جاء اللقاء الرسمي الأول بين الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن والصين أشبه بالجولة الافتتاحية لمباراة ملاكمة بين المتنافسين على لقب الوزن الثقيل عالمياً، فكيف انتهت تلك الجولة، ومن فاز فيها بالنقاط أم أنها انتهت تعادلية؟
على مدار يومي الخميس والجمعة 19 و20 مارس/آذار الجاري، جرى اللقاء الأول بين القوتين الأبرز عالمياً، والذي جمع كبار الدبلوماسيين الأمريكيين والصينيين في ولاية ألاسكا الأمريكية، حيث طرح الطرفان مواقفهما، لاسيما الولايات المتحدة التي عبرت بوضوح عن "مخاوفها بشأن بكين".
المحادثات التي جرت، بمدينة "أنكوريج" في الولاية المذكورة، شارك فيها من الجانب الأمريكي وزير الخارجية أنتوني بلينكين، ومستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض جاك سوليفان، ومن الجانب الصيني مدير مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية يانغ جيه تشي، ووزير الخارجية وانغ يي.
ماذا قالت أمريكا؟
في تقييمه لتلك المحادثات، قال وزير الخارجية الأمريكي في تصريحات للصحفيين عقب انتهائها "لقد جئنا إلى هنا ونحن نعلم الموضوعات التي نختلف فيها بشكل أساسي مع الصين مثل ممارساتها بأقاليم تركستان الشرقية، وهونغ كونغ، وتايوان، فضلاً عن قضية الهجوم الإلكتروني"، وأضاف: "بصراحة، عندما طرحنا هذه القضايا بشكل علني ومباشر، لم يكن مفاجئاً أننا حصلنا على إجابات وردود مقلقة".
كما أوضح بلينكين أنهم ناقشوا العديد من القضايا على نطاق واسع مثل إيران وكوريا الشمالية وأفغانستان، وتغير المناخ، كما تحدثوا عن الموضوعات المتعلقة بالإجراءات الاقتصادية والتجارية لبكين.
ولفت إلى وجود استنتاجين رئيسيين بشأن تلك المحادثات، مضيفاً "أردنا أن نشاركهم مخاوفنا بشأن بعض التصرفات الصينية، وقد فعلنا ذلك. وأردنا أيضاً توضيح سياساتنا وأولوياتنا ورؤيتنا للعالم، وهذا أيضاً فعلناه"، وبدوره قال مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، سوليفان، إنهم أتوا إلى ألاسكا متوقعين محادثات صعبة وأنهم واجهوا ما توقعوه.
ماذا قالت الصين؟
من جانبه، كشف يانغ جيشي، أرفع مسؤول دبلوماسي في الحزب الشيوعي الصيني أن المحادثات الصينية الأمريكية الأولى بين البلدين منذ تولي جو بايدن الحكم، كانت "صريحة وبنّاءة ومفيدة" مع واشنطن، لكن الخلافات قائمة وفق ما أوردته وكالة الصين الجديدة "شينخوا".
أما وانغ يي وزير الخارجية، فقد كان أكثر تفصيلاً في تصريحاته عقب انتهاء المحادثات، إذ قال: "ساعدت هذه المحادثات في دعم التفاهم (بين الطرفين)، رغم وجود اختلافات كبيرة في الرؤى فيما يخص بعض القضايا".
وأضاف وانغ يي أن الصين سوف تواصل حماية سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية بشكل صارم، وأن البلدين يجب أن يتعاملا مع علاقتهما الثنائية على أساس "لا صراع، لا مواجهات، والاحترام المتبادل والتعاون ومبادئ تحقيق مكاسب للطرفين"، بحسب تقرير لصحيفة Global Times الصينية.
تبادل الاتهامات بين بكين وواشنطن أثناء الاجتماعات
ويمكن القول إن الفترة التي سبقت تلك الاجتماعات قد شهدت تصعيداً في التصريحات من الجانبين، تمثلت في موجة تحركات من جانب واشنطن كشفت عن اتخاذها موقفاً متشدداً وبتصريحات حادة من جانب بكين، لكن ما كشفت عنه البيانات الافتتاحية بين الجانبين في الاجتماع الأول الخميس 18 مارس/آذار.
بلينكن قال لنظرائه الصينيين: "سنناقش مخاوفنا العميقة إزاء أفعال الصين، بما في ذلك إجراءاتها في شينجيانغ وهونغ كونغ وتايوان والهجمات الإلكترونية على الولايات المتحدة والضغوط الاقتصادية على حلفائنا"، مضيفاً: "كل تصرف من هذه التصرفات يهدد النظام القائم على القواعد والذي يحافظ على الاستقرار العالم".
وعلى الجانب الآخر، بدأ يانغ جي تشي، مدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية بالحزب الشيوعي، الجلسة بخطاب باللغة الصينية استمر أكثر من ربع ساعة، منتقداً ما وصفه بالديمقراطية الأمريكية المتعثرة وسوء معاملة الأقليات وسياسات واشنطن الخارجية والتجارية.
بينما كان وزير الخارجية يانغ أكثر حدة، إذ قال: "الولايات المتحدة تستغل قوتها العسكرية وسطوتها المالية لفرض وصاية طويلة الأمد وقمع الدول الأخرى"، مضيفاً: "إنها تسيء استخدام ما يسمى بمفاهيم الأمن القومي لعرقلة التعاملات التجارية الطبيعية وتحريض بعض الدول على مهاجمة الصين".
وطيلة حديث يانغ كان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ومسؤولون آخرون في الوفد يتبادلون الملحوظات. وفي النهاية أبقى بلينكن الصحفيين في القاعة إلى أن يتمكن من الرد، وبدلاً من الدقائق المعدودة التي يبقاها الصحفيون عادة في افتتاح اجتماع بهذا المستوى، استمر حضورهم لأكثر من ساعة، وتجادل الوفدان حول متى سيتم إبلاغ ممثلي وسائل الإعلام بترك القاعة، بحسب تقرير لرويترز.
وبعد ذلك اتهمت الولايات المتحدة الصين "بالاستعراض"، في حين ألقت وسائل الإعلام الصينية الرسمية باللوم على المسؤولين الأمريكيين لتحدثهم لفترة طويلة و"لعدم حسن الضيافة"، وتبادل الجانبان الاتهامات بانتهاك البروتوكول الدبلوماسي بالتحدث لفترة طويلة في الكلمات الافتتاحية.
مرحلة جديدة من الحرب الباردة؟
قراءة ما حدث خلال تلك الاجتماعات بين الجانبين تشير بشكل واضح إلى أن الحرب الباردة بين الجانبين قد دخلت مرحلة جديدة، بعد أن سارت الجولة الأولى بصورة غير متوقعة. إذ إن التوقعات كانت تشير إلى أن المواجهة الدبلوماسية غير المريحة ستتسم بالأجواء الباردة التي تحاكي مقر انعقادها في ألاسكا، لكنها اتسمت بالسخونة والتخلي عن المظاهر الدبلوماسية، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
فالموقف الهجومي الذي اتخذته بكين فاجأ الجميع، وأصبح واضحاً أن استراتيجية "الذئب المحارب" التي يتبناها الرئيس الصيني شي جين بينغ لم تعد فقط موجهة للداخل الصيني، بل أصبحت شعاراً لتعامل الصين مع العالم بشكل عام، ومع "الوصاية الأمريكية" بشكل خاص.
فخلال السنوات الأخيرة، بدأت الخارجية الصينية في تبني مواقف أكثر حدة على الساحة الدولية من خلال اختيار جيل من الدبلوماسيين الذين يستخدمون لغة خطاب صارمة ومتحدية، فيما كان يوصف بأنه موجه للداخل الصيني، لكنّ مسؤولاً سابقاً في الأمن القومي قال لمجلة Politico الأمريكية إنه "بات الآن واضحاً أن الصين تشعر بأنها يمكنها تحمل تكلفة اتخاذ موقف متحدٍّ لأمريكا للدرجة التي تعكس الندية والتنافس".
والمؤشر الآخر على أن القوتين تستعدان لجولة أكثر سخونة من التنافس والمواجهة يتمثل في الزيارة التي سيقوم بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافاروف الأسبوع المقبل إلى بكين، ومن المؤكد أن العلاقات مع واشنطن ستتصدر أجندة لقاءاته هناك، في ظل توتر العلاقات بين موسكو وواشنطن للدرجة التي وصف فيها بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين "بالقاتل عديم الروح"، ورد بوتين بالسخرية المبطنة من "حالة بايدن الصحية".
وتزامناً مع زيارة لافاروف لبكين، سيتوجه بلينكن إلى بروكسل لحضور اجتماعات لحلف الناتو ومناقشة "الصين" مع الحلفاء الأوروبيين، إذ تقول إدارة بايدن إنها تريد أولاً توحيد صفوف الحلفاء قبل مواجهة بكين في قضايا مثل الهجمات الإلكترونية وحقوق الإنسان والممارسات التجارية وتهديد حلفاء مثل أستراليا وتايوان واليابان.
والخلاصة هنا هي أن ما كشفت عنه تلك الجولة الافتتاحية بين القوتين تؤكد أن الحرب الباردة بينهما قد دخلت بالفعل مرحلة جديدة تتخطى التعامل الدبلوماسي الحذر إلى الصراع المفتوح على كافة الاحتمالات، وفي هذا السياق، كانت مجلة The National Interest الأمريكية قد نشرت قبل أيام تقريراً رصد التكهنات التي انتشرت مؤخراً بشأن إمكانية قيام تحالف بين روسيا والصين؛ إذ قال أحد الخبراء الصينيين في منتدى أقيم في الصين مؤخراً: "الولايات المتحدة لديها حلفاء كثر. والصين أيضاً يمكنها أن تحظى بحلفاء"، وكان التصور السائد بين الخبراء هو أن ذلك مستبعد.