مع عودة التوتر بين روسيا وأوكرانيا وظهور التهديدات الروسية ضد كييف، يثار تساؤل هل تتجدد الأزمة الأوكرانية التي وقعت عام 2014 والتي توصف بأنها أكبر أزمة أمنية في أوروبا منذ الحرب الباردة؟ وهل يخذل الغرب أوكرانيا مجدداً بعدما ورطها في مواجهة الدب الروسي؟
ووجهت روسيا، مؤخراً، تحذيراً مباشراً إلى الدول الغربية، من إرسال جنود إلى أوكرانيا، وذلك بعد أن وجَّهت كييف اتهامات إلى موسكو بحشد عسكري عند الحدود بين البلدين؛ ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التعهد بالوقوف إلى جانبها في حالة إقدام روسيا على أي "اعتداء" عليها.
وتعيد هذه التطورات إلى الأذهان الأزمة الأوكرانية عام 2014 التي أفضت إلى احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم وضمها، إضافة إلى انفصال إثنين من الأقاليم شرقي أوكرانيا برعاية ودعم روسيين.
وبينما اتخذت الولايات المتحدة وحلفاؤها إجراءات عقابية كبيرة ضد روسيا، إلا أنهم لم يحرزوا تقدماً يُذكر في المساعدة على استعادة وحدة أراضي أوكرانيا.
وما زالت أوكرانيا وأغلب دول العالم لا تعترف بهذا الوضع، فيما تعهد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي باستعادة أراضي بلاده، وتزامن ذلك مع تصعيد أمريكي وبصورة أقل أوروبي ضد روسيا، قابلته الأخيرة بتصعيد التوتر مع أوكرانيا.
ويزداد تعقد الموقف بإجراء الناتو مناورات في البحر الأسود وسط تدني العلاقات الروسية الأمريكية إلى أدنى مستوى لها منذ عقود بعد أن وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الروسي بالقاتل، مما أدى إلى سحب روسيا لسفيرها من واشنطن.
وكما حدث في عام 2014، تبدو أوكرانيا الهدف الأضعف الذي يمكن لروسيا مناوشة ومعاقبة الغرب من خلاله، وساحة تستطيع موسكو من خلالها استعراض قدراتها العسكرية الأمنية في مواجهة دولة فقيرة وأضعف كثيراً من روسيا وأقل سكاناً، ويزيد الطين بلة بالنسبة لأوكرانيا النفوذ الروسي الذي لا يمكن إنكاره على قطاع كبير من الشعب الأوكراني.
ويبدو سؤال الساعة هو: هل يخذل الغرب أوكرانيا مجدداً؟ ولماذا تبدو المقاربة الغربية في التعامل مع أوكرانيا خاطئة منذ بدايتها؟
أحداث الأزمة الأوكرانية في 2013 و2014
بدأت الأزمة الأوكرانية في 21 نوفمبر/شباط 2013، عندما علق الرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش الاستعدادات لتنفيذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
وأثار القرار احتجاجات حاشدة من مؤيدي الاتفاقية، أدت إلى اندلاع ثورة أطاحت بيانوكوفيتش في فبراير/شباط 2014.
وتسببت الإطاحة بيانوكوفيتش في اضطرابات في المناطق الشرقية والجنوبية الناطقة بالروسية إلى حد كبير حيث حصل يانوكوفيتش على معظم الأصوات التي أوصلته للحكم.
وعقب ذلك غزت روسيا بعض مناطق أوكرانيا وضمت منطقة شبه جزيرة القرم الأوكرانية (ذات غالبية روسية وعبر استفتاء انتقده خصوم روسيا)، وشجع الغزو الروسي الأوكرانيين الناطقين بالروس الذين كانوا في حالة احتجاج أصلاً على عزل يانوكوفيتش، وتطورت الاضطرابات في ولايتي دونيتسك ولوهانسك إلى تمرد موالي لروسيا ضد الحكومة الجديدة يدعمه ويساعده الجيش الروسي وقواته الخاصة.
دولة مهمة أكثر مما يبدو عليها
لدى أوكرانيا أهمية استراتيجية على مدى التاريخ لم تحظ دوماً بالعناية الكافية.
واليوم، يبدو أن البلاد في الخطوط الأمامية لتنافس متجدد بين القوى العظمى يقول العديد من المحللين إنه سيهيمن على العلاقات الدولية في العقود المقبلة.
ويمكن معرفة أهمية أوكرانيا من حقيقة أنها كانت الجمهورية الأكثر أهمية في الاتحاد السوفيتي السابق بعد روسيا، فلقد كانت الثانية في السكان والثالثة في المساحة، وكانت سلة قمح الاتحاد السوفيتي (وما زالت منتجاً مهماً للحبوب) وموطناً مهماً للصناعات السوفيتية الثقيلة والعسكرية والتكنولوجية (ورثت قدرات مهمة في هذا المجال رغم جمودها).
كان الأوكراني المواطن رقم اثنين في الاتحاد السوفيتي بعد الروس من بين 15 جمهورية.
كما أن أوكرانيا كانت تمثل ممر الاتحاد السوفيتي الأساسي للبحر الأسود.
اللهفة على الغرب لا تعكس حقيقة هوية أوكرانيا
في الانتخابات الأخيرة، أشار الأوكرانيون بوضوح إلى أنهم يرون مستقبلهم في أوروبا.
لكن هذه اللهفة تخفي حقيقة وضع أوكرانيا المعقد، فأوكرانيا كانت دوماً إقليماً انتقالياً بين روسيا وبقية أوروبا، ولذا بقدر ما هناك مؤثرات أوروبية كبيرة في هذه البلاد، (جاءت عن طريق بولندا بشكل كبير) فإنها في الواقع جزء من العالم السلافي الكبير الذي تمثل روسيا محوره (وتعد روسيا البيضاء المكون الثالث فيه).
بينما يتطلع نسبة كبيرة من الأوكرانيين (على الأرجح أغلبيتهم) ليكونوا جزءا من أوروبا أو بالتحديد الاتحاد الأوروبي، ورغم نظرتهم السلبية لتاريخ ارتباطهم مع روسيا، فإن الواقع أن البلدين تربطهما روابط ثقافية واقتصادية وسياسية عميقة.
ما هي مصالح روسيا في أوكرانيا؟
تعتبر أوكرانيا من نواح كثيرة مركزية لهوية روسيا ورؤيتها لنفسها في العالم، فنشأة الهوية والأمة الروسية الأولى كانت في أوكرانيا وعاصمتها كييف واسم روسيا جاء في الأغلب من اسم دولة "روس كييف" التي تمثل أول دولة سلافية شمالية والتي يعتبرها الروس السلف الأول لدولتهم التي نشأت حول موسكو بعد ذلك.
ومن المعروف أن الأوكرانيين والروس والبيلاروس يشتركون في أنهم ينتمون للعرق السلافي، الذي يتضمن أغلب شعوب أوروبا الشرقية (البولنديين، والتشيك والسلوفاك، والصرب، والكروات، والسلوفينين، والبلغار).
ولكن الأوكرانيين والروس والبيلاروس تحديداً يشكلون فرعاً محدداً من العرق السلافي يطلق عليه "السلافيون الشماليون"، وتحول هذا العرق إلى شكل الدولة لأول مرة في أوكرانيا وليس روسيا، قبل أن ينتقل المركز الحضاري للسلاف الشماليين لموسكو بسبب الغزوات المغولية.
ويشار إلى كييف، عاصمة أوكرانيا، أحياناً على أنها "أم المدن الروسية"، على قدم المساواة من حيث التأثير الثقافي مع موسكو وسانت بطرسبرغ.
وفي كييف في القرنين الثامن والتاسع تم جلب المسيحية من بيزنطة إلى الشعوب السلافية الشمالية.
وكانت المسيحية بمثابة المرساة لدولة روس كييف، الدولة السلافية المبكرة التي استمد منها الروس والأوكرانيون والبيلاروسيون نسبهم.
وبينها تعرضت أوكرانيا لتأثيرات تترية وبولندية كبيرة (جراء خضوعها لحكم البولنديين والتتار لقرون)، فإن روسيا القيصرية طردت الدولتين، ثم قضت عليهما، وسيطرت على أوكرانيا وحاولت سواء في العصر القيصري أو السوفيتي فرض التأثير الروسي على البلاد.
النتيجة أن ما يقرب من ثمانية ملايين من أصل روسي يعيشون في أوكرانيا، وفقاً لتعداد عام 2001، معظمهم في الجنوب والشرق، حيث تشير تقديرات إلى أن الروس يمثلون نحو 17% من السكان، وزعمت موسكو أن من واجبها حماية هؤلاء الأشخاص كذريعة لأفعالها في أوكرانيا.
ولكن اللغة الروسية أكثر انتشاراً في أوكرانيا من الروس، إذ يعتقد أنه في عام 2001 كان نحو 30% من السكان يتكلمون الروسية، كلغة أولى، كما كانت اللغة الروسية هي اللغة المهيمنة فعلياً خلال العهد السوفيتي رغم أن الأوكرانية اللغة الرسمية.
وتصل نسبة المتكلمين باللغة الروسية 2001 إلى نحو 74.9% و68.8% في إقليمين من أقاليم شرق البلاد المتاخمة لروسيا، وبصفة عامة تنتشر الروسية في جنوبي وشرقي البلاد وبصورة أقل الشمال، فيما تسود الأوكرانية في وسط وغربي البلاد.
وبعد الانهيار السوفيتي، اعتبر العديد من السياسيين الروس أن الطلاق مع أوكرانيا خطأ في التاريخ وتهديد لمكانة روسيا كقوة عظمى. فقد اعتبر الكثيرون أن خسارة السيطرة الدائمة على أوكرانيا، والسماح لها بالسقوط في الفلك الغربي، بمثابة ضربة كبيرة لمكانة روسيا الدولية.
لماذا تحظى شبه جزيرة القرم بكل هذه الأهمية؟
كانت شبه جزيرة القرم منطقة استراتيجية لروسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي من بعده.
وأهميتها جعلت موسكو توطن الروس فيها بكثافة بدلاً من الأوكرانيين بعد إسقاط دولة خانية القرم المسلمة التي كانت تابعة للدولة العثمانية وكانت تحكم المنطقة، لتصبح القرم مستوطنة روسية في قلب أوكرانيا (سكان القرم الأصليون هم تتار القرم وهم مسلمون من العرق التركي).
وفي فترات طويلة من العصر السوفيتي كانت القرم جزءاً من روسيا وليس أوكرانيا إلى أن نقل الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف تبعية شبه جزيرة القرم من روسيا إلى أوكرانيا في عام 1954 لتقوية "العلاقات الأخوية بين الشعبين الأوكراني والروسي".
ومع ذلك، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، كان يتوق العديد من القوميين الروس في كل من روسيا وشبه جزيرة القرم إلى عودة شبه الجزيرة لروسيا. ومدينة سيفاستوبول بالقرم هي الميناء الرئيسي لأسطول البحر الأسود الروسي الذي يعد القوة البحرية المهيمنة في المنطقة.
التجارة.. كلاهما يحتاج للآخر
كانت روسيا تعد الشريك التجاري الأكبر لأوكرانيا، على الرغم من أن هذا الارتباط قد تلاشى في السنوات الأخيرة. قبل غزوها لشبه جزيرة القرم، كانت روسيا تأمل في جذب أوكرانيا إلى سوقها الموحدة، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي يضم اليوم أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان.
كما زودت روسيا أوكرانيا بمعظم احتياجاتها من الغاز حتى غزو القرم، وبعد ذلك تراجعت هذه الواردات ثم توقفت تماماً في عام 2016. ومع ذلك، لا تزال روسيا تعتمد على خطوط الأنابيب الأوكرانية لضخ الغاز إلى العملاء في وسط وشرقي أوروبا، وتدفع مليارات الدولارات لكل سنة كرسوم العبور إلى كييف.
في أوائل عام 2020، كانت روسيا على وشك الانتهاء من خط أنابيب نورد ستريم 2، وهو خط أنابيب غاز يمر عبر بحر البلطيق حذر البعض من أنه قد يحرم أوكرانيا من الإيرادات الأساسية للغاز الروسي.
ومع ذلك، تعاقدت روسيا لمواصلة نقل الغاز عبر أوكرانيا لعدة سنوات أخرى.
أوكرانيا أمة منقسمة
ما قد يكون أخطر من التهديد الروسي على أوكرانيا هو الانقسام الداخلي العميق، فالبلاد مقسمة بين المتحدثين باللغة الأوكرانية في الغرب والوسط المتحدثين بالروسية في المناطق الشرقية، وكل منطقة لها ذاكرة جماعية لعلاقاتها الثقافية مع إمبراطوريات هابسبورغ أو الإمبراطوريات الروسية.
ففي مقابل النظرة الروسية لأوكرانيا كجزء من مفهوم روسيا الواسعة، ينقسم الأوكرانيون حول الموقف من روسيا، فالمناطق الشرقية والجنوبية أقرب حضارياً لروسيا بينما المناطق الغربية أقرب لأوروبا والشعور القومي الأوكراني فيها أقوى.
في الجزء الغربي من البلاد، يشعر الأوكرانيون بمرارة خاصة من حقيقة أن الحكم الشيوعي من موسكو كان قاسياً عليهم بشكل خاص في بعض الأحيان.
أما الوسط الأوكراني بما في ذلك العاصمة كييف، فهو يجمع النهجين مع ميل أكبر للقومية الأوكرانية والعداء لروسيا والرغبة في التقارب مع الغرب.
نخب موالية للغرب وموسكو
وانعكس هذا الانقسام والتدخل الروسي والغربي على السواء، والفشل الاقتصادي للبلاد التي أصبحت من أفقر البلاد في أوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في تقلبات سياسية أدت إلى وصول قوى موالية للغرب تارة وموالية لروسيا تارة أخرى.
وكانت روسيا عازمة على الحفاظ على نفوذها السياسي في أوكرانيا وفي جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق، لا سيما بعد أن خسر مرشحها المفضل لمنصب الرئيس الأوكراني في عام 2004، فيكتور يانوكوفيتش، أمام منافس إصلاحي كجزء من الحركة الشعبية المسماة بالثورة البرتقالية.
والمفارقة أن يانوكوفيتش أصبح فيما بعد رئيساً لأوكرانيا، في عام 2010، بسبب استياء الناخبين من الحكومة البرتقالية، إلى أن تمت الإطاحة به في بداية الأزمة الأوكرانية في عام 2013.
كان خطأ الغرب الأول هو أنه شجع الخلط بين سخط الأوكرانيين من الفساد ورغبتهم في الديمقراطية والإصلاح وبين قضية الهوية.
فالقوى التي لاقت تأييد الغرب باعتبارها قوى إصلاحية (وكثيراً منها لم تكن كذلك)، هي بدورها قوى معادية لروسيا، وهو أمر استفز موسكو، وكذلك الأوكرانيين الروس، والأوكرانيين المروسين (أي الأوكرانيين المتأثرين بالثقافة الروسية).
المشكلة أنه لم يظهر فارق كبير بين فساد وفشل النخب الموالية لروسيا عن تلك المدعومة من الغرب، ولكن تحويل الصراع من صراع سياسي إلى صراع هوياتي أي بين أوكرانيا القريبة من روسيا وأوكرانيا الأوروبية جعل البلاد في حرب أهلية فعلية.
لأن الشيء الذي أغمض الغرب عينيه عنه أن التأثير الثقافي الروسي على أوكرانيا لا يمكن تجاهله لأنه ليس تاريخياً فقط بل هو واقع معاصر وموجود بشكل واضح حتى لو لم يمثل الأغلبية.
كان الخطأ الثاني، والمتكرر أنه بينما شجع الغرب الأوكرانيين عن الابتعاد عن روسيا، فإنه لم يوفر لها الدعم الاقتصادي ولا السياسي ولا العسكري لمواجهة تبعات إغضاب الدب الروسي الذي يفوق أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً بشكل هائل كما أنه يمتلك أنصاراً ومؤيدين داخل أوكرانيا.
النموذج الفنلندي
كان على الغرب أن يسلك أحد طريقين، طريق الاعتراف بأن تركيبة أوكرانيا الإثنية وتاريخها الجغرافي تفترض أنها منطقة وسط بين روسيا وأوروبا، وهذا ما يعني مراعاة مصالح روسيا والأهم مصالح الأوكرانيين والأوكرانيين المروسين.
وهذا ما تقبله الغرب مع دول أكثر أوروبية وحداثة وجارة لروسيا وهي فنلندا.
فهذا البلد الاسكندنافي الصغير الذي يختلف إثنيا عن روسيا (ولكن خضع لحكمها) قامت سياسته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الحياد عن المعسكرين السوفيتي والغربي مع علاقة وثيقة مع الاتحاد السوفيتي (وصلت إلى قدر من النفوذ السوفيتي بما في ذلك منع انتقاد موسكو)، وتقبل الغرب هذه السياسة التي نجحت حتى في ذروة عدوانية الاتحاد السوفيتي.
فمن الغريب أن تنجح سياسة الحياد مع دول مثل فنلندا والسويد وهما تقليدياً جزء من أوروبا الغربية، بينما تفشل مع أوكرانيا التي هي أقرب لروسيا ومنطقة بطبيعتها انتقالية بين الحضارة السلافية الأرثوذكسية وبين أوروبا الوسطى (التي أيضاً سلافية بتأثيرات غربية كاثوليكية قوية).
أما الخيار الثاني، فكان تشجيع أوكرانيا على الابتعاد عن روسيا والاقتراب من الغرب بما في ذلك الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ولكن قبل ذلك تقويتها اقتصادياً وعسكرياً لتصبح "لقمة صعبة الهضم" على الدب الروسي، بحيث يؤدي أي عدوان روسي إلى خسائر، تجعل موسكو تتردد في تنفيذه (هذا لا يعني افتراض أنه يمكن لأوكرانيا أن تهزم روسيا يوماً، ولكن المقصود جعل هزيمة كييف مكلفة بما فيها الكفاية لموسكو لإعادة النظر في الأمر).
ولكن واقعياً فعل الغرب أسوأ ما في الخيارين، شجع أوكرانيا على الانفصال عن روسيا (دون مراعاة المكون الداخلي الأوكراني الروسي) ولم يقوها لمواجهة العدوانية الروسية.
ويزيد من الإثم الأخلاقي للغرب وتحديداً أمريكا، أن أوكرانيا ورثت أسلحة نووية تركها الاتحاد السوفيتي على أراضيها بعد انهياره وتخلت عنها بموجب اتفاق ثلاثي مع روسيا وأمريكا بشرط توفير ضمانات أمنية لها، وهو لم يحدث بطبيعة الحال.
وهكذا نتجت أزمة أوكرانيا عن محاولات توسع الناتو (منظمة حلف شمال الأطلسي) والاتحاد الأوروبي، وفشل مشروع "الديمقراطية" الذي حاول الغرب إقامته داخل أوكرانيا، إضافة إلى إخفاق الدول الغربية في مراعاة المصالح الاستراتيجية الروسية، ومن الافتقار إلى الحذر من قبل الشخصيات الغربية الرئيسية الذين لم يتوقعوا عواقب أفعالهم.
وترك الغرب أوكرانيا فريسة لروسيا، وعندما تحرك الروس والانفصاليون الموالون لهم في عام 2014، واجهوا جيشاً أوكرانياً مهلهلاً، وضعيفاً يعتمد على أسلحة ورثها من الاتحاد السوفيتي، (والمفارقة أنه على الأرجح أن صيانة هذه الأسلحة تحتاج إلى دعم فني روسي).
كان يمكن إما عدم استفزاز الروس في حديقتهم الخلفية، أو استفزازهم مع تزويد أوكرانيا بأدوات القوة.
وحتى بعد أن وقعت الأزمة الأوكرانية عام 2014 وخسرت كييف جزءاً من أراضيها، رفضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تسليح أوكرانيا في مواجهة روسيا، وظلت كييف على وضعها الضعيف عسكرياً واقتصادياً رغم الإمكانات الكامنة لديها (البلاد عدد سكانها الإجمالي نحو 48 مليوناً و41 مليوناً بدون المناطق المحتلة والمنفصلة) .
بل إن ألمانيا تعاونت مع روسيا في إنشاء خط أنابيب السيل الشمالي، والذي لن يجعل فقط أوروبا تعتمد على الغاز الروسي، بل يعني وقف مرور الغاز الروسي عبر أوكرانيا وما يترتب على ذلك من إضعافها اقتصادياً والإطاحة بورقة ضغط في يد كييف أمام الدب الروسي.
واليوم ما زالت أوكرانيا تعاني من مشكلات في قدراتها العسكرية في ظل غياب دعم عسكري فعال من الغرب لها، (المفارقة أن واحدة من أبرز الدول التي تتعاون مع أوكرانيا في مجال الصناعات العسكرية هي تركيا التي باعت لكييف طائرات بدون طيار وسفناً حربية وهناك مشروعات لإنتاج صواريخ كروز بينهما، مقابل تزويد كييف لأنقرة بمحركات لأسلحتها).
هل يخذل الغرب أوكرانيا مجدداً؟
لا يبدو أن هناك جديداً في الأزمة الأوكرانية الحالية، فكل طرف يتهم الآخر بالمسؤولية، ومن الصعب معرفة هل التهديدات الروسية لأوكرانيا نابعة من خوف موسكو من سياسات الرئيس الأوكراني الحالي للتقارب مع حلف الناتو وسعيه لتقوية الجيش ورغبته في استعادة أراضي بلاده المسلوبة.
أم أن الواقع أن موسكو تستبق التصعيد الأمريكي والأوروبي في عهد بايدن باستهداف أوكرانيا، كورقة ضغط على الغرب.
أيا كان البادئ، فإن فارق القوة الهائل بين روسيا وأوكرانيا يهدد بإشعال أزمة مماثلة لما حدث في عام 2014.
وتحتاج أوكرانيا مجدداً إلى خيارين واضحين، أما دعم غربي فعال يشمل مساعدات عسكرية واقتصادية ضخمة والاستجابة لطلب رئيس أوكرانيا بضم بلاده للناتو، مع توفير حماية من الحلف بطريقة تجعل البلاد ساحة الدفاع عن أوروبا بشكل يعيد للأذهان حالة ألمانيا خلال الحرب الباردة (حيث كانت تحتشد فيها جيوش الناتو)، بحيث يصبح أي عمل عسكري روسي محتمل يواجه خطر الصدام مع الناتو.
وهو حل لا يرتبط بأوكرانيا فقط، بل بمدى استعداد المجتمعات الغربية للعودة لحالة التهديد باحتمال وقوع حرب نووية كما كان الحال خلال فترة الحرب الباردة.
كما يستلزم هذا الحل إيجاد آليات للتمييز بين احتمالات المناوشات بين الانفصاليين الشرقيين المدعومين من روسيا مع القوات الأوكرانية، وبين أي تهديد خطير من الجيش الروسي للبلاد الذي يستلزم رداً من الناتو برمته.
في المقابل، هناك حل في اتجاه مختلف تماماً، يتضمن تحويل أوكرانيا إلى فنلندا جديدة بحيث تتعهد بألا تصبح منطلقاً للناتو ضد روسيا (وقد تطلب موسكو رفع العقوبات الغربية أيضاً)، مقابل وقف روسيا لأنشطتها العدوانية، وإعادة إلحاق الأقاليم الشرقية الانفصالية بأوكرانيا بوساطة من موسكو مع وضع ترتيبات أمنية وسياسية لهذه الأقاليم.
ولن يعني هذا الخيار إيجاد حل أزمة شبه جزيرة القرم التي لن تقبل روسيا بإعادتها، ولن تسلم كييف بفقدانها، ولكن النقطة الأهم التي يجب أن يشملها هذا الحل هو المصالحة بين المكونات الأوكرانية واعتراف القوميين الأوكرانيين بأن شطراً ليس صغيراً من شعبهم هواه روسي، واقتناع الأوكرانيين الروس والمروسين بأن بلادهم أمة مستقلة.