأنا تعاطي الكريستال ميث لأنَّه ينقلنا إلى عالم آخر أفضل"، بحسب تعبيره.

المخدر الأكثر شيوعاً الذي يجتاح العراق

ويتّجه عدد متزايد من العراقيين إلى الميثامفيتامين البلوري للهروب من الواقع الصعب المتمثّل في معدلات بطالة مرتفعة وفساد مستشرٍ في جميع مناحي الاقتصاد وبنية تحتية متهالكة لبلد ينتقل من صراع إلى صراع منذ الغزو الأمريكي عام 2003.

ووفقاً لتقرير أصدرته مؤسسة "المجلس الأطلسي" في فبراير/شباط، إنَّ حوالي 60% من سكان العراق تقل أعمارهم عن 25 عاماً في حين تشير التقديرات إلى أنَّ نسبة البطالة بين الشباب تبلغ 36%.

يقول مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إنَّ الكريستال ميث أصبح المخدر الرئيسي الأكثر شيوعاً في العراق على نحو مثير للقلق، وحذر المكتب الأممي في تقرير فبراير/شباط من أنَّه بينما كان يأتي هذا المخدر في السابق مُهرّباً من إيران المجاورة، بات يجري تصنيعه الآن سراً في معامل داخل العراق.

اعتقالات أمنية لعدد من العراقيين في البصرة الذين كانوا يعملون بتوزيع مخدر "كريستال ميث"، أرشيفية/ رويترز

تمثّل المحافظات الحدودية الجنوبية، مثل البصرة وميسان، المركز الرئيسي لعصابات ترويج هذا المخدر. قال أحد السكان المحليين في البصرة، رفض الكشف عن هويته لدواعٍ أمنية: "ثمة عصابات قوية دأبت منذ فترة طويلة على تهريب الكريستال ميث إلى داخل البلاد"، مضيفاً أنَّ النساء كثيراً ما يُستخدمن لنقل هذا المخدر لأنهن لا يتعرضن لكثير من عمليات التفتيش.

لماذا تحولت مدينة البصرة لأكبر مركز للمخدرات في العراق؟

لم يعد العراق مجرد نقطة عبور للمخدرات المتجهة إلى تركيا، بل أصبح مقصداً في حد ذاته على مدى السنوات القليلة الماضية مع تصاعد العنف وتزايد الفقر.

كانت البصرة هدفاً يسيراً، وهذا ليس بسبب موقعها الجغرافي فحسب. شهدت تلك المدينة الجنوبية، التي كانت تُعرف سابقاً باسم "فينيسيا الشرق"، ارتفاعاً هائلاً في معدلات البطالة على مدى السنوات القليلة الماضية، فضلاً عن تردي الأحوال المعيشية والافتقار إلى البنية التحتية الأساسية.

قال الشخص المقيم في البصرة للصحيفة البريطانية: "لا يوجد حرفياً أي مكان يذهب إليه الشباب هنا في البصرة أو أي شيء يفعلونه. لا يوجد عمل، لا يوجد متنزهات، ولا حتى دور سينما".

وأضاف: "عاش الشباب حروباً متعددة. المدمنون الذين تحدثت إليهم ليس لديهم عمل أو هوايات، ولا سبيل آخر لديهم للهروب سوى المخدرات".

أدّى إدمان الكريستال ميث إلى إرهاق نظام العدالة الجنائي العراقي المُثقل فعلياً بالأعباء والمشكلات. قالت فرق مكافحة المخدرات في سجن القناة العراقي، حيث يقضي علي عقوبته، إنَّ زنزانات السجن باتت مكتظة بكامل طاقتها الاستيعابية، حيث وصل عدد المحتجزين إلى 217 مدمناً ومروّجاً للكريستال ميث.

قال ضباط إنَّ الأرقام ارتفعت بصورة كبيرة منذ عام 2017 مع تدهور الحالة الاقتصادية في البلاد وانخفاض سعر الكريستال ميث نظراً لانتشاره وسهولة الوصول إليه. قال الرائد يابار حيدر لصحيفة The Independent: "سجلنا زيادة في أعداد المدمنين بنسبة 40% منذ عام 2017، وزيادة في عدد سماسرة المخدرات بنسبة 30%".

وأضاف حيدر أنَّ سعر الغرام الواحد من هذا المخدر كان حوالي 100 دولار في عام 2017، لكنه يباع الآن في بعض المناطق مقابل حوالي 14 دولاراً فقط.

يجتاح مخدر "كريستال ميث" العراق بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة/ رويترز

لا يزال السبب الدقيق لانتشار هذا المخدر غير معروف بسبب نقص البيانات. قال الرائد حيدر إنَّ قوات الأمن ألقت القبض في العام الماضي على أكثر من 6 آلاف شخص في جميع أنحاء البلاد بتهم تتعلق بالمخدرات، مشيراً إلى أنَّ السلطات صادرت أكثر من 120 كيلوغراماً من الكريستال ميث.

في السياق ذاته، أفادت وزارة الصحة العراقية أنَّ تعاطي الكريستال ميث بات الأكثر شيوعاً في العراق بعد الكحول. وأظهرت أحدث البيانات أنَّ 813 شخصاً يتعافون من إدمان الكريستال ميث في مراكز إعادة التأهيل التابعة للحكومة، وهو ما يفوق بكثير نسبة تعاطي أي مادة مخدرة أخرى. 

"سلب مني حياتي"

قرّر أحمد، البالغ من العمر 32 عاماً والعاطل عن العمل، دخول مستشفى "ابن راشد" في بغداد للتعافي من الإدمان بعد أن طردته عائلته من المنزل.

يُخصِّص المستشفى، وهو واحد من مستشفيين حكوميين مخصصين لإعادة تأهيل المدمنين في العراق، 13 سريراً لمرضى -مثل أحمد- يتعافون من إدمان المخدرات.

قال أحمد إنَّ مروّجي المخدرات يستخدمون طرقاً مبتكرة على نحو متزايد لجذب عملاء جدد. على سبيل المثال، بدلاً من بيع بضاعتهم بأنفسهم في الشارع والمخاطرة بدخول السجن، بدأ مروجو المخدرات إعطاء كميات صغيرة من الكريستال ميث مجاناً لمن يعيشون داخل مجتمعات مهمشة أو فئات ضعيفة غير مستقرة نفسياً، بهدف جذب أعداد جديدة من المدمنين تتوسل فيما بعد من أجل الحصول على المزيد.

قال أحمد من سريره في المستشفى لصحيفة The Independent: "يدفعك الإدمان إلى سرقة أي شيء لتدفع ثمن الحصول على جرعة المخدر. يتحول بعض المدمنين إلى العمل مروجي مخدرات لتأمين ثمن الجرعات الخاصة بهم". وأضاف: "كنت سأكون متزوجاً ولدي عائلة وعمل لولا إدمان الكريستال ميث. لقد استنزف حياتي وسلبها مني".

"كنت مثل رجل يبلغ من العمر 90 عاماً"

باع أحمد كل ما يملكه بسبب الإدمان، وسرعان ما ابتعد عن عائلته وأصدقائه الذين أخبروه أنَّه لا يستطيع العودة إلى المنزل حتى يشفى تماماً.

أوضح أحمد أنَّه وصل إلى مرحلة عانى فيها من هلوسة مرعبة، قائلاً: "تسبّب الإدمان في تدمير جهازي الهضمي وتضررت ذاكرتي. كنت مثل رجل يبلغ من العمر 90 عاماً".

معتقلون بتهم حيازة وتعاطي مخدر "كريستال ميث" في أحد المراكز الأمنية بالبصرة، العراق/ رويترز

نصَّ القانون العراقي سابقاً على عقوبة الإعدام بحق مدمني ومروجي المخدرات، لكن صدر تشريع في عام 2017 يستطيع القضاة بموجبه أن يأمروا بإيداع المدمنين بمراكز إعادة تأهيل لتلقي العلاج أو الحكم عليهم بالسجن لمدة تصل إلى 3 سنوات.

من جانبهم، أكَّد عاملون في مستشفى "ابن راشد" أنَّ ثمة حاجة إلى بناء المزيد من المراكز والمستشفيات المُخصّصة لعلاج الإدمان في جميع أنحاء البلاد لأنَّ عدد المدمنين يتزايد ودخولهم السجن ليس حلاً مناسباً.

لم يكن إدمان مخدر الكريستال ميث مشكلة مصيرية بالنسبة لعلي وأحمد فحسب، بل لجيلهما بأكمله. قال أحمد: "أدّى هذا المخدر إلى تدمير حياة الشباب العراقي، وقضى علينا بالفعل وسيقضي على جيل بأكمله".

تحميل المزيد