منذ انتهاء الحرب ضد داعش وهزيمة التنظيم تحولت ميليشيات الحشد الشعبي في العراق إلى رقم صعب على جميع المستويات، وليس فقط مستوى الولاء لإيران والعداء للوجود الأمريكي، فما قصة تلك الميليشيات ومدى تأثيرها في حياة العراقيين اليومية؟
ويرجع تشكيل ميليشيات الحشد الشعبي إلى عام 2014، حين كانت صفوف المتطوعين تمتد في شوارع العراق استجابة للدعوة التي أطلقها رئيس الوزراء وقتها نوري المالكي، لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش)، إذ أدى انهيار الجيش العراقي إلى وقوع معظم مسؤولية دحر متطرفي تنظيم داعش على عاتق الميليشيات ذات الغالبية الشيعية، وكان هذا القتال معركة من أجل استعادة روح العراق بالنسبة لكثيرين في مدينة الناصرية.
ورصد تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية مسار تلك الميليشيات منذ التأسيس وحتى اليوم، كاشفاً عما أصبحت تمثله في بلاد الرافدين على المستوى السياسي والاقتصادي، ومدى تأثيرها في الحياة اليومية للعراقيين، إضافة إلى دورها في قمع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد الفساد.
بداية تشكيل الحشد الشعبي
وقال ثامر الصافي، مقاتل سابق في إحدى الميليشيات المحلية، متذكراً معارك عام 2014 التي قُتل فيها اثنان من أشقائه، للصحيفة الأمريكية: "كان الأمر يخص شيئاً واحداً فقط، وهو الدفاع عن مستقبلنا.. الدفاع عن العراق".
ونتج عن تلك التعبئة الجماهيرية عام 2014 تداعيات بعيدة المدى، حيث دخلت الميليشيات المنتصرة ضمن مستويات السلطة العليا في العراق، على نحو وضعها على مسار مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، وصعَّدت تلك الميليشيات، بدعم من إيران في كثير من الحالات، هجماتها الصاروخية على المواقع العسكرية الأمريكية في السنوات الأخيرة، مهددة بإشعال حرب أوسع بين الولايات المتحدة وإيران، في وقت يتحدث فيه كبار المسؤولين في واشنطن وطهران عن استعادة الاتصالات الدبلوماسية.
لكن بينما كان بعض المسؤولين الأمريكيين ينظرون إلى هذه الميليشيات باعتبارها مجرد وكيلة لإيران في حملتها لتوسيع نفوذها الإقليمي، ترسخت هذه الجماعات المسلحة بعمق في نسيج المجتمع العراقي، حيث خرجت من رحم تاريخه المضطرب.
وتعود جذور بعض هذه الجماعات المسلحة إلى عقود مضت، وتأسست شبكتهم الرسمية، المعروفة باسم "قوات الحشد الشعبي"، في عام 2014، بدعم واسع النطاق من جميع أنحاء جنوب العراق الشيعي، بعد أن استجاب عشرات الآلاف لدعوة المالكي وآية الله علي السيستاني، المرجعية الدينية الشيعية العليا في العراق، إلى محاربة مقاتلي تنظيم داعش.
لكن الآن، ومع انزعاج بعض العراقيين من هذه الميليشيات المدعومة من إيران، تمتد الشكاوى إلى ما هو أبعد من نفوذ طهران لتشمل مخاوف بشأن ما أصبحت عليه هذه الجماعات والوعود التي قطعوها ولم ينفذوها.
قوة اقتصادية فاعلة في العراق
وباتت هذه الميليشيات حالياً مراكز قوة اقتصادية في جميع مؤسسات الدولة وأداة فاعلة في يد النظام السياسي، فعندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، استطاعت تلك الجماعات المسلحة المدعومة من إيران قمعها بقوة مميتة، بالإضافة إلى أنَّ جماعات حقوق الإنسان كثيراً ما اتهمت تلك الجماعات بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق.
وقال عبد الله، متطوع سابق في إحدى الميليشيات يبلغ من العمر 58 عاماً وتحدث للصحيفة الأمريكية، مثله مثل الآخرين، شريطة عدم كشف اسمه بالكامل خوفاً من الانتقام: "شعرت بالندم لأنَّني سمحت لأخي، حيدر، بالقتال. أدعو الله كل يوم أن يمنحني العمر والقدرة للاعتناء بأطفاله بعد أن قتله قنّاص من تنظيم داعش في خريف عام 2014".
وفي مدينة الناصرية ذات الغالبية الشيعية، تصطف صور وجوه ضحايا -مثل حيدر- في الشوارع على لوحات إعلانية باهتة تتحدث عن مقدار التضحية التي قدمتها هذه المدينة المتهالكة لهزيمة تنظيم داعش. تظهر وجوه مثل هؤلاء "الشهداء" -كما يطلق عليهم سكان المدينة- على نحوٍ بارز في حملات تجنيد أفراد الميليشيات.
تلقت عائلات هؤلاء الشهداء تعويضاً عن وفاة ذويهم يتمثَّل في قطعة أرض ومبالغ شهرية من اللجنة الجامعة التي تدير جميع شؤون الحشد الشعبي، لكن بالنسبة لبعض العائلات الأكثر فقراً، بدأت هذه المزايا تتبدد الآن، الأمر الذي يغذي الاستياء من الميليشيات التي اعتمدت عليها تلك العائلات باعتبارها شبكة أمان اجتماعي.
تحتفل بعض عائلات القتلى في جميع أنحاء مدينة الناصرية، وكذلك في مدن الجنوب، علناً بشجاعة أبنائهم، لكنهم يشعرون بأنَّ الميليشيات التي مات ذووهم من أجلها قد تخلت عنهم، وقال ستار البالغ من العمر 59 عاماً: "لقد وعدونا بالأراضي والتعويضات المالية. عندما ذهبت آخر مرة إلى مكاتبهم قلت لهم ليتني لم أرسل ابني قط ليموت شهيداً".
كان ابنه، مشتاق، يبلغ من العمر 18 عاماً عندما أصيب بجروح خطيرة أودت بحياته أثناء القتال في صفوف "منظمة بدر" العراقية المرتبطة بإيران في عام 2015، وقالت العائلة إنَّها تلقت من منظمة بدر حتى العام الماضي مبلغ 900 ألف دينار عراقي شهرياً، أي ما يعادل تقريباً 600 دولار أمريكي. لكن توقفت تلك الدفعات منذ ذلك الحين دون تقديم أي تفسير واضح.
استهداف القوات الأمريكية
وعلى الرغم من أنَّ شبكة الفصائل المسلحة العراقية تضم مجموعات من معظم الطوائف الدينية في البلاد، تهيمن الفصائل الشيعية على قائمة الفصائل المسلحة في العراق، والعديد منها مدعوم من إيران.
وشكّلت ميليشيات شيعية بارزة، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وحركة النجباء ومنظمة بدر، مصدر قلق كبيراً للمسؤولين الأمريكيين الذين اتهموا العديد منها في الأشهر الأخيرة باستخدام جماعات واجهة لشن هجمات صاروخية على مرافق عسكرية ودبلوماسية تابعة للولايات المتحدة. أسفرت هذه الهجمات عن مقتل أفراد أمريكيين وأجانب آخرين، فضلاً عن مواطنين عراقيين. شنت الولايات المتحدة في عدة حالات ضربات انتقامية أسفرت عن مقتل أفراد من تلك الميليشيات.
أدى اغتيال إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، للقائد الإيراني البارز، قاسم سليماني، وزعيم قوات الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، في بغداد بداية العام الماضي إلى تصعيد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران على الأراضي العراقية.
ومع إعلان بعض الميليشيات عزمها على طرد الجيش الأمريكي من العراق، لا تزال هناك مخاطر بسقوط مزيد من القتلى وتصعيد العنف بين الولايات المتحدة وإيران. ولم يستجب مسؤولون من هيئة الحشد الشعبي لطلبات صحيفة The Washington Post المتكررة من أجل التعليق.
كانت جماعات مسلحة مثل منظمة بدر، التي تأسست عام 1982 في المنفى بإيران، جهة فاعلة في السياسة العراقية قبل فترة طويلة من هذا الصراع الأخير، وكانت قادرة على تجنيد المقاتلين عندما سيطر مقاتلو تنظيم داعش على مدن عراقية كبرى مثل الموصل وتكريت في الشمال، إذ كانت منظمة بدر تمتلك شبكة واسعة من المكاتب وكان العديد من المجندين تربطهم بالفعل صلات بها.
وقال عبدالستار عن نجله: "كان أصدقاؤه يجمعون المال، وكان مكتب منظمة بدر هو الأقرب، لذا وافق على التسجيل هناك"، مشيراً أنَّهم أخذوا هؤلاء الشباب على الفور إلى خطوط المواجهة الأمامية بدون تدريب.
تستخدم قوات الحشد الشعبي أموالاً من الموازنة العامة الاتحادية للعراق، لدفع التعويضات المالية الشهرية لعائلات ضحايا الحرب، لكن ثمة قدر ضئيل من المساءلة فيما يخص أوجه صرف هذه الأموال. وفقاً لورقة بحثية أعدّها المعهد الملكي للشؤون الدولية (Chatham House)، فإنَّ مسؤولية اتخاذ القرارات المتعلقة بتمويل الجماعات المسلحة وحجم التمويل المقرر تقديمه لها تقع على عاتق لجنة مكوّنة من كبار قادة الميليشيات وغير خاضعة لإشراف الحكومة.
تخصص الميزانية الوطنية العراقية حوالي 68 مليون دولار لشراء أراض لأسر الشهداء، لكن وفقاً لـ"مؤسسة الشهداء العراقية"، خُصّصت 3500 قطعة أرض فقط لأقارب الضحايا الذين قاتلوا مع الميليشيات منذ عام 2014.
تقول بعض العائلات العراقية إنَّها تعتقد أنَّ صرف تعويضاتها المالية قد توقف لأنَّها لم تعد مفيدة للميليشيات، في حين قال آخرون إنَّهم لم يحصلوا على أي توضيح بشأن هذا الأمر.
على الجانب الآخر، قال مسؤولون من مؤسسة الشهداء، معنيون بمسألة تخصيص المدفوعات وتوزيعها إنَّهم ليسوا على دراية بوجود مشكلات، مشيرين إلى أنَّ التعطيلات البيروقراطية قد تكون السبب في هذا التأخير.
"أريد الدفاع عن بلدي"
في منزل صغير مبني على أرض خُصّصت لتعويض أسر الشهداء على أطراف مدينة الناصرية، ثمة صورة معلقة لأحد المقاتلين الشهداء -اسمه علي- يرتدي زياً عسكرياً أخضر اللون ويظهر في الصورة بجانب أحد المزارات الشيعية المقدسة في العراق.
قال والده عماد، إنَّه تشاجر مع نجله -الذي كان في أوائل العشرينيات من عمره- بسبب قراره إغلاق نشاطه التجاري المزدهر في مجال الإلكترونيات للانضمام إلى "حركة النجباء".
يتذكر عماد قائلاً: "أخبرته أنَّ العراق لا يستحق أن تموت من أجله، كل ما سيطلبه منك هذا البلد هو واجبات، ولن يمنحك أي حقوق". لكنه قال له: "أريد الدفاع عن بلدي". لقي الشاب حتفه في عام 2016 أثناء محاولته نزع فتيل عبوة ناسفة في مدينة سامراء.
تعيش عائلة عماد على بقعة أرض قاحلة ومنفصلة عن شبكة الصرف الصحي في المدينة. يقول عماد: "ثمة شعور عام بالإحباط لدى العديد من العائلات مثلنا".
من جانبه، أوضح حسين، شقيق علي، أنَّه انضم إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة في محاولة منه لإنقاذ العراق، قائلاً: "لقد انضم شقيقي إلى القتال لنفس السبب الذي دفعني للانضمام إلى الاحتجاجات، نحن نهتم بوطننا، لم يكن شقيقي سينضم إلى الميليشيات قط إذا كان يعرف ما سيحدث لاحقاً".