في خطوة هي الأولى من نوعها، قامت الأردن بإعادة تشكيل مجلس أوقاف القدس الشريف، بما ساهم في تعزيز الحضور الأردني وتقليص حضور الفلسطينيين والمقدسيين في تشكيلته. وهو ما طرح تساؤلات حول الهدف من هذا التغيير في هذا التوقيت تحديداً.
وذكرت مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" أن الهدف يعود إلى محاولة الأردن التهدئة مع إسرائيل في ملف القدس والمقدسات، خصوصاً بعد التضييقات الإسرائيلية على أعضاء مجلس أوقاف القدس، ومنعهم من إقامة أعمال الصيانة بالقدس.
ليس هذا فحسب، بل هناك بُعد آخر وراء هذه التغييرات يتعلق بمحاولة قطع الطريق على الإمارات التي تسعى إلى إضعاف الدور الأردني في الوصاية على المقدسات.
تقويض العنصر المقدسي
وزارة الأوقاف الأردنية عبر التركيبة الجديدة عمدت إلى إخراج كل من حاتم عبدالقادر القيادي في حركة فتح وعضو المجلس الثوري في فتح، ومازن سنقرط وزير الاقتصاد الفلسطيني الأسبق ورجل الأعمال المقدسي المقرب من حماس، واللذين يتمتعان بحضور وترحيب بين المقدسيين.
وهدفت هذه الخطوة إلى تقليص المحسوبين على ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، وذلك بعدما كان الأردن قد قدمهم سابقاً في محاولة لامتصاص غضب الشارع المقدسي بسبب ممارسات إسرائيل خلال أحداث الأبواب الإلكترونية عام 2017، وبعد أحداث باب الأسباط عام 201، حيث سعى الأردن عبر المجلس الذي شكله عام 2019 إلى جعل مجلس الأوقاف بمثابة مرجع وطني لسكان القدس وباعتباره جزءاً من "استراتيجية صمود المقدسيين"، وهو ما أدخل الأردن في صدام مع إسرائيل آنذاك.
خلال تلك الفترة السابقة، تمّ إدخال شخصيات دينية ووطنية لها باع طويل في النضال، وكان العديد منهم ضمن الشخصيات المحلية التي قادت عملية الاحتجاج السلمي، كما تم تطعيم المجلس الجديد بشخصيات فكرية وتعليمية وإعلامية معروفة ومقبولة من الجمهور الفلسطيني المقدسي العريض.
وكان لافتاً وضع وزير القدس الحالي ووزير القدس السابق ضمن تلك التشكيلة في لفتة مهمة تجاه القيادة الفلسطينية.
لكن التشكيلة الجديدة التي اعتمدتها أوقاف الأردن عام 2021، وسعت من عدد أعضاء المجلس ليضم 23 عضواً بعد أن كانوا 18 في تشكيلة 2019 و11 في تشكيلة 2017، أي أنّ صوت كل عضو بات أقل وزناً، وبات المجلس بالإجمال بهذا العدد الكبير أقرب إلى هيئة وجاهية منه إلى هيئة قرار.
ولأول مرة، ضم المجلس في تشكيلته موظفين أردنيين مركزهم في عمّان، وهم الدكتور وصفي الكيلاني مسؤول ملف القدس في الديوان الملكي، والدكتور عبدالستار القضاة مدير مديرية الأقصى والقدس في وزارة الأوقاف.
كما أنّ مدير عام أوقاف القدس عزام الخطيب بات نائب رئيس المجلس، وإبراهيم ناصر الدين الموظف في الأوقاف بات أمين سر المجلس، وهذا ما يجعل المجلس أكثر ارتباطاً وانضباطاً بتوجهات الحكومة الأردنية، وأقرب إلى هيئة حكومية أردنية منه إلى مجلس أوقاف يمثل الشخصيات المقدسية ورؤيتها في الدفاع عن المقدسات، وربما يكون هذا التغيير الأهم والأبرز الذي يجب قراءته.
الحكومة الأردنية رفعت من حصصها في المجلس من الشخصيات المحسوبة عليها، لتصل إلى 43%، بينهم الرئيس ونائب الرئيس وأمين السر، وحصة بقية الفئات مجتمعة من القدس بنسبة 57%.
سعت الحكومة الأردنية عبر هذا التوجه إلى تقويض العنصر المقدسي والعناصر الوطنية النضالية الفلسطينية، في محاولة للتهدئة والتوافق مع إسرائيل والحكومة الإسرائيلية، وخفض التصعيد وتجنب التوتر والمواجهة في الأقصى، واستبعدت العديد من الشخصيات المعارضة والمنددة بسياسة التطبيع مع إسرائيل.
سِر استبعاد سنقرط وعبدالقادر
استبعاد كل من حاتم عبدالقادر القيادي في حركة فتح وعضو المجلس الثوري في فتح، ومازن سنقرط وزير الاقتصاد الفلسطيني الأسبق ورجل الأعمال المقدسي، عن مجلس أوقاف القدس، يعود بالدرجة الأولى إلى الرغبة الأردنية في استبعاد أي طيف أو ميول سياسية داخل المجلس، بعد أن تمّ اختيارهما ضمن تشكيلة المجلس السابق التي تمّ اختيارها عام 2019.
جاء ذلك بعد مقترح قدمه عضو المجلس مهدي عبدالهادي بأن يتم توسيع المجلس ليضمّ كل أطياف القدس، ويصبح مرجعية القدس الأولى.
وقد جاءت تلك التوصية بعد هبة البوابات الإلكترونية عام 2017 التي على أثرها تمّ تشكيل ما يعرف بـ"المرجعيات الدينية"، الذي ضمّ كلاً من: محمد أحمد حسين مفتي القدس، وخطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، ورئيس مجلس أوقاف القدس الشيخ عبدالعظيم سلهب، بالإضافة إلى كل من: القائم بأعمال قاضي القضاة في القدس الشيخ واصف البكري، ونائب مدير الأوقاف الإسلامية الشيخ ناجح بكيرات، ومدير الوعظ والإرشاد في المسجد الأقصى الشيخ رائد دعنا.
واعتمد المجلس بعدها ضمّ "المرجعيات الدينية" ومجلس أوقاف القدس في جسم واحد، وعلى أثر ذلك تمّ توسيع المجلس ليرتفع عدد أعضائه من 11 عضواً إلى 18 عضواً، حيث ضمت التشكيلة الجديدة في عام 2019 شخصيات مهمة وجديدة تمثلت في عكرمة صبري، وحاتم عبدالقادر (المقرب من حركة فتح)، ومازن سنقرط (المقرب من حماس)، و محمد أحمد حسين.
وفي هذا السياق، أوضح الباحث في شؤون القدس زياد ابحيص، لـ"عربي بوست"، أن السبب في دمج المرجعيات الدينية بالقدس وضمها إلى مجلس أوقاف القدس عام 2019 يرجع إلى تحقيق هدفين أساسيين؛ الأول: تحويل مجلس أوقاف القدس إلى مرجعية موحدة، والثاني: ربطه بالحكومة الأردنية.
ويرى ابحيص أنّ المساعي في توحيد الطرفين فشلت؛ لأنّ هذين الهدفين متناقضان، مشيراً إلى أنّه يجب أن يكون التوحيد وفق إرادة المجتمع المقدسي وليس وفق التوجهات الرسمية الأردنية وسعيها إلى إحكام سيطرتها عليه.
لماذا تمّ تعيين الكيلاني والقضاة في المجلس الجديد؟
تعيين كل من وصفي الكيلاني وعبدالستار القضاة في مجلس أوقاف القدس 2021 الجديد يأتي لربط المجلس بشكل أكبر بالحكومة الأردنية، ولينضبط أكثر بالتوجهات الرسمية، وليضمن نقل القرارات والتوجيهات الصادرة من رئاسة الوزراء إلى مجلس الأوقاف مباشرة.
هذا ما أشارت إليه مصادر مطلعة خاصة لـ"عربي بوست"، حيث يعود السبب الحقيقي لمثل هذا القرار إلى أحداث هبة باب الرحمة عام 2019، التي تزامنت مع تشكيل مجلس أوقاف 2019، الأمر الذي وضع المجلس والحكومة الأردنية في خانة المواجهة مع إسرائيل، التي أصرت على إغلاق مُصلى باب الرحمة.
لكنّ بسبب الهبة الجماهيرية في القدس وإصرار المقدسيين على فتح المصلى، رضخ المجلس في تلك الفترة إلى التوجهات الشعبية، وبالتالي تم وضعه في خانة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
مواجهة بين الأردن وإسرائيل
ويعلّق الباحث في شؤون القدس زياد ابحيص قائلاً إن الهبة الشعبية التي حصلت في تلك الفترة دفعت مجلس أوقاف القدس إلى إقرار فتح مصلى باب الرحمة وتعيين إمام له، وهنا حمّلت إسرائيل المجلس والحكومة الأردنية مسؤولية إعادة فتح المصلى، وعلى أثر ذلك تمّ منع مدير متابعة شؤون القدس وشؤون المسجد الأقصى المهندس عبدالله العبادي، ومسؤول ملف القدس بالديوان الملكي الهاشمي الدكتور وصفي الكيلاني، بالإضافة إلى منع الشيخ واصف البكري القائم بأعمال قاضي القضاة في القدس لفترة من الزمن من دخول القدس والأراضي الفلسطينية، وذلك كإجراء عقابي من إسرائيل للمسؤولين التابعين للحكومة الأردنية والمشرفين على شؤون القدس والمقدسات.
كما عمدت إسرائيل إلى منع أعمال الصيانة والإعمار والترميم في المسجد الأقصى، مقابل وضع شرط أمام الحكومة الأردنية، هو إعادة إغلاق مصلى باب الرحمة، وتغيير طبيعة استخدامه، بدل أن يكون مصلى يتحول إلى مكتب أو مكتبة، في مقابل السماح بإعادة أعمال الإعمار والصيانة، لكنّ المصلى بقي مفتوحاً حتى هذه اللحظة مما حدا بالإسرائيليين إلى إصدار قرار من المحكمة الإسرائيلية في القدس المحتلة يقضي بإغلاق المصلى الذي يقع داخل المسجد الأقصى، ويتم تجديده كل ستة أشهر.
وفي خضم هذه الحالة، فإنّ الحكومة الأردنية تسعى إلى ضبط توجهات مجلس أوقاف القدس، ولا تريد اتخاذ أي قرارات تورط الأردن مع الإسرائيليين، أو تسهم في التصعيد أو التورط في أي مواجهة مع الحكومة الإسرائيلية، كما حصل في أحداث باب الرحمة.
ويؤكدّ ابحيص أنّ كلاً من وصفي الكيلاني وعبدالستار القضاة نظراً لأنّهما موظفان داخل جسم الحكومة الأردنية بالأساس، فإنّهما سيعمدان إلى تطبيق سياساتها داخل المجلس، وسيعمدان إلى تمرير القرارات الصادرة من الحكومة الأردنية، بل وسيكونان بمثابة الصوت الرسمي داخل المجلس لضمان السيطرة على قراراته وتوجهاته، وألا تكون تكون صدامية، وتضمن عدم التصعيد مع الحكومة الإسرائيلية.
مصادر خاصة لـ"عربي بوست" كشفت عن لقاءات جمعت مسؤولين في الخارجية الأردنية مع نظرائهم في الخارجية الإسرائيلية لأجل السماح لمجلس أوقاف القدس بالإعمار والصيانة والترميم في المسجد الأقصى، لكن هذه اللقاءات لم تحقق أي نتيجة تذكر سوى السماح فقط ببعض أعمال الصيانة في بعض أجزاء المسجد الأقصى وليس كله.
وجهة النظر الرسمية الأردنية
قال مفتي الهيئة الهاشمية للمصابين العسكريين والمقرب من الدوائر الرسمية الأردنية، عايد عوض الجبور، في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، إن قرار إعادة تشكيل مجلس أوقاف القدس جاء من قِبَل رئاسة الوزراء الأردنية، ويؤكدّ للجميع أنّ مسؤولية المقدسات الإسلامية والمسيحية والقدس الشريف والمسجد الاقصى هي لا تزال مسؤولية الهاشميين عبر التاريخ.
وأشار إلى أنّ تغيير هيكلية المجلس وزيادة أعضائه "جاء لإشراك وإدخال شخصيات وطنية ودينية لها باع طويل في المعرفة والنضال"، على حد تعبيره.
وأوضح أنّ المجلس معيّن ومتابع من خلال الملك عبدالله وبتوجيهات منه، منوهاً بأنّ المجلس الجديد فيه خليط من أصحاب الفكر الديني والسياسي، حيث سيكونون قادرين على وضع خطط واستراتيجيات إعلامية وسياحية وإيصال الرسالة العالمية للانتهاكات الصهيونية للمقدسات الإسلامية والمسيحية.
وقال إن الأردن حرص في المجلس الجديد على أن يكون مرجعاً وطنياً؛ لأنّه شمل الأغلبية المقدسية من رجال دين ورجال علم وأهل الفكر الذين قاموا بزيارات لمواقع مُنع منها أهل القدس منذ سنين.
تركيبة المجلس الجديدة
بعد إضافة كل من وصفي الكيلاني وعبدالستار القضاة إلى عضوية المجلس الجديد، تكون الحكومة الأردنية قد رفعت من حصصها في المجلس من الشخصيات المحسوبة عليها؛ لتصل إلى 43%، بينهم الرئيس ونائب الرئيس وأمين السر، وحصة بقية الفئات الشخصيات المجتمعية المقدسية بنسبة 57%.
المجلس الجديد ضمّ في هيكليته شخصيات مقدسية جديدة محسوبة على التوجهات الرسمية الأردنية، وهم يعملون موظفين تابعين للحكومة الأردنية، ويعدّ الشيخ عزام الخطيب أحد أبرز الوجوه الجديدة في المجلس، الذي أصبح نائب رئيس المجلس، بالإضافة إلى احتفاظه بمنصبه مديراً عاماً لأوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى التابع إدارياً للحكومة الأردنية.
كما ضمّ المجلس الجديد محمد إبراهيم ناصر الدين، وهو مستشار ومدير مالي في أوقاف القدس، ليصبح هو الآخر عضواً في مجلس أوقاف القدس، بالإضافة إلى مدير الإعمار بدائرة الأوقاف بسام الحلاق، الذي تمّ تتوجيه بعضوية المجلس أيضاً، ونائب مدير عام أوقاف القدس وإمام وخطيب المسجد الأقصى، الشيخ يوسف أبوسنينة، وهؤلاء الثلاثة بالإضافة إلى مناصبهم السابقة، أصبحوا أعضاء في المجلس الجديد لأول مرة.
وكان المجلس الجديد كان قدّ ضم شخصيات محسوبة على التوجهات الرسمية الأردنية، وهم أعضاء في المجلس السابق 2019، هم: الشيخ عبدالعظيم سلهب رئيس المجلس، والشيخ واصف البكري القائم بأعمال قاضي القضاة في القدس الشريف، والشيخ مصطفى أبوصواي وهو رئيس كرسي الإمام الغزالي في المسجد الأقصى، والشيخ محمد سرندح قاضي المحكمة الشرعية في القدس، وجميع هؤلاء محسوبون على التوجهات الرسمية الأردنية، ليرتفع بذلك عدد الأعضاء المحسوبين على الحكومة الأردنية إلى عشرة أعضاء من أصل 23 عضواً.
لقطع الطريق على المساعي الإماراتية في القدس
مصادر في الحكومة الأردنية رفضت الكشف عن اسمها قالت لـ"عربي بوست"، إن خطوة تحديث وتغيير هيكل مجلس أوقاف القدس تأتي في محاولة للحد من الدور السعودي والإماراتي الذي يهدف إلى إضعاف الدور الأردني تجاه المقدسات في القدس عبر "اتفاق إبراهام"، ومحاولة شراء ذمم من قِبَل شخصيات محسوبة على الإمارات.
وقال إن على رأس هؤلاء الشخصيات سري نسيبة رئيس "مجلس القدس للتنمية والتطوير الاقتصادي".
ويبدو أنّ عمّان لا تزال تستشعر الأدوار التي تقوم بها أبوظبي تجاه القدس، عبر "المال السياسي"، وشراء ذمم للعديد من الشخصيات والرموز المقدسية، لتأتي هذه الخطوة لتعزيز الحضور الأردني في القدس وقطع الطريق على أي محاولة سعودية-إماراتية لسحب البساط من الهاشميين على المقدسات في القدس، على حد وصف المصدر.
وأضاف أن الخطوة تهدف لمنع أي محاولة تسييس مجلس أوقاف القدس من أي شخصيات قد تكون تابعة للطيف السياسي الفلسطيني التي من الممكن أن تنزلق في ظل المساعي التي يقوم بها سري نسيبة ومحمد دحلان في القدس، والتي كان آخرها ضم الأكاديمي سري نسيبة إلى قائمة "الأمل والمستقبل" التابعة لمحمد دحلان؛ ليكون الرجل الثاني في القائمة محمد دحلان، حيث عمد نسيبة إلى تأسيس مجلس القدس للتطوير والتنمية الاقتصادية في المدينة بدعم إماراتي عبر دحلان.