استيقظ العالم اليوم الإثنين 29 مارس/آذار 2021 على خبر جيد هو نجاح جهود تعويم السفينة العالقة في قناة السويس المصرية والاستعداد لعودة الملاحة في الممر الملاحي الأهم لحركة التجارة العالمية، فما قصة تلك الأزمة من جنوح السفينة حتى تعويمها؟
بدأت الأزمة التي أصبحت حديث العالم من شرقه لغربه ومن شماله إلى جنوبه عندما كانت إيفرغيفن – سفينة عملاقة يبلغ طولها 400 متر وعرضها 59 متراً وتبلغ حمولتها 223 ألف طن من البضائع داخل أكثر من 18 ألف حاوية عملاقة – تعبر قناة السويس قادمة من الصين في طريقها إلى ميناء روتردام بهولندا، وتعرضت للجنوح في الساعة السابعة والنصف صباح الثلاثاء 23 مارس/آذار بالتوقيت المحلي لمصر (الخامسة والنصف بتوقيت غرينتش).
كيف جنحت السفينة العملاقة في قناة السويس؟
أنباء جنوح السفينة العملاقة التي تمتلكها شركة يابانية وتؤجرها وتشغلها شركة ملاحة تايوانية اسمها إيفرغرين بدأت تجتاح العالم مشاء الثلاثاء 23 مارس/آذار من خلال فيديو التقطه بعض البحارة على متن السفينة التي كانت خلف إيفرغيفن مباشرة وتم بثه عبر منصات التواصل الاجتماعي، ومن ثم أصبح خبر جنوح السفينة وإغلاق حركة الملاحة في قناة السويس في الاتجاهين حديث العالم أجمع منذ صباح الأربعاء 24 مارس/آذار.
وسرعان ما أصبحت صور السفينة العملاقة ومقدمتها عالقة في شاطئ القناة بينما جسمها الذي يبلغ طوله ارتفاع مبنى إمباير ستيت الشهير في الولايات المتحدة يسد مجرى القناة في النقطة التي وقع عندها الحادث بزاوية مائلة، إذ يبلغ عرض القناة في تلك النقطة 250 متراً، تتصدر وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي حول العالم، وسط سيل جارف من التقارير وأحاديث لخبراء الملاحة البحرية والشحن وخبراء الاقتصاد، مع صور لحظية للأقمار الصناعية ترصد مكان جنوح السفينة ومحاولات تعويمها.
وفي الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت مصر (الحادية عشرة بتوقيت غرينتش) الأربعاء 24 مارس/آذار، نشرت هيئة قناة السويس المصرية بيانها الأول، من خلال الموقع الرسمي للهيئة، حول الأزمة، وجاء متناقضاً مع ما تظهره صور المواقع الملاحية المتخصصة مثل Shipfinder وغيره، إذ قال البيان إن السفينة جانحة عند الكيلو 151 ترقيم القناة خلال عبورها قناة السويس ضمن قافلة الجنوب (من ناحية ميناء السويس)، وأضاف البيان أن جهود تعويم السفينة مستمرة، مشيراً إلى "انتظام حركة الملاحة من خلال المجرى الأصلي للقناة".
الإشارة للمجرى الأصلي للقناة جاءت مضللة؛ لأن السفينة جنحت في الممر الأصلي وأوقفت حركة الملاحة في الاتجاهين ولا علاقة للتفريعة الجديدة لقناة السويس التي تم افتتاحها عام 2015 في الطرف الشمالي من جهة الشرق الأوسط لتمثل مجرى موازياً بطول 35 كلم بينما يبلغ طول القناة 193 كلم.
وذكر بيان الهيئة أن السبب وراء جنوح السفينة هو سوء الأحوال الجوية؛ إذ كانت المنطقة تعاني من عاصفة رملية ورياح بلغت سرعتها 40 عقدة وانعدام الرؤية، وهو ما تسبب في انحراف السفينة عن مسارها في منتصف المجرى الملاحي وارتطام مقدمة السفينة العملاقة بشاطئ القناة وانغراس الغاطس في الرمال.
السفينة العملاقة والحفار الصغير حديث العالم
ومع مرور الساعات والأيام والسفينة العملاقة عالقة والملاحة متوقفة وسط تواصل جهود تعويمها من جانب هيئة قناة السويس والتي شاركت فيها 8 قاطرات تسعى لتحرير مقدمة السفينة، تحولت بعض جوانب التغطية الإعلامية إلى السخرية من تلك الجهود، وتركزت حول صورة تحولت إلى "تريند" عالمي.
الصورة أظهرت حفاراً صغيراً يقف بجانبه رجلان بدا حجمهما صغيراً للغاية وهما يقفان أمام السفينة العملاقة التي يبلغ طولها 400 متر، وحققت الصورة انتشاراً كبيراً وأصبحت محط سخرية على شبكات التواصل، فضلاً عن استخدام صورة السفينة العالقة للتعبير عن مصاعب الحياة.
وعلّق رئيس هيئة القناة أسامة ربيع على تلك الصورة تحديداً خلال مؤتمر صحفي عالمي عقده السبت 27 مارس/آذار للحديث حول تطورات أزمة إغلاق الملاحة وجهود تعويم السفينة، وخصص المسؤول المصري جزءاً من مؤتمره للحديث عن الصورة، وقال إن "البعض اختلط عليه الأمر، فالحفار من أجل إزالة الرمال وليس لشد السفينة"، مضيفاً أن "عملية توسيع الطريق أمام مقدمة السفينة مهمة من أجل إعادة تعويمها، إذ إن العمق في وسط قناة السويس 24 متراً، لكنه على الأطراف ينخفض إلى 2 و5 أمتار، ما يؤكد أهمية الحفر أمام السفينة".
وتم بالفعل حتى مساء الأحد 28 مارس/آذار إزالة أكثر من 27 ألف متر مكعب من الرمال حول مقدمة السفينة، وهو ما يظهر المجهود الجبار الذي تم بذله خلال الأيام العصيبة التي مرت على العاملين في هيئة قناة السويس وفرق الإنقاذ البحري وخلية الأزمة التي تم تشكيلها للتعامل مع جنوح السفينة العملاقة.
أسعار النفط ترتفع والقلق يجتاح العالم
في اليوم التالي مباشرة لجنوح السفينة – الأربعاء 24 مارس/آذار – بدأ تأثير إغلاق الممر الملاحي المصري على حركة التجارة العالمية، إذ ارتفعت أسعار النفط لعقود تسليم مايو/أيار المقبل بنسبة 4% بالنسبة لخام برنت أي 2.41 دولار، ليصل سعر البرميل إلى 63.17 دولار، كما ارتفع سعر خام غرب تكساس الأمريكي بنسبة 4.2%، ليصل إلى 60.17 دولار للبرميل، بحسب موقع MarketWatch.
واليوم الإثنين – بعد نجاح جهود تعويم السفينة دون الحاجة لتخفيف حمولتها وهي العملية التي يتوقع أن تستغرق أسابيع – انخفضت أسعار النفط مباشرة بأكثر من 2%، بحسب تقرير لرويترز، فهبط خام برنت 2.1% إلى 63.19 للبرميل بينما هبط سعر الخام الأمريكي 2.4% إلى 59.49 دولار للبرميل.
وفي سياق الأهمية البالغة التي تمثلها قناة السويس للعالم، أشارت التقارير الاقتصادية إلى أن إغلاق الممر الملاحي يكلف الاقتصاد العالمي خسائر قيمتها 400 مليون دولار في الساعة الواحدة أي نحو 10 مليارات دولار يومياً، وبالنسبة لمصر فإن الأزمة تسببت في خسائر تتراوح بين 12 و14 مليون دولار يومياً، بحسب ما قاله أسامة ربيع رئيس الهيئة.
وتنعكس هذه الأرقام في صورة ارتفاع أسعار البضائع الاستهلاكية حول العالم، وبخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو ما يعني أن المستهلك العادي يتحمل أيضاً تبعات تعطل الملاحة في قناة السويس التي يمر عبرها نحو 12% من حركة الشحن البحري حول العالم يومياً.
نجاح جهود تعويم السفينة العملاقة إنجاز ضخم
على الرغم من الانتقادات التي تعرضت لها هيئة قناة السويس والسخرية التي شارك فيها الجميع لأسباب متنوعة، فإن نجاح جهود تعويم السفينة من خلال القاطرات وسفن الجر ومعدات الحفر يعتبر إنجازاً ضخماً لا يجب التقليل منه، دون تجاهل التعامل الإعلامي المتأخر والخالي من الشفافية من جانب هيئة قناة السويس في بداية الأزمة، وهو أحد أسباب السخرية.
فالإعلان اليوم الإثنين عن نجاح جهود تعويم السفينة واعتدالها بصورة شبه تامة في مجرى الملاحة ومقاطع الفيديو التي تظهر فرحة فرق الإنقاذ أصبح أيضاً حديث العالم وتنفس الجميع الصعداء، بعد أن كانت الأزمة قد دخلت ما يشبه النفق المظلم أمس الأحد وبدأ الحديث عن سيناريوهات تخفيف حمولة السفينة العملاقة ما يعني استمرار إغلاق حركة الملاحة لأسابيع وليس أياماً.
الأزمة التي استمرت أسبوعاً أعادت قناة السويس ومدى أهميتها لحركة التجارة العالمية وبالتبعية للاقتصاد العالمي للواجهة مرة أخرى، وليس أدل على ذلك من الاستغلال الواضح للأزمة من جانب بعض الدول للترويج لما تراها بدائل للقناة المصرية، خصوصاً روسيا وإيران وإسرائيل.
فقد دعا السفير الإيراني لدى موسكو كاظم جلالي السبت 27 مارس/آذار إلى ضرورة تفعيل خط ملاحي يمر من بلاده، ليكون بديلاً عن قناة السويس، وقال جلالي، في تغريدة له عبر "تويتر" أن الإسراع في إكمال البنى التحتية وتفعيل ممر "شمال – جنوب" كبديل عن قناة السويس يحظى بالأهمية أكثر مما مضى، مؤكداً أن هذا الممر الذي يشير إليه يختصر الزمن حتى 20 يوماً، والتكاليف حتى 30%، فضلاً عن أنه يعد خياراً أفضل كبديل عن قناة السويس في مجال الترانزيت.
وتروج إيران للممر التجاري (شمال – جنوب) الذي يربط بين الهند وروسيا مروراً بأراضيها منذ سنوات وتقول إنه بديل جيد لقناة السويس المصرية، لكن الأزمة الأخيرة كشفت مدى الأهمية التي تتمتع بها قناة السويس من حيث التكلفة والوقت وأيضاً من حيث الأمان الذي يمثل هاجساً رئيسياً للمسارات البحرية لنقل البضائع.
من الجاني في جنوح السفينة العملاقة؟
الآن وقد تمت عملية تعويم السفينة العملاقة التي ترفع العلم البنمي، من المتوقع أن تعود حركة الملاحة إلى طبيعتها اليوم الإثنين 29 مارس/آذار، بحسب ما أعلن الفريق مهاب مميش الرئيس السابق لهيئة قناة السويس والمستشار الحالي للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ومن ثم ستبدأ عملية طويلة ومعقدة من التعامل مع الأزمة من الجانب الفني والقانوني.
إذ على الرغم من أن التقارير الأولية حول سبب وقوع الحادث ألقت باللوم على الطقس السيئ، فإن رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع قال في المؤتمر الصحفي السبت الماضي إن "الطقس السيئ ليس السبب الوحيد وراء جنوح السفينة"، مشيراً إلى أن التحقيقات سوف تحدد المسؤول أو المسؤولين عن الحادث ما بين قبطان وفريق قيادة السفينة إيفرغيفن وإرشاد القناة.
وفي هذا السياق، كانت وكالة بلومبيرغ الأمريكية قد نشرت تقريراً حول ما يمكن أن يكون سببا في الحادث وبالتحديد "سرعة" إبحار السفينة إيفرغيفن في الممر الملاحي للقناة، إذ قال التقرير إن السفينة كانت على ما يبدو تُبحر بسرعة أكبر من الحد الأقصى للسرعة في قناة السويس، قبل جنوحها بسرعةٍ واصطدامها بضفة القناة.
التقرير الذي قالت الوكالة إنها استندت في إعداده إلى البيانات الخاصة بالسفينة أوضح أن السرعة الأخيرة المسجَّلة لسفينة "إيفر غيفن" هي 13.5 عقدة، وقد سجِّلت قبل 12 دقيقة من توقف السفينة وانحصارها بين ضفتي القناة، بينما السرعة القصوى المسموح بها عبر القناة هي ما بين 7.6 عقدة و8.6 عقدة، بحسب ما أورده موقع Business Insider الأمريكي.
والخلاصة هي أن التحقيقات في أسباب جنوح السفينة تحمل أهمية بالغة ليس فقط فيما يتعلق بالشق القانوني، إذ من المتوقع أن تتسبب الأزمة في عاصفة من الدعاوى القضائية والتعويضات، لكن أيضاً حتى تكون الصورة واضحة ويمكن من خلالها اتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار حادث بهذا الحجم.