بعد مرور 10 سنوات على انطلاقة الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، التي أحدثت تغييرات ضخمة في سوريا وخارجها، وأثرت على علاقات الدول الإقليمية وحتى الكبرى، تحولت الثورة إلى حرب بالوكالة بين قوى إقليمية وعالمية، بعدما سحق نظام الأسد تطلعات المحتجين المبكرة، وطاردها بالحديد والنار على مدار السنوات العشر الماضية.
وحول ذلك يستقصي قدير أوستون، المدير التنفيذي لمؤسسة "سيتا" (SETA) والخبير في الشؤون التركية، في مقال منشور عبر موقع Middle East Eye البريطاني، المسارات المتأرجحة التي اتخذتها الولايات المتحدة في سوريا، وما أفضى إليه القرار الأمريكي بدعم وحدات حماية الشعب الكردية من تزعزعٍ في العلاقات التركية الأمريكية. لافتاً إلى بعض التوصيات التي "يجدر بإدارة بايدن العمل عليها إذا أرادت حقاً الوفاء بتعهداتها الخاصة بالعمل مع الحلفاء، وكذلك تجاوز التداعيات الخطيرة للتشتت الذي تشهده المواقف الأمريكية في سوريا".
ويقول قدير أوستون، إن الصراع السوري الذي تسبب في كارثة إنسانية نزح بسببه ملايين عن مساكنهم داخل البلاد، أو تحولوا إلى لاجئين خارجها، أدّى إلى زعزعة استقرار المنطقة بدرجة كبيرة، وأثار انقساماً أوروبياً حياله، ما أفضى إلى تصاعد مشاعر العداء للمهاجرين. أما تداعياته الأكثر أهمية فيما يتعلق بحلف الناتو، فهو أنه أدّى إلى إحداث شرخ في العلاقات بين حليفين رئيسيين: تركيا والولايات المتحدة.
كيف بدأ الخلاف الأمريكي التركي من سوريا؟
تعتبر تركيا الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، منذ انضمام تركيا إلى حلف الشمال الأطلسي "الناتو" سنة 1952، لاسيما أن دخول أنقرة إلى هذا الحلف أعطى بُعداً جديداً للعلاقة الثنائية بين البلدين، وأثرت أزمات وأحداث عديدة على العلاقة بين الطرفين سلباً وإيجاباً، لكن في السنوات الأخيرة وصلت الخلافات بين أنقرة وواشنطن إلى ذروتها، وكان محور ذلك الخلاف بشكل أساسي هو سوريا.
يشير أوستون إلى أن الخلاف بين الدولتين حيال السياسات الجديرة بالاتباع في سوريا لا يعد اختلافاً بسيطاً، إذ إن كل دولة منهما تدعم مجموعات مسلحة مختلفة على الأرض: تدعم تركيا "الجيش السوري الحر" وجماعات معارضة أخرى تستهدف نظام الأسد، في حين استثمرت الولايات المتحدة جهودها في دعم "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي يتألف عمودها الفقري من "وحدات حماية الشعب" (YPG)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف إرهابياً.
يلفت الكاتب إلى أنه في حين أن الولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوروبي تصنف حزب العمال الكردستاني منظمةً إرهابية، فإن السياسة الأمريكية في سوريا "خلقت تمييزاً مصطنعاً" بين حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية. وكان هذا التمييز ضرورياً لتلاقي التداعيات القانونية المحتملة، (أي الآثار المترتبة على دعم منظمة إرهابية)، وكمحاولة لاسترضاء المعارضة الرسمية التركية لهذا التعاون.
يعود الدعم الأمريكي إلى خريف عام 2014، عندما قامت إدارة أوباما بإلقاء أسلحة خفيفة وذخائر لدعم وحدات حماية الشعب الكردية، التي كانت تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في بلدة كوباني الحدودية. وحينها أكدت الولايات المتحدة لتركيا أن هذا تدبير مؤقت لمنع سيطرة داعش على المنطقة الاستراتيجية.
ورغم أن تركيا لا تثق بوحدات حماية الشعب، فإنها سهّلت مرور القوات الكردية العراقية عبر الأراضي التركية للمساعدة في القتال ضد داعش في كوباني. مع ذلك يشير المقال إلى أن الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية قد تعزَّزَ إلى مستوى أشاد فيه الجيش الأمريكي علانية بنجاحات تلك الوحدات ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والتي لم يكن معظمها ممكناً لولا الدعم الجوي والتدريب والأسلحة الأمريكية، بحسب الكاتب.
وبدلاً من الاستثمار في جماعات المعارضة السورية، اتخذت الولايات المتحدة خياراً بالاستثمار في دعم فرع حزب العمال الكردستاني (المصنف إرهابياً) في سوريا، وأرجعت ذلك جزئياً إلى تجربة حزب العمال الكردستاني القتالية التي امتدت لعقود (ضد تركيا)، علاوة على هيكل السيطرة المحكم لقيادته على الأفراد المنتمين إليه.
أما من جهة حزب العمال الكردستاني، فيقول كاتب المقال إن هذه العلاقة كانت مجزية للغاية: فهي علاقة مكنته من تحقيق مكاسب إقليمية في شمال سوريا وحتى في العراق، إلى جانب الاعتراف الدولي. وقد أتاح انهيار سوريا فراغاً يمكن أن يملأه الحزب، وبدا أن الولايات المتحدة مستعدة لأخذ هذه المخاطرة "منخفضة التكلفة" كجزء من سياستها بالتدخل ضمن الحدِّ الأدنى، وفقاً للمقال.
تركيا اضطرت لتولي زمام الأمور عسكرياً في سوريا
في المقابل، يوضح أوستون أن تركيا لم تكن مستعدة للجلوس مكتوفة الأيدي في وقت يحقق فيه حزب العمال الكردستاني مكاسب في شمال سوريا، ويحصل على الدعم الغربي. ومن ثم أطلقت تركيا في أغسطس/آب 2016 عمليةً عسكرية على طول حدودها وداخل سوريا، بهدف تطهير المنطقة من سيطرة داعش ووحدات حماية الشعب الكردية. كما منعت القوات التركية نظام الأسد من مهاجمة إدلب، والتي كانت ستؤدي إلى تدفق هائل آخر للاجئين إلى تركيا.
على الجانب الآخر، يوضح أوستون أن انتقادات تركيا الشديدة للدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب لم تلق آذاناً صاغية في واشنطن، التي ثار غضب المسؤولين فيها عندما قرر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الانسحاب فجأة من سوريا. ولم تكن تركيا بالضرورة من دعاة خروج الولايات المتحدة من سوريا، لكنها تعرضت للهجوم من وسائل إعلام وسياسيين أمريكيين لأنها شككت في الأساس المنطقي ودوافع الوجود الأمريكي بعد الانهيار الإقليمي لداعش.
ويذهب المقال إلى أن ترامب واصل إلى حد كبير سياسة أوباما القائمة على دعم وحدات حماية الشعب على الأرض، ما أدى بدرجة أساسية إلى إنشاء منطقة حكم ذاتي تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني. لكن بعد الانسحاب الأمريكي، الذي نُظر إليه على نطاق واسع على أنه تخل من ترامب عن الأكراد، تولت تركيا زمام الأمور من خلال التدخل عسكرياً.
ويتطرق الكاتب إلى تلميحات بعض المراقبين بأن تركيا يمكن أن تتوصل إلى نوع من التسوية مع وحدات حماية الشعب، على غرار علاقاتها مع حكومة إقليم كردستان في العراق. ومع ذلك، يذهب أوستن إلى أن هذه المقارنة "معيبة للغاية"، لأن حزب العمال الكردستاني لديه تاريخ يمتد لأربعة عقود من القتال ضد تركيا، في حين لم تسلك حكومة إقليم كردستان هذا المسار. كما أن حزب العمال الكردستاني يواصل شنَّ هجمات داخل تركيا وسوريا والعراق، ويحاول بناء قدراته، بفضل الدعم الأمريكي.
"العمل مع الحلفاء".. السياسة التي تعهد بها بايدن وتريدها تركيا
وفي نوع من التوضيح لأسباب التدخل التركي في سوريا، يقول أوستن إن العمليات العسكرية التركية في سوريا أدّت إلى تقليص احتمالات قدرة العمال الكردستاني على إنشاء "دويلة" متصلة مع إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. كما أدى وجود تركيا على الأرض على تقليل المخاوف بشأن خطة الاستقرار التي وضعها الحزب لنفسه في سوريا. ومع ذلك، فإن "استمرار دعم الولايات المتحدة للحزب وتمجيدها لأمور مثل علمانية وحدات حماية الشعب ومقاتلاته الإناث وتفانيه في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية لا ينفك يسمم العلاقة بين حليفي الناتو"، على حد تعبير المقال.
وينتقد المقال تأرجح السياسة الأمريكية في سوريا بين السعي إلى منع عودة ظهور داعش، ومواجهة إيران، والرد على سوريا، وتقديم المساعدات الإنسانية، وحتى حماية إسرائيل. ويومئ إلى أن هذا التشتت كان سبباً في فشل الإدارات الأمريكية المتعاقبة في صياغة استراتيجية واضحة وتسويغات منطقية للوجود العسكري الأمريكي في سوريا.
وفي حين يرى بعض المحللين أن التكلفة المالية (نحو 1.5 مليار دولار سنوياً) والتكاليف البشرية لوجود الولايات المتحدة ضئيلة، فإن المقال يشدد على أن الأمر يتعلق بالمنظور الذي يطّلع منه المتابع على المسألة، خاصة مع الاحتكاكات المترتبة عن هذا التدخل مع أحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة في الناتو.
ومن ثم، يختم المقال بالإشارة إلى أن إدارة بايدن تحتاج إلى إلقاء نظرة طويلة وفاحصة على استراتيجية الولايات المتحدة في سوريا، والانتباه إلى أن الاستثمار في دعم وحدات حماية الشعب ليس مجانياً، وأنه سيستمر في زعزعة العلاقات الأمريكية مع تركيا، التي لطالما تحملت عبئاً إنسانياً هائلاً أثناء محاربة الإرهاب في المنطقة. ولكل هذا يشدد المقال على أن الاستمرار في تجاهل المخاوف التركية أمرٌ لا يمكن السكوت عنه.
ويذكّر أوستون بايدن بتعهده بالعمل مع الحلفاء، مؤكداً أن تركيا يجب أن تتصدر قائمة الدول التي يجدر بالإدارة الأمريكية أن تعمل معها في مختلف المجالات، بدءاً من سوريا. ويحذّر من أن الامتناع عن التعامل مع تركيا على مستوى ذي مغزى سيؤدي إلى الإضرار بالعلاقات الثنائية وتفاقم المعاناة الإنسانية وزعزعة استقرار المنطقة وتزايد الانقسامات حيال الأزمة في أوروبا، علاوة على تعميق الخلافات داخل الناتو.