يحاول الدبلوماسيون الأمريكيون الاعتماد على الأجزاء السرية من اتفاق السلام الذي عقدته الولايات المتحدة مع حركة طالبان في العام الماضي، لإخراج بلادهم من المأزق الذي أصبحت فيه مع اقتراب الموعد المقرر لانسحابها من أفغانستان.
إذ يخوض الدبلوماسيون الأمريكيون مفاوضات مع طالبان حول ملاحق سرية للاتفاقية المبرمة، ومن شأن هذه المفاوضات أن تحدد مصير القوات الأمريكية في أفغانستان، وهل ستنسحب أم تنتهك الاتفاق وتبقى هناك.
والمفارقة أن إحدى نقاط الخلاف الرئيسية بين طالبان وممثلي إدارة بايدن، إصرار الجانب الأمريكي على إبقاء قوات أفغانية موالية لواشنطن تتهم بتنفيذ انتهاكات حقوقية واسعة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
اتفاق الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قدم تنازلات لطالبان
وتتصاعد مطالبات في واشنطن بتأجيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؛ خوفاً من توسيع طالبان هجومها على الحكومة الأفغانية، في ظل عدم توقيع اتفاقية بين البلدين.
وقد توقفت المفاوضات بين الحكومة الأفغانية وطالبان، والتي بدأت في سبتمبر/أيلول، توقفاً فعلياً؛ نظراً إلى أن الجماعة المسلحة ظلت مترددة فيما يتعلق بمناقشة أي اتفاق حكومي مستقبلي أو أي اتفاق لتقاسم السلطة، بينما لا تزال الولايات المتحدة غير ملتزمة بالوفاء بالانسحاب من أفغانستان في 1 مايو/أيار.
وقال نائب الرئيس الأفغاني، أمر الله صالح، لـ"BBC"، في وقت سابق، إنه يعتقد أن الولايات المتحدة قد تنازلت كثيراً لطالبان كجزء من الاتفاقية.
وتبدو هذه المراجعة للاتفاقية أشبه كثيراً بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي أبرمه سلفه باراك أوباما، بدعوى أن الاتفاق مُزرٍ وقدّم تنازلات لإيران (وهو أمر قد يكون حقيقياً)، وقد يكون ذلك علامة على أن النكوص الأمريكي عن الاتفاقات ليس صفة جمهورية فقط.
ولكن الأهم بالنسبة للأمريكيين، أن موقف بايدن الجديد سيجدد التورط الأمريكي بأفغانستان في مواجهة حركة مسلحة تبدو أقل براغماتية من الإيرانيين وأكثر استعداداً لدفع ثمن باهظ مقابل مواقفها المتعنتة.
غير أن الشعور الرسالي الذي بات يميز الليبراليين واليساريين الغربيين، يجعلهم يرون أن من حقهم حماية الشعب الأفغاني من تطرف طالبان، عبر التحالف مع النخبة التي تحكم أفغانستان رغم براغماتيتها وتفككها، وممارستها لانتهاكات لحقوق الإنسان.
ويحاول الدبلوماسيون الأمريكيون الاعتماد على أجزاء من اتفاق السلام الذي عقدته الولايات المتحدة مع حركة طالبان في العام الماضي، وتحديداً الأجزاء التي لم تُرفع عنها السرية من الاتفاقية، والتي حددت الأعمال العسكرية التي يُفترض أن تكون محظورة -من كلا الجانبين- بموجب الاتفاقية الموقعة، وذلك وفقاً لما أفاد به مسؤولون أمريكيون وأفغان ومسؤولون في الحركة
مفاوضات حول بنود سرية
تحولت المفاوضات، التي كانت تدور سراً على مدى أشهر، إلى آخر مخرج للجهود الدبلوماسية التي تضطلع بها إدارة بايدن من أجل إنجاز هدف الحد من العنف، مما قد يُمَكّن الولايات المتحدة من البقاء في البلاد إذا فشلت محادثات السلام الموسعة في إحراز تقدم على مدى الأسابيع القادمة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وبينما تفصلنا أسابيع قليلة عن 1 مايو/أيار (موعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان)، ثمة شعور متنامٍ بالإلحاح والشك يلوح في الأفق أمام جميع الأطراف.
فإذا تعثرت هذه المحادثات، وكذلك المحادثات المنفصلة بين طالبان والحكومة الأفغانية، فسوف تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف تضطر فيه إلى ترك آلاف القوات الأمريكية في أفغانستان بعد تاريخ 1 مايو/أيار.
فذلك هو الموعد النهائي الذي كان من المفترض أن تنسحب قبله القوات العسكرية الأمريكية من البلاد بموجب اتفاقية 2020 بين الإدارة الأمريكية وطالبان، ويمكن أن يأتي ذلك التاريخ في وقت يُرجح أن تبدأ فيه الحركة المسلحة هجوم الربيع ضد قوات الأمن الأفغانية المحاصرة.
سوف تؤدي كلتا الحالتين إلى شبه انتكاسة مؤكدة لأي تقدم أُحرز في الأشهر الأخيرة نحو الوصول إلى تسوية سياسية، برغم المحاولات المحمومة من كلتا الإدارتين الأمريكتين السابقة والحالية، لإنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة.
وقال أسفنديار مير، الباحث بمركز الأمن والتعاون الدولي بجامعة ستانفورد: "الوقت ينفد فعلياً من إدارة بايدن. إذا لم تكن هناك انفراجة على مدى الأسبوعين إلى الأسابيع الثلاثة القادمة، فسوف يحقق بايدن أول إخفاق كبير له على صعيد السياسة الخارجية".
ماذا يقول الملحقان السريان؟
تريد إدارة بايدن تجنب تحقيق انتصار عسكري على أرض المعركة خلال محادثات السلام، عن طريق تقييد العمليات العسكرية لطالبان ضد القوات الأفغانية.
ولذا تخوض الولايات المتحدة مفاوضات مع طالبان حول اتفاقية بشأن ملحقين من اتفاقية 2020 اعتبرتهما إدارة ترامب سريين، وذلك حسبما أوضح مسؤولون أمريكيون وآخرون مطلعون على المفاوضات.
تُخاض هذه المفاوضات الجديدة، التي تستبعد ممثلين من الحكومة الأفغانية، في خضم مأزق مستمر بين طالبان والحكومة الأفغانية، برغم الضغوط التي تمارَس على الطرفين من أطراف دولية وإقليمية؛ كي يلتزما بشكل من أشكال إحراز التقدم.
ماذا ستقدم أمريكا لطالبان في المقابل؟
في مقابل تخفيف طالبان هجماتها على قوات الحكومة، سوف تضغط الولايات المتحدة من أجل إطلاق سراح جميع سجناء طالبان الذين لا يزالون محتجزين عن طريق الحكومة الأفغانية، ورفع عقوبات الأمم المتحدة ضد طالبان: وهما هدفان محددان في الاتفاق الأصلي.
ويبدو أن عديداً من تأجيلات التوصل إلى اتفاق جديد للحد من العنف، ينبع من الاتفاقية الأصلية الموقعة في فبراير/شباط 2020.
فلقد طالبت تلك الاتفاقية، على نحو فضفاض غير محدد، بأن توقف طالبان الهجمات الانتحارية والهجمات واسعة النطاق، مقابل تخفيف القوات الأمريكية هجمات الطائرات المسيرة والغارات، ضمن أنواع أخرى من الهجمات العسكرية.
هل قطعت الحركة علاقتها بالقاعدة؟
وقال مسؤولون، إن كلا الطرفين فسر الشروط تفسيراً مختلفاً، وكلا الطرفين اتهم الطرف الآخر بخرق الاتفاق. كذلك يُفترض أن تقطع طالبان علاقتها بالقاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى، لكن دوائر الاستخبارات الأمريكية لم تشهد إلا تحركات طفيفة نحو إنجاز هذا الهدف.
بموجب الترتيبات الحالية (التي تتضمنها الاتفاقية)، يمكن أن تدافع الولايات المتحدة عن حلفائها من الحكومة الأفغانية إذا تعرضوا لهجوم، لكن طالبان قالت إن الغارات الجوية الأمريكية نُفذت ضد مقاتليها الذين لم يهاجموا القوات الأفغانية.
وتجدر الإشارة إلى أن جداول البيانات الرقمية التي تحتفظ بها طالبان، واطلعت عليها صحيفة The New York Times، تُفَصِّل مئات الانتهاكات الأمريكية المزعومة. إذ يسجلون بالتفصيل جرحى وقتلى الحركة، بجانب الخسائر بين صفوف المدنيين والأضرار التي تعرضت لها الممتلكات.
ومع ذلك، لا تفرّق طالبان غالباً بين العمليات الهجومية التي تنفذها قوات الأمن الأفغانية والعمليات التي تنفذها القوات الأمريكية، بجانب أن عديداً من الحوادث التي استطاعت صحيفة The New York Times التحقق منها بصورة مستقلة بداية من يونيو/حزيران 2020، لم تضم قوات أمريكية.
كانت الشروط الجديدة المتعلقة بحد العنف مصدر خلاف خطير خلال الأشهر السبعة الماضية، في أثناء الاجتماعات التي عُقدت بصفة متكررة في العاصمة القطرية، الدوحة.
ومع نفاد الوقت، تأمل إدارة بايدن تحقيق مزيد من النجاح مع أن هذه المحدثات ما زالت تصل إلى طرق مسدودة.
وقال مسؤلون وخبراء، إن الخطوة الأخيرة من جانب إدارة بايدن لعقد محادثات في تركيا يمكن أن تكون واعدة، لكن طالبان لم توافق بعد على الحضور.
الاتفاق الأمريكي الأفغاني لا يلزم طالبان بوقف إطلاق النار بل تخفيفه
وتعتقد الجماعة المسلحة أن مفاوضات بايدن تتلاعب بالاتفاقية المقترحة للحد من العنف، عن طريق طلب اتخاذ تدابير "صارمة"، مثل وقف استخدام القنابل على جانب الطريق ووقف الهجمات ضد نقاط التفتيش، وذلك وفقاً لأشخاص قريبين من المفاوضات.
ويقول مفاوضو طالبان إنهم يعتقدون أن طلبات الأمريكيين تساوي وقفاً لإطلاق النار، بينما يقول المسؤولون العسكريون الأمريكيون إنه إذا لم تُحدَّد معايير معينة بوضوح، فإن طالبان سوف تغير تكتيكاتها لاستغلال أي ثغرات يعثرون عليها، مثلما فعلوا في الماضي.
طالبان تريد حل هذه القوات المتهمة بانتهاكات حقوقية
ويعتقد بعض مسؤولي طالبان أنه ينبغي حل القوات المدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ووقف عملياتها إذا وافقت الجماعة المسلحة على أي خفض في العنف، حسبما أوضح أشخاص مقربون من المفاوضات، ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت المجموعة قد أثارت هذه المخاوف بصورة مباشرة أم لا.
وبغض النظر عن هذا، الأرجح أن مثل هذا الطلب لن يجد آذاناً مصغية، لأن الجيش الأمريكي ودوائر الاستخبارات ينظران إلى هذه القوات باعتبارها القوات الأشد تأثيراً لدى الحكومة الأفغانية، برغم سلسلة الاتهامات بالانتهاكات الحقوقية الموجهة ضدها.
يقول المحللون إنه من غير المرجح أن تصل الولايات المتحدة وطالبان إلى اتفاق جديد قبل 1 مايو/أيار، إلا إذا كان المسؤولون الأمريكيون عازمين على تقديم تنازلات كبيرة لمنع أي هجوم عنيفٍ هذا الربيع، وهو هجوم يبدو أنه بدأ بالفعل في ظل سلسلة من الهجمات والاغتيالات الكبيرة التي نفذتها طالبان في الأيام الماضية.
غضب كابول من هذه المفاوضات
وانتقد بعض الخبراء التركيز الضيق من جانب الولايات المتحدة على خفض العنف قصير المدى، معتبرين أنه يشتت الجهود الأكبر الرامية إلى الوصول إلى تسوية سياسية بين الحكومة الأفغانية وطالبان.
وقالت لوريل ميلر، المبعوثة الأمريكية السابقة لأفغانستان وباكستان في الإدارتين السابقتين: "من الصعب عليّ رؤية أن المردود الذي تحقق مقابل كمّ الجهد المبذول في مثل هذه المفاوضات هو محاولة الحصول على قدر محدود من خفض العنف بينما يفترض أن تخوض أفغانستان عملية السلام".
وأضاف: "يمكن أن يكون هذا مفيداً للمؤثرات البصرية السياسية عند تغطية أي انسحاب أمريكي. ولكن ما الذي سيجعل هذا يترسخ فيما بعد إذا لم تكن هناك تسوية حقيقية؟ لا شيء".
وتسببت المفاوضات الثنائية من جانب الولايات المتحدة مع طالبان، في حالة غضب لدى مفاوضي الحكومة الأفغانية، الذين يرون أن المحادثات الجانبية تشكل مصدر تشتيت لمحادثات السلام الأوسع. فقد قال أحد مفاوضي الحكومة الأفغانية، الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، إنه حتى لو توصلت الولايات المتحدة وطالبان إلى اتفاق للحد من العنف، فليس من المرجح أن ينتج عن هذا وقف كامل لإطلاق النار.