خفضت مصانع السيارات من إنتاجها، وأصبح من الصعب العثور على أجهزة ألعاب PlayStations في المتاجر، حتى منتجو الألومنيوم يحذرون من انكماش محتمل في المستقبل. هناك أمر وحيد مشترك بين تلك المشكلات: نقص عالمي مفاجئ ومتعاقب في "أشباه الموصلات"، والتي تُعرف أيضاً بـ"الدوائر المتكاملة"، أو "الرقائق الإلكترونية"، وهي أصغر منتج في العالم، والأكثر طلباً في نفس الوقت، كما يقول تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
وتخوض الصين وأمريكا سباقاً في صناعة الرقائق الإلكترونية، كما تسعى كل من الدولتين إلى مزيد من المرونة في سلسلة التوريد، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية، التي يمكن أن تتعطل في حالة انتشار جائحة جديدة، أو التوترات الدولية أو الحروب، بحسب موقع Axios الأمريكي.
1- بداية ما هي أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية؟
تُعرف أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية (Semiconductor) بأنها مجموعة مواد صلبة بلورية البنية تمتلك قدرةً متوسطةً على نقل التيّار الكهربائي، فهي ليست بكفاءة المواد الموصلة كالمعادن، لكنّها بنفس الوقت ليست مواد عازلة مثل السيراميك.
قد تكون اشباه الموصلات مكوّنةً من مادةٍ واحدةٍ مثل السيليكون والجرمانيوم، أو مركّبة من مادتين أو أكثر مثل سيلينيد الكادميوم. ولتحيسن ناقليتها للتيار الكهربائي، تُضاف كميّةٌ صغيرةٌ من الشوائب إلى أشباه الموصلات النقية بعمليةٍ تدعى التنشيط (Doping).
وتصنف ناقلية المواد الصلبة للتيار الكهربائي ضمن ثلاث فئاتٍ هي: المواد العازلة، وأشباه الموصلات، والموصلات. ومن المعروف أن الناقلية الكهربائية للمواد المختلفة تتأثر بشكلٍ كبيرٍ بتبدل درجة حرارتها زيادةً أو نقصاناً.
وتدخل الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات في كلّ الأجهزة الإلكترونية الموجودة في أي بيت، فكل ما هو يحتوي على لوحة إلكترونية فيجب أن يكون فيه أشباه موصلات، مثل أجهزة التكييف، ووحدات المعالجة المركزية في الحواسيب المحمولة، والهواتف الذكية، والكاميرات الرقمية، وأجهزة التلفزيون، والغسالة، والثلاجة، ومصابيح LED تُستَخدم فيها أيضًا أشباه الموصلات، إضافةٍ إلى الكثير والكثير من الأجهزة الأخرى.
في الوقت نفسه فإن أشباه الموصلات تدخل بشكل أساسي في صناعة الأسلحة بدءاً من تلك الخفيفة وحتى الصواريخ النووية العابرة للقارات، لذلك نجد أن العديد من القوى الكبرى تتنافس على امتلاك مصانع للرقائق الإلكترونية وحتى المواد التي تستخدم في صناعتها.
2- لماذا نعاني من نقص في الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات؟
أدّى المزيج بين التكلفة والصعوبة في صناعة الرقائق الإلكترونية، إلى تعزيز الاعتماد العالمي في إنتاجها، على شركتين آسيويتين قويتين؛ هما شركة TSMC التايوانية (عملاق أشباه الموصلات)، وشركة Samsung Electronics Co الكورية الجنوبية. وزاد ذلك الاعتماد بشكل أكبر بسبب الجائحة وتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين حتى قبل العجز الحالي.
سوف تنفق الحكومات والشركات مئات المليارات خلال السنوات المقبلة في "سباق الرقائق الإلكترونية" مع كل ما يترتب على ذلك من تأثيرات جيوسياسية واقتصادية. وترتبط معظم أسباب الاضطراب الحالي، لكن ليس كلّها، بالجائحة. وإليكم بعض الأسباب:
- بسبب دعوات البقاء في المنزل، ارتفعت مستويات الطلب بشكل غير مسبوق يفوق توقعات صانعي أشباه الموصلات. أدّى الإغلاق الذي فرضته معظم الحكومات إلى ارتفاع مبيعات أجهزة الكمبيوتر المحمولة إلى أعلى مستوياتها منذ عقد كامل. كما ارتفعت أيضاً مبيعات الأجهزة المنزلية، من التلفزيون إلى أجهزة تنقية الهواء، وجميعها تأتي برقاقات مخصصة.
- أدّت حالة عدم اليقين الناجمة عن الجائحة إلى تقلبّات حادة في مستويات الطلب. لم يتوقع صنّاع السيارات الذين خفضوا إنتاجهم بشكل كبير في أوائل أيام الجائحة سرعة انتعاش المبيعات من جديد. وعندما هُرِعوا أواخر العام 2020 إلى إعادة طلب الرقائق الإلكترونية بعد إلغاء الطلبات الأولى، لم يحصلوا على ما أرادوا بسبب انشغال صانعي الرقائق الإلكترونية بتزويد عمالقة الهواتف الذكية مثل Apple Inc.
- التخزين: قال المسؤولون التنفيذيون في شركة TSMC التايوانية إن مؤشرات الأرباح الأخيرة تشير إلى أن العملاء يكدسون مخزوناً أكثر من المعتاد على سبيل الاحتياط. في أوائل عام 2020، بدأت شركات تصنيع الكمبيوتر تحذر من نقص المعروض من أشباه الموصلات. وبحلول منتصف 2021، بدأت Huawei Technologies Co شركة تصنيع الهواتف الذكية ومعدات الشبكات المعروفة، في تخزين المكوّنات لضمان قدرتها على البقاء بسبب العقوبات الأمريكية التي تهدد بفصلها عن مورديها الأساسيين. ثم حذت الشركات الصينية الأخرى حذوها، وارتفعت واردات البلاد من الرقائق الإلكترونية إلى حوالي 380 مليار دولار في عام 2020، أي ما يمثل حوالي خُمس إجمالي واردات البلاد لعام 2021.
- الطقس: أدّت موجة البرد القارس في شهر فبراير/شباط في تكساس إلى انقطاع التيار الكهربي، مما أدّى إلى إغلاق مصانع أشباه الموصلات حول مدينة أوستن، ولا تستعيد شركة Samsung اتصالها بالإنترنت بشكل كامل بحلول منتصف شهر مارس/آذار. وأعلنت تايوان حالة التأهب في شهر مارس/آذار بسبب أسوأ موجة جفاف تتعرض لها البلاد منذ عقود، مما أدّى إلى تقليل إمدادات المياه وزيادة احتمالية تأثر صناعة أشباه الموصلات إذا لم تصل الأمطار الموسمية المعتادة في أواخر شهر مايو/أيار.
3- ما الذي سيترتب على نقص أشباه الموصلات؟
تلقت بعض الشركات ضربة موجهة، فقد أدى نقص الرقائق الإلكترونية إلى تراجع مبيعات السيارات عام 2021 فقط بما يصل إلى 61 مليار دولار، وتأخير إنتاج ملايين السيارات في العام الذي تلاه. ولا يقتصر الأمر على صناعة السيارات فحسب، من المحتمل أن تشهد مجموعة كبيرة من المنتجات التي تعتمد على الرقائق الإلكترونية، من الهواتف إلى محركات الألعاب، انخفاضاً في الإنتاج أو ارتفاعاً في الأسعار. وقالت شركة Samsung في شهر مارس/آذار لعام 2021 إنها تتوقع أن تمثّل حالة "انعدام التوازن الخطير" مشكلة كبيرة لأعمالها.
4- من هم اللاعبون الكبار في سوق إنتاج الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات؟
تتصدر الرقائق الإلكترونية المتقدمة عناوين الأخبار باعتبارها أغلى منتجات السيليكون وأكثرها تعقيداً، والتي تمنح أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية ذكاءها. عندما تسمع عن شركات مثل Apple أو Qualcomm أو Nvidia، فإن تلك الشركات تتولى فقط تصميم أشباه الموصلات، أما التصنيع فيكون في مصانع يُطلق عليها "المسابك".
- تحتل شركة TSMC التايوانية ريادة السوق بقدرات إنتاجية هائلة، وأصبح الجميع الآن يصطفون على أبوابها للحصول على أفضل الرقاقات المصنوعة في منشآتها داخل تايوان. وتبلغ الحصة السوقية للشركة أكثر من حصة منافسيها الثلاثة التالين مجتمعين.
- تهيمن شركة Samsung الكورية على سوق رقاقات الذاكرة، وتعمل على تحسين تكنولوجيا الإنتاج الخاصة بها حتى تُصنّف على نطاق واسع باعتبارها الخيار الأفضل بعد TSMC.
- شركة Intel Corp، آخر شركة أمريكية ناجحة في هذا المجال، ولا تزال تجني أرباحاً أكثر من أي شركة تصنيع الرقائق الإلكترونية الأخرى، لكنها تركّز بشكل أكبر على معالجات الكمبيوتر.
- تواجه الشركتان TSMC وSamsung منافسة من بعض المنافسين الأصغر حجماً، مثل Globalfoundries الأمريكية، وشركة Semiconductor Manufacturing International Corp. (SMIC) الصينية، وشركة United Microelectronics Corp التايوانية. لكن هؤلاء المنافسين متأخرون بجيلين أو ثلاثة أجيال على الأقل خلف تقنيات TSMC. بينما انسحبت بعض الأسماء المشهورة مثل Texas Instruments Inc.، وInternational Business Machines Corp. وMotorola من المنافسة.
5- ماذا يحدث في هذا السباق؟
ينفق العملاقان الآسيويان استثمارات ضخمة لتعزيز هيمنتهما على السوق؛ رفعت TSMC نفقاتها الرأسمالية المتوقعة لعام 2021 إلى ما يصل إلى 28 مليار دولار من 17 مليار دولار في العام 2021، بينما خصصت Samsung حوالي 116 مليار دولار في مشروع ممتد لمدة عقد كامل من أجل اللحاق بالمنافس التايواني.
وفي المقابل، تضغط الصين بشكل قوي للحاق بهذا السباق، لكن لا يزال أمامها طريق طويل. على سبيل المثال، في قطاع صناعة السيارات، طورت الصين عدداً كبيراً من شركات تصميم الرقائق في السنوات الأخيرة، لكنها ما زالت غير قادرة على صنع الرقائق المتقدمة اللازمة لسيارات اليوم. وفي المقابل، أعلنت SMIC عن مخططاتها لبناء مصنع بتكلفة 2.35 مليار دولار بتمويل من الحكومة في مدينة شنتشن الصينية، وتهدف لبدء الإنتاج بحلول عام 2022.
لكن في الوقت نفسه تمضي الصين قدماً في خططها لبناء 31 مصنعاً جديداً للرقائق بحلول عام 2024، وفقاً لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية. وينصبّ تركيز الصين إلى حد كبير على الرقائق الأقدم والأكثر نفعاً، بينما تتصدر تايوان والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية العالم في عمليات صنع الرقائق الأكثر تقدماً.
6- ماذا عن اللاعبين الآخرين في هذا المجال؟
نظراً لصعوبة تطوير قدرات تصنيع الرقائق الإلكترونية المتطورة، تقدم الحكومات حوافز كبيرة لأي شخص يبني أو يتوسع في بناء منشآت متقدمة داخل حدودها. في شهر فبراير/شباط 2022، أمر الرئيس الأمريكي جو بايدن بمراجعة سلسلة التوريد على مستوى الحكومة للسلع المهمة، بما في ذلك الرقاقات.
وسوف تلعب إدارته، التي تضع خطة طويلة الأجل لتوريد الرقائق الإلكترونية، دوراً رئيسياً في صياغة الحوافز الضريبية لمصنع TSMC المقترح بناؤه بقيمة 12 مليار دولار في أريزونا، ومصنع آخر لشركة Samsung بتكلفة 17 مليار دولار في تكساس. ويفكر الاتحاد الأوروبي في بناء مصنع متقدم لأشباه الموصلات في أوروبا، بمساعدة محتملة من الشركتين TSMC وSamsung، ضمن أهداف مضاعفة إنتاج الرقاقات ليصل إلى 20% من إجمالي السوق العالمية بحلول عام 2030.
7- لماذا المنافسة في سوق الرقائق الإلكترونية في غاية الصعوبة؟
صناعة الرقاقات عمل ضخم يتطلب دقة هائلة، إلى جانب رهانات استثمارية ضخمة في مجال سريع التغيّر. تُصنع الرقاقات في مصانع تُكلّف المليارات للبناء والتجهيز، ويجب أن تعمل على مدار الساعة لاسترداد استثماراتها. ليس هذا فحسب، بل إن معدل الرقاقات الجيدة لكل دفعة هو ما يحدد نجاح المصنع من فشله. ويستغرق الأمر عدة سنوات لوصول معدل تصنيع الرقاقات الجيدة إلى 90%.
8- من المستفيد من الحروب على الرقاقات؟
حتى التحسينات الصغيرة والبسيطة على أشباه الموصلات قد تحقق وفورات كبيرة في الطاقة والتكلفة عند مضاعفتها على نطاق واسع داخل كيان مثل Amazon Web Services Inc. ومع انتشار شبكات الجيل الخامس وزيادة الطلب على مقاطع الفيديو وبث الألعاب التي تستهلك الكثير من البيانات، وزيادة عدد الأشخاص الذين يعملون من المنزل، ستزداد الحاجة إلى رقاقات أحدث وأعلى كفاءة.
هناك طريقة تُقاس بها درجة تطور الرقاقات، يُطلق عليها "عرض الخط"، وهي المسافة بين الدوائر المتكاملة. المعيار الحالي للرقاقات المتقدمة 5 نانومتر. وتعمل الشركتان TSMC وSamsung حالياً على إنتاج رقاقات 3 نانومتر بحلول عام 2022. ويساعد الذكاء الصناعي أيضاً في دفع صانعي الرقاقات إلى الابتكار، إذ يعتمد الذكاء الصناعي على معالجة كمية ضخمة من البيانات. كما أصبحت التصميمات الأكثر كفاءة أو الموفرة للطاقة أحد الاعتبارات المهمة فيما يسمّى بإنترنت الأشياء، وهو عالم من الأجهزة الذكية أو المتصلة من الهواتف إلى مفاتيح الإضاءة والثلاجات، ومن المتوقع أن يؤدي إلى تضخم استخدام الرقاقات بشكل كبير في السنوات القادمة.
9- كيف تمكنت تايوان خصيصاً من التميز في ذلك؟
برزت الجزيرة الديمقراطية باعتبارها محوراً رئيسياً للصناعة بفضل شركة TSMC ونظام بيئي كامل موجه نحو صناعة الإلكترونيات المتطورة. وتضغط شركات صناعة السيارات الأمريكية والأوروبية واليابانية على حكوماتهم للمساعدة في التغلّب على أزمة الرقاقات، مع مطالبات من تايوان وشركة TSMC للتدخل. توضح هذه المناشدات كيف منحت مهارة شركة TSMC في صناعة الرقاقات تايوان نفوذاً سياسياً واقتصادياً في عالم تُستغل فيه التكنولوجيا في تنافس القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين، المنافسة التي من غير المرجح أن تتراجع في ظل إدارة بايدن.