لم يكن أحد يتخيل أن رغبة الشعب السوري في التغيير ومكافحة الفساد والقمع من جانب عائلة الأسد التي تحكم البلاد منذ أكثر من نصف قرن قد تؤدي إلى انقلاب موازين القوى في الشرق الأوسط رأساً على عقب بتلك الكيفية التي حدثت.
فالثورة السورية التي بدأت في شكل احتجاجات صغيرة في مناطق متفرقة من البلاد، في يناير/كانون الثاني 2011، للتنديد باعتقال وتعذيب نشطاء ثوريين وشباب كانوا قد كتبوا بعض العبارات ضد قمع وفساد نظام بشار الأسد، وقابل النظام تلك الاحتجاجات بمزيد من القمع والاعتقالات، ما أدى إلى مقتل العشرات واعتقال الآلاف، وسرعان ما أصبحت المظاهرات ضخمة ومستمرة واجتذبت غالبية السوريين وفي كافة المناطق.
وفي الفترة من مارس/آذار وحتى يوليو/تموز 2011، شنّ نظام بشار الأسد حملات أمنية استخدم فيها جميع أساليب البطش الدموية ليتحول مسار الثورة إلى ساحة حرب خرجت عن حدود سوريا والمنطقة، واشتركت فيها، ولا تزال قوى إقليمية ودولية، لكن الثمن الذي تم دفعه مقابل احتفاظ الأسد بمقعد الرئاسة كان باهظاً، إذ تحوّلت سوريا إلى أطلال وفقد مئات الآلاف حياتهم، وتحول الملايين إلى نازحين ولاجئين في الداخل والخارج.
نيران سوريا تحرق تحالفات المنطقة
إذا كان السوريون قد دفعوا وما زالوا يدفعون ثمناً باهظاً لتمسك رئيس النظام بمقعده، فإن توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط بأكملها قد شهد تحولات درامية يرجعها كثير من المحللين لما شهدته سوريا في العقد الماضي.
إذ تحوّلت بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة إلى ما يُشبه المناطق النائية، بعد أن كانت تُشكّل في وقتٍ من الأوقات القلب السياسي والثقافي للمنطقة، بينما تحوّلت مقاليد صنع القرار إلى أطراف أخرى في الشرق الأوسط، وليس هناك ما يُعبّر عن ذلك أكثر من فكرة أنّ المحركين الرئيسيين للمنطقة (إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل) ليس بهم سوى دولة عربية واحدة فقط، بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وقال مايكل ستيفنز، الزميل المشارك في معهد Royal United Services Institute البحثي للصحيفة: "اعتاد الناس الاستماع إلى الموسيقى السورية واللبنانية، ومشاهدة الأفلام المصرية، ولكن من يفعل ذلك الآن؟ لم تعُد تلك البلاد موجودة وفقاً لكل المؤشرات الاجتماعية والسياسية والثقافية. لم يعُد هناك إنتاج، ولا تستطيع تلك الدول بسط نفوذها، لذلك يجري إسقاط النفوذ عليها".
وإذا كان بشار الأسد قد نجح في أن يظل جالساً على كرسي الرئاسة فوق أطلال سوريا، إلا أن نظامه ضعيف لدرجةٍ جعلت من الرئيس مجرد تابعٍ لداعميه في موسكو وطهران، بينما تغيّر كل شيءٍ آخر. أما تركيا، التي تعتبر نموذجاً يُحتذى به للديمقراطية الإسلامية في المنطقة بعد نهوضها من عقود الدكتاتورية العسكرية، فقد ألقت بثقلها وراء المعارضة السورية.
السعودية وصعود ولي العهد
بينما المملكة العربية السعودية، التي دعمت في البداية أجزاءً من المعارضة السورية وهي تكافح لقمع نسمات الثورة على أرضها، فقد أجرت منذ ذلك الحين إصلاحات داخلية وإن كانت تجميلية، حيث سمحت للنساء بالقيادة، وسعت لجذب السياح بخطط آمنة للتحرر على غرار دبي داخل منتجعات نائية للعطلات، ولكن على صعيدٍ آخر، صارت المملكة أكثر استبداداً من أيّ وقتٍ مضى، بالتزامن مع سعيها لممارسة نفوذٍ أكثر في المنطقة، بحسب تقرير التايمز.
إذ جاء تأمين ولي العهد محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة، صعوده في مراتب الخلافة عن طريق التخلص من منافسيه بين أفراد الأسرة الحاكمة، وضمان عدم وجود معارضة علنية له بقمع المعارضين، وفي السياق أصبح ولي العهد في تنافس مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تحويل المملكة إلى المركز الجديد للعالم المسلم السني، بدلاً من تركيا، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.
وحلَّ الصراع بين السعودية وإيران صدارة قضايا المنطقة في السنوات الأخيرة، إذ رسمت الرياض خطوط معاركها مع القوة الشيعية الرائدة في المنطقة، ورغم عرقلتها اقتصادياً بسبب العقوبات الأمريكية، لكن طهران استغلت الفوضى السورية لبسط نفوذها حتى شواطئ البحر المتوسط. وفعلت ذلك بدعم الميليشيات التي تعمل بالوكالة في العراق وسوريا ولبنان، وبالحصول على عقود البنية التحتية الرئيسية من النظام السوري، وشملت تلك العقود إدارة ميناء طرطوس، الذي يعتقد المحللون أنّ طهران تستخدمه لشحن الأسلحة إلى البلاد، بحسب تقرير الصحيفة.
هل إسرائيل الرابح الأكبر؟
رغم الخريطة العسكرية التي تُنذر بالخطر في المنطقة حالياً، يبدو أنّ إسرائيل هي الرابح الأكبر مما يحدث، فقبل عقدٍ واحد من الآن، كانت فلسطين هي القضية الرئيسية في الشرق الأوسط، وكانت إسرائيل في كفة وبقية دول المنطقة في كفةٍ أخرى.
لكن الحرب السورية وصعود إيران أدى إلى ظهور انقسام آخر في المنطقة وهو الانقسام السني-الشيعي، الذي يتجلّى بوضوح في التنافس بين إيران والسعودية، واستفادت إسرائيل من ذلك الانقسام، حيث دخلت دول عربية مثل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان في صفقات تطبيع لعلاقاتها مع الدولة العبرية، وتشير الأحداث والتصريحات أن مزيداً من الدول -من بينها السعودية- قد تتخذ الخطوة نفسها قريباً.
واتَّبعت إسرائيل استراتيجية مركبة للاستفادة من الصراع في سوريا، إذ تقصف أهدافاً داخل الأراضي السورية مثل قواعد وتجمعات ميليشيات تابعة لإيران أو لحزب الله، وفي الوقت نفسه اتخذت أيضاً خطوات مبدئية سعياً لتحسين مكانتها بين السوريين المعارضين للأسد، مثل تقديم العلاج الطبي لمقاتلي المعارضة والمدنيين الجرحى بالقرب من حدودها، إلى جانب مساعدة 98 من متطوعي البحث والإنقاذ في الخوذ البيضاء وعائلاتهم -الذين تتجاوز أعدادهم الـ400 شخص- على الفرار من سوريا.
لكن يظل السؤال قائماً بشأن مدى قدرة إسرائيل أو رغبتها في البناء على المكاسب التي حققتها حتى الآن والبدء في كسب قلوب وعقول الشعوب العربية، وهو ما لا توجد أي مؤشرات على حدوثه حتى الآن، فرغم التحالفٍ البراغماتي مع الأنظمة العربية التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع تل أبيب مؤخراً، لا تزال الشعوب العربية ترى إسرائيل العدو الأول، بحسب ما تظهره استطلاعات الرأي المتعددة في هذا الشأن.
والخلاصة هنا هي أنه بعد مرور عقدٍ من الزمن، يبدو أنّ النيران التي اشتعلت بفعل التعامل الوحشي لنظام بشار الأسد مع الثورة الشعبية المطالبة بالتغيير لم تلتهم سوريا وحدها -التي أصبحت الآن أطلالاً للبلد الذي كانت عليه- بل انتشرت بطول المنطقة وعرضها، لتكسر التحالفات القديمة وتظهر بدلاً منها تحالفات جديدة ومراكز قوة صاعدة ستدوم على الأرجح لجيلٍ أو أكثر.
والقصة ليست مقتصرة فقط على القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، بل تتخطاها إلى القوى العالمية، وبصفة خاصة الولايات المتحدة، التي كانت تتمتع بالنفوذ الأوحد تقريباً في الشرق الأوسط، لكنها وجدت لها منافساً عنيداً هو روسيا، التي قدم لها بشار الأسد موطئ قدم يمكنها من ملء الفراغ الذي تركته واشنطن في سوريا والمنطقة، إضافة إلى الصين التي أصبح لها تأثير وحضور في المنطقة لا يمكن تجاهله.