إعلان إيران رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60% يطرح علامات استفهام متعددة تتعلق بما يعنيه ذلك بالنسبة للبرنامج النووي ومفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي الجارية في فيينا وموقف أمريكا والأطراف الأخرى للاتفاق.
وحتى تكون الصورة الأكبر أكثر وضوحاً من المهم الوقوف عند أبرز التطورات المتعلقة بالمفاوضات الجارية بين أطراف الاتفاق النووي الإيراني أو خطة العمل الشاملة المشتركة الموقعة عام 2015 والتي تضم روسيا والصين وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيران، والتي انسحبت منها الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب عام 2018 وتسعى الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن إعادة إحيائها.
انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وإعادة فرض وتشديد العقوبات الأمريكية على طهران تبعه تخلٍّ تدريجي من جانب إيران عن الالتزامات المفروضة على برنامجها النووي بموجب بنود ذلك الاتفاق، وسط تمسك باقي أطرافه بمحاولة منع الانهيار التام والعودة إلى ما قبل عام 2015. ومع تولي إدارة بايدن المسؤولية في البيت الأبيض، في ظل الرغبة المعلنة لإعادة إحياء الاتفاق، بدأت عملية الشد والجذب من الجانب الإيراني والأمريكي للتوصل إلى الآلية المناسبة لتحقيق الهدف، أي عودة طهران للالتزام ببنود الاتفاق النووي ورفع العقوبات الأمريكية.
ماذا يقول الاتفاق النووي عن نسبة تخصيب اليورانيوم؟
نص الاتفاق النووي على ألا تزيد نسبة تخصيب اليورانيوم في المفاعلات النووية الإيرانية على 3.7%، ضمن بنود أخرى تضع قيوداً على كمية اليورانيوم المخصب التي تحتفظ بها طهران (لا تزيد على 200 كغم) وكذلك كميات المياه الثقيل الناتجة عن عمليات التخصيب (أيضاً في حدود 200 كغم) وكذلك عدد أجهزة الطرد المركزي وقدرتها وسرعتها فيما يتعلق بتخصيب اليورانيوم، مع وجود بروتوكول إضافي لعمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية يضم -بين كثير من أدوات المراقبة والتفتيش المفاجئ- تركيب عشرات الآلاف من الكاميرات تراقب كل ما يجري في منشآت إيران النووية على مدار الساعة.
وكانت الخطوة الأولى التي اتخذتها إيران في هذا الشأن هي رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 5% وكان ذلك في مايو/أيار 2019، وبدأت تتراكم كميات اليورانيوم المخصب والماء الثقيل نتيجة لذلك، ثم رفعت إيران من أعداد أجهزة الطرد المركزي تدريجياً، وكان ذلك هو الرد الإيراني على العقوبات الأمريكية التي كانت تفرضها إدارة ترامب ضمن استراتيجية "الضغط الأقصى" الهادفة إلى إجبار طهران على التفاوض من جديد بشأن اتفاق أكثر شمولاً، يضم إلى جانب برنامجها النووي برنامج الصواريخ الباليستية وكذلك تدخل إيران في شؤون الدول العربية من خلال وكلائها كميليشيات حزب الله في لبنان أو الحشد الشعبي في العراق أو الحوثيين في اليمن وغيرهم.
وفي أواخر العام الماضي وبعد تعرض العالم النووي محسن فخري زادة للاغتيال في طهران، وهي العملية التي اتهمت فيها إيران الموساد الإسرائيلي بموافقة إدارة ترامب، اتخذ البرلمان الإيراني قراراً برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60% ووقف التعامل مع وكالة الطاقة الذرية وطرد مفتشيها، لكن الحكومة الإيرانية لم تنفذ القرار حرفياً ووقعت اتفاقاً مؤقتاً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يسمح باستمرار عمليات التفتيش بموجب الاتفاق النووي لمدة ثلاثة أشهر إضافية تنتهي أواخر مايو/أيار المقبل، بينما لم تزِد نسبة تخصيب اليورانيوم على 20%.
ويوم الثلاثاء 6 أبريل/نيسان الجاري حدث تطور مهم تمثل في انعقاد أول جلسة مفاوضات بشأن الاتفاق النووي في العاصمة النمساوية فيينا وبحضور جميع الأطراف الموقعة عليه، وإن كان ممثلو واشنطن لا يجلسون على نفس الطاولة مع الإيرانيين، أي أنها مفاوضات غير مباشرة، لكنها مثلت انفراجة كبيرة في حد ذاتها، وظهرت بالفعل مؤشرات على أن إعادة إحياء الاتفاق النووي باتت وشيكة.
ماذا يعني رفع إيران نسبة التخصيب إلى 60%؟
من المهم هنا الرصد السريع لأبرز ما شهده الملف النووي الإيراني من تطورات متسارعة خلال الأيام الأخيرة منذ بدء اجتماعات فيينا، وعلى رأسها تعرض سفينة إيرانية في البحر الأحمر لهجوم من جانب إسرائيل، ثم الحادث التخريبي الذي وقع في مفاعل نطنز الإيراني وذلك يوم الأحد الماضي (11 أبريل/نيسان) بالتزامن مع إعلان طهران عن بدء تشغيل أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً وأكثر قدرة على تخصيب اليورانيوم بسرعة وبنسبة نقاء أعلى.
حادث نطنز تحديداً يمثل عنصراً أساسياً، بحسب المراقبين، وراء إعلان إيران عن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60%، وهي نسبة تقرب طهران كثيراً وسريعاً من عتبة النقاء المطلوب للحصول على يورانيوم مخصب يصلح لإنتاج قنبلة نووية، أي تتخطى نسبة نقائه 90%.
والمقصود هنا هو أنه إذا تمكنت إيران بالفعل من البدء في تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% في الوقت الحالي – وهذه نقطة هامة للغاية في محاولة فهم ما ترمي إليه طهران من هذا الإعلان – فهذا يعني تطوراً لافتاً وزيادة كبيرة عن نسبة الـ20% التي تخصب بها إيران اليورانيوم حالياً، وهو ما يمكن تفسيره بأن تخطي عتبة الـ90% ربما يكون أقرب مما يقوله البعض.
إعلان إيران عن زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60% جاء في رسالة وجّهها مساعد وزير الخارجية عباس عراقجي "إلى رافايل غروسي" مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية "إرنا".
ولم تحدد الوكالة الرسمية الإيرانية موعداً لبدء زيادة نسبة التخصيب إلى 60%، إلا أن قناة "برس تي في" الإخبارية الناطقة بالإنجليزية والتابعة للتلفزيون الرسمي الإيراني أفادت أن هذا الأمر سيُطبّق اعتباراً من اليوم الأربعاء، 14 أبريل/نيسان.
متحدث باسم الوكالة الدولية للطاقة الذرية قال لوكالة فرانس برس الفرنسية: "لقد رأينا المعلومات الصحفية" في هذا الشأن، لكن "ليس لدينا تعليق في الوقت الراهن"، وهو ما يعني أن الوكالة الدولية ليس لديها تأكيد حول بدء إيران بالفعل في زيادة نسبة التخصيب إلى 60%.
وهذه المعطيات تجعل فريقاً من المحللين يذهب إلى تفسير الإعلان الإيراني في هذا الشأن وفي هذا التوقيت بأنه مناورة تفاوضية الغرض منها حث باقي أطراف الاتفاق النووي (الأوروبيين وروسيا والصين) لبذل مزيد من الضغوط على إدارة بايدن، للإسراع في رفع العقوبات والعودة للاتفاق النووي، تفادياً لخروج الأمور عن السيطرة، بحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية.
وفي هذا السياق كتب علي فائز، من مجموعة الأزمات الدولية في تغريدة لا تخلو من السخرية، "بفضل (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو و(سياسة) الضغوط القصوى التي تنتهجها واشنطن، ستخصب إيران (…) الآن بمستويات غير مسبوقة، مع رقابة دولية أقل، هنيئاً للجميع!"، بحسب فرانس برس.
الموقف الدولي والإعلان الإيراني
هناك مؤشر آخر من الصعب تجاهله، يتعلق بكون الإعلان الإيراني عن زيادة التخصيب بتلك النسبة المرتفعة مناورة سياسية أكثر منها قدرة حقيقية على التنفيذ الفعلي بداية من اليوم، وهو مدى الضرر الذي تعرض له مفاعل نطنز جراء حادث الأربعاء، إذ قال علي رضا زاكاني، مدير مركز الأبحاث في البرلمان الإيراني، إن الضرر الذي تعرّض له المفاعل ضخم، وأدى لإتلاف الآلاف من أجهزة الطرد المركزي، وإن الأمر يحتاج لوقت طويل حتى يتم استبدالها وإصلاح التلف، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC اليوم الأربعاء.
وفي كل الأحوال فإن الغموض الذي يحيط بحادث نطنز ومدى الضرر الذي تسبب فيه يجعل من الصعب الحكم على مدى قدرة طهران حالياَ على البدء فعلياً في رفع نسبة تخصيب اليورانيوم من 20 إلى 60%، وهو ما يرجح فرضية تعمد الإعلان كورقة ضغط سياسي، خصوصاً أنه كان هناك اجتماع اليوم في فيينا لتقييم المفاوضات بشأن الاتفاق النووي، وإن أعلنت روسيا من جانبها عن تأجيله حتى الخميس 15 أبريل/نيسان.
ومن الصعب أيضاً تجاهل الموقف الدولي الحالي مما يحدث بشأن المفاوضات النووية، خصوصاً مع التغير الواضح في الموقف الروسي، وهو ما عكسته تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف، أمس الثلاثاء 13 أبريل/نيسان، من طهران.
فقد جاء الإعلان الإيراني بشأن التخصيب بعد بضع ساعات من لقاء وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الروسي سيرغي لافروف في طهران، وخلال مؤتمر صحفي لظريف ولافروف، قال الوزير الروسي: "نعوّل على إمكان إنقاذ الاتفاق وعلى أن تعود واشنطن إلى التطبيق الكامل والشامل لقرار الأمم المتحدة ذي الصلة"، مضيفاً أن "كل العقوبات الأحادية الجانب التي اتخذتها واشنطن في انتهاك مباشر للاتفاق يجب أن تُلغى".
كما شن لافروف هجوماً عنيفاً على الاتحاد الأوروبي، بعدما أعلن الإثنين فرض عقوبات على مسؤولين أمنيين إيرانيين لدورهم في القمع العنيف لمظاهرات تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وقال لافروف: "إذا اتُخذ القرار عمداً في خضم محادثات فيينا الهادفة إلى إنقاذ الاتفاق النووي، فهذا ليس مؤسفاً بل هو خطأ أفظع من جريمة"، داعياً الأوروبيين إلى اتخاذ "إجراءات للحؤول دون فشل المفاوضات".
الموقف الروسي الداعم بقوة لطهران يعتبر تحولاً واضحاً عن موقف موسكو المعلن سابقاً عن ضرورة العودة للاتفاق النووي من خلال "إجراءات متزامنة" تشمل رفعاً جزئياً للعقوبات الأمريكية مقابل عودة طهران للالتزام ببنود الاتفاق، بل إن لافروف نفسه قال إنه على طهران التصرف بعقلانية وألا تتوقع رفعاً كاملاً للعقوبات الأمريكية مرة واحدة.
هذا التغير في الموقف الروسي يرجع بالطبع إلى التوتر المتصاعد بين موسكو وواشنطن وأوروبا على خلفية العقوبات التي تم فرضها على روسيا، على خلفية محاولة تسميم ثم اعتقال المعارض الروسي أليكسي نافالني الذي يقضي عقوبة السجن حالياً، وبالتالي فإن طهران تجد الآن حليفاً لها في الملف النووي لم يكن موجوداً بتلك القوة خلال الفترة السابقة، وهو ما قد يفسر الإعلان الإيراني عن رفع نسبة التخصيب إلى 60%، بغض النظر عن مدى قدرة طهران بالفعل على البدء في ذلك فوراً من عدمها.