ربما لم يكن غياب موقف إماراتي داعم دون شروط لمصر في نزاعها مع إثيوبيا بشأن سد النهضة أكثر وضوحاً من بيان أبوظبي الذي صدر اليوم الأربعاء 31 مارس/آذار بعد التهديد المباشر والقاطع الذي أصدره الرئيس المصري بشأن الملف.
فقد تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسي، أمس الثلاثاء 30 مارس/آذار، أثناء احتفاله مع العاملين في هيئة قناة السويس بنجاح جهود تعويم السفينة العملاقة إيفرغيفن وتحرير الممر الملاحي الأهم في العالم بعد إغلاقه لنحو أسبوع، موجهاً رسالة هي الأكثر حدة ووضوحاً بشأن ملف سد النهضة الإثيوبي، بحسب محللين.
السيسي قال: "أنا مبهددش حد، وعمرنا ما هددنا، وحوارنا رشيد جداً"، وتابع: "محدش هيقدر ياخد نقطة مياه من مصر، واللي عاوز يجرب يجرب.. وإلا هيبقى في حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد، ومحدش يتصور إنه يقدر يبقى بعيد عن قدرتنا".
دعم سعودي بحريني عماني صريح لمصر
التصريحات شديدة اللهجة من جانب الرئيس المصري جاءت في وقت وصلت فيه المفاوضات بشأن السد إلى طريق مغلق في ظل التعنت الإثيوبي الواضح والمستمر بشأن قضية تمثل "حياة أو موت" بالنسبة لمصر والسودان، وهما دولتا المصب لنهر النيل الذي شيدت أديس أبابا سد النهضة على رافده الأساسي النيل الأزرق وأكملت مرحلة الملء الأولى بالفعل العام الماضي رافضة التوصل لأي اتفاق قانوني ملزم يضمن للقاهرة والخرطوم حصتهما في مياه النهر.
وعلى الرغم من توقيع مصر والسودان وإثيوبيا على إعلان للمبادئ في الخرطوم في مارس/آذار 2015، كان من المفترض أن يمثل انطلاقة لتفاهم ثلاثي بشأن السد العملاق الذي تكلف نحو 5 مليارات دولار، فإن أديس أبابا تتصرف في القضية من منطلق أنها تمتلك مياه نهر النيل وتشارك في جولات ماراثونية من المفاوضات دون أن تلزم نفسها بأي اتفاق، واتضح ذلك بصورة لا تقبل الشك في الجولات التي استضافتها واشنطن أواخر عام 2019 وبدايات العام الماضي، إذ غابت إثيوبيا عن الجولة الأخيرة للتوقيع على اتفاق تم التوصل إليه بالفعل ثم أعلنت رفضها للاتفاق.
وفي ظل هذا الانسداد في قضية بهذه الأهمية، من الطبيعي أن تظهر مواقف الحلفاء بوضوح ودون مواربة، وهذا ما كشفته ردود الأفعال التي صدرت في أعقاب تحذيرات الرئيس المصري، فقد أصدرت السعودية والبحرين وسلطنة عُمان أمس الثلاثاء 30 مارس/آذار (بعد دقائق من كلمة السيسي) بيانات داعمة للموقف المصري والسوداني في ملف سد النهضة.
وأفادت وكالة الأنباء السعودية الرسمية بأن "المملكة تؤكد دعمها ومساندتها لمصر والسودان، وتؤكد أن أمنهما المائي جزء لا يتجزأ من الأمن العربي"، كما أكدت الرياض "دعمها ومساندتها لأي مساعٍ تسهم في إنهاء ملف سد النهضة وتراعي مصالح كل الأطراف".
وفي البحرين، قالت وزارة الخارجية في بيان، إنها "تتضامن مع مصر في الحفاظ على أمنها القومي والمائي، وتدعم الجهود المبذولة لحل أزمة ملء السد حفاظاً على السلم والاستقرار في المنطقة"، كما أعربت وزارة الخارجية العُمانية، في بيان، عن تضامن مسقط مع القاهرة وتأييدها في جهودها لحل الخلاف حول سد النهضة عبر الحوار والتفاوض وبما يحقق الاستقرار للمنطقة ويحفظ مصالح جميع الأطراف.
أين موقف الإمارات؟
من الطبيعي أن يثار هذا السؤال في ظل التحالف بين مصر والإمارات منذ وصول السيسي إلى الحكم عام 2014، وفي ظل مواقف الدول الأربع (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) التي كانت متطابقة في أغلب القضايا، وتجلى ذلك في الحصار الذي فرضه الرباعي على قطر واستمر لأكثر من ثلاثة أعوام ونصف وصولاً إلى المصالحة وقمة العُلا مطلع العام الجاري.
لكن الموقف الإماراتي مما قاله الرئيس المصري بشأن سد النهضة تأخر حتى عصر الأربعاء 31 مارس/آذار عندما أصدرت الخارجية الإماراتية بياناً عنوانه "تثمين الجهود المصرية في تعويم السفينة"، وتطرق البيان نفسه إلى ملف سد النهضة، فماذا قالت الإمارات؟
نص البيان، كما نشرته وكالة الأنباء الرسمية وام: "ثمنت دولة الإمارات جهود جمهورية مصر العربية الشقيقة في التعامل مع الحادث العرضي في قناة السويس جراء جنوح إحدى السفن ونجاحها في تعويمها، وإعادة الحركة في القناة إلى مسارها الطبيعي بكفاءة عالية، ومهنية ملحوظة وفي وقت قصير، وعبرت عن ثقتها باقتدار وكفاءة الإدارة المصرية لهذا الشريان المائي الحيوي لخطوط الملاحة الدولية والتجارة الدولية والمعبر المهم لإمدادات الطاقة وسلاسل التوريد الحيوية".
كما أكدت دولة الإمارات – في بيان صادر عن وزارة الخارجية والتعاون الدولي – اهتمامها البالغ وحرصها الشديد على استمرار الحوار الدبلوماسي البناء والمفاوضات المثمرة لتجاوز أية خلافات حول سد النهضة بين الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان، وأهمية العمل من خلال القوانين والمعايير الدولية المرعية للوصول إلى حل يقبله الجميع ويؤمن حقوق الدول الثلاث وأمنها المائي، وبما يحقق لها الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة، ويضمن ازدهار وتعاون جميع دول المنطقة.
ولا يحتاج البيان الإماراتي للتفسير، فعنوانه "يدعو إلى حوار بناء" لا يختلف، في الأعراف الدبلوماسية والتعبير عن المواقف، عن بيان صادر عن إثيوبيا نفسها تعليقاً على ما قاله الرئيس المصري، رغم أن السيسي كان واضحاً في قوله إن "مصر لا تهدد أحداً".
ويثير البيان الإماراتي تساؤلات كثيرة، فالدعوة لحوار بناء تأتي كما لو أنه لم يحدث حوار أو مفاوضات أو كأن الأزمة في بدايتها والسد الإثيوبي مجرد مشروع أعلنت أديس أبابا أنها ستشرع في بنائه بينما مصر ترفض. المفاوضات بين الجانبين مستمرة منذ 10 سنوات قدمت مصر خلالها تنازلات لم تكن واردة فيما مضى، وأبرزها إعلان المبادئ نفسه الذي وقعه السيسي، كما وافقت مصر على المقترح الأمريكي رغم أنه كان يشمل تخفيضاً لحصة مصر من مياه النيل طوال سنوات ملء السد ورغم ذلك رفضت إثيوبيا بعد أن وافقت.
لماذا تتخذ الإمارات موقفاً "ضبابياً"؟
الموقف الإماراتي الضبابي، على أقل تقدير، ليس مفاجئاً في ضوء عدد من المؤشرات شهدتها الفترة الأخيرة وكان أحدثها رفض مصر وساطة أبوظبي في ملف سد النهضة، بحسب تقرير لموقع المونيتور الأمريكي، أمس الثلاثاء، إذ أفاد تقرير الموقع بأن القاهرة أبلغت الخرطوم – التي جاء مقترح الوساطة الإماراتية عبرها – أن مصر متمسكة بالتدخل الرباعي الدولي (الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي) في مفاوضات السد المتعثرة.
وقال الكاتب والمحلل المتخصص في الشؤون الإفريقية شفاء العفاري للمونيتور إن المبادرة الإماراتية تأتي في وقت حرج، في ضوء تصعيد عسكري على الحدود السودانية الإثيوبية ووجود تعاون عسكري مصري سوداني غير مسبوق يحمل تحذيرات بتدخل عسكري في أزمة سد النهضة، على حد قوله.
وأشار تقرير الموقع إلى أن الإمارات تمتلك أوراق ضغط قوية يمكن من خلالها أن تؤثر على إثيوبيا، وقال العفاري: "لدى الإمارات استثمارات ضخمة في إثيوبيا وعلاقات وثيقة مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. وتملك كذلك نفوذاً في السودان وتحتفظ بعلاقات استراتيجية مع مصر، إضافة إلى أنها حليف وثيق للقاهرة على صعيد مواجهة التحديات الإقليمية المتنوعة. يجعل هذا منها أفضل وسيط لحل أزمة سد النهضة".
ففي الوقت الحالي هناك 92 مشروعاً استثمارياً إماراتياً في إثيوبيا، وهي متركزة في قطاعات الزراعة والصناعة والعقارات والرعاية الصحية والتعدين، وفي 20 مارس/آذار 2019، قال عبدالله بن أحمد آل صالح، وكيل وزارة الاقتصاد لشؤون التجارة الخارجية والصناعة، في منتدى أعمال إثيوبي إماراتي، إن الصادرات الإماراتية إلى إثيوبيا في 2018 وصلت إلى 200 مليون دولار، بزيادة 46% عن عام 2017.
كما قال سهيل بن محمد المزروعي، وزير الطاقة والبنية التحتية الإماراتي، إن حجم استثمارات بلاده في السودان وصل إلى 7 مليارات دولار، وكان أبرز هذه الاستثمارات في مجالات الزراعة والسياحة. وفي الوقت نفسه تعد الإمارات واحدة من أكبر المستثمرين الدوليين في مصر، إذ وصلت استثمارات الإمارات في مصر إلى 1.61 مليار دولار خلال العام المالي الماضي.
وربما يقف هذا الاستثمار الإماراتي في الدول الثلاث، ولو بصورة جزئية، وراء الموقف الضبابي لأبوظبي في ملف سد النهضة رغبة في تجنب وصول الأمور إلى مواجهة عسكرية تتسبب في اضطرابات عنيفة في المنطقة، وإن كان بعض المحللين يرون أن غياب موقف إماراتي داعم لمصر والسودان بشكل واضح غير مبرر أيضاً من هذا المنطلق، على أساس أن إثيوبيا هي الطرف المتعنت والرافض للتوقيع على اتفاق قانوني ملزم.
البعض الآخر يرى أن مواقف الإمارات تجاه مصر أصبحت لغزاً يحتاج للتفسير، وبصفة خاصة منذ إعلان التطبيع مع إسرائيل منتصف أغسطس/آب من العام الماضي وتوقيع اتفاقيات لتطوير ميناء حيفاء الإسرائيلي والحديث عن خط أنابيب لنقل النفط من الخليج إلى أوروبا عبر إسرائيل دون المرور من قناة السويس، وهو ما يعني فقدان القناة لأكثر من ثلث عائداتها التي تأتي من ناقلات النفط.
وفي قضية إثيوبيا أيضاً، تحدثت تقارير كثيرة عن الدعم الذي قدمته أبوظبي لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في حربه ضد إقليم تيغراي من خلال القاعدة الإماراتية في القرن الإفريقي، مع عدم استغلال أوراق الضغط الهائلة التي تمتلكها لدى رجل إثيوبيا القوي كي يتبنى موقفاً أكثر عقلانية في ملف سد النهضة، خصوصاً أن مياه النيل تمثل مسألة "حياة أو موت" للمصريين ومواصلة آبي أحمد تعنته وصولاً للملء الثاني الأحادي في يوليو/تموز المقبل يعني ببساطة انفجار الموقف، فهل هذا ما تريده الإمارات؟