"بوتين قاتل، وسنعاقبه على التدخل بالانتخابات الأمريكية"، لم تطلق هذه الكلمات الصادمة للرئيس الأمريكي جو بايدن حرباً كلامية بين أمريكا روسيا فقط، بل أثارت تساؤلات حول كيف ستنتقم واشنطن من الحروب الإلكترونية الروسية التي غيرت الجغرافيا والسياسة الغربية خلال السنوات الماضية.
جاءت تصريحات بايدن بعد تقرير استخباراتي أمريكي يتحدث عن تدخل روسي جديد في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة كان يستهدف إسقاط بايدن، الذي فاز في نهاية المطاف على منافسه الجمهوري دونالد ترامب.
وفجرت تصريحات بايدن أزمة في العلاقات المتوترة أصلاً مع روسيا، حيث رد بوتين على تصريحات نظيره الأمريكي، معتبراً أنه يسيء لنفسه، فيما أعلنت روسيا استدعاء سفيرها في واشنطن للتشاور.
"أنا أعرف بوتين جيداً.. إنه قاتل"
وقال بايدن إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "سيدفع الثمن" لجهوده في تقويض الانتخابات الأمريكية لعام 2020، وذلك خلال مقابلة للرئيس الأمريكي أذيعت الأربعاء مع قناة ABC News.
ورداً على سؤال عن العواقب التي يقصدها، قال بايدن: "سترون قريباً".
وأشار بايدن خلال المقابلة التي بُثت على برنامج "صباح الخير يا أمريكا"، إلى محادثة أجراها مع بوتين في مكتبه بالكرملين في عام 2011، وذكر أنه قال لبوتين حينها إنه لا يعتقد أن للرئيس الروسي روحاً. واستذكر بايدن أن رد بوتين كان بالقول: "إذن، نحن نفهم بعضنا البعض".
وعندما سأل المذيع عما إذا كان يعتقد أن بوتين "قاتل"، قال الرئيس الأمريكي: "امممهم، أعتقد ذلك".
ورد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس، على وصف بايدن له بـ"القاتل"، قائلاً إنه "يتمنى له صحة جيدة"، وأضاف بوتين: "أقول هذا بدون سخرية، وبدون نكات"، معتبراً أن الناس يميلون إلى رؤية الآخرين كما يرون أنفسهم.
وتابع بوتين: "في الطفولة، عندما كنا نتجادل مع بعضنا البعض، كنا نقول: من يسئ (للآخرين)، فإنه يسئ لنفسه".
من جانبها، قالت الرئاسة الروسية إن تقرير الاستخبارات الأمريكية بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية يضر بالعلاقات المتضررة أصلاً بين موسكو وواشنطن.
وبعيد الإعلان الروسي باستدعاء السفير، قالت الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة ستواصل العمل مع روسيا خدمة للمصالح الأمريكية؛ لكنها أكدت في الوقت نفسه التزامها بمحاسبتها على ما وصفته بأنشطتها الخبيثة.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، في تغريدة لاحقة، إن واشنطن لن تعتمد على العقوبات فقط في تعاملها مع روسيا، متحدثة عن وسائل لن يتم الإفصاح عنها.
غضب طويل الأمد من الحروب الإلكترونية الروسية
كان رد فعل بايدن الحاد وغير الدبلوماسي محصلة غضب غربي طويل الأمد خاصة في الأوساط الليبرالية (الأكثر تضرراً من الحروب الإلكترونية الروسية) من تمادي بوتين في استخدام لهذه الأدوات التي يفترض أن الأمريكيين كانوا أكثر تفوقاً بها.
فقد أصبحت الحروب الإلكترونية الروسية وبصورة أقل حروب الصين وإيران وكوريا الشمالية الإلكترونية مشكلة كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة والغرب عامة.
وبدون مبالغة يمكن القول إن بوتين أعاد رسم السياسة والجغرافيا والتاريخ الغربي، عبر جيش ضئيل العدد من المبرمجين الموهوبين والمنخرطين في الحروب الإلكترونية.
فعلى سبيل المثال، يعتقد أن الحروب الإلكترونية الروسية قد تكون سبباً لفوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون عام 2016، مورطة أمريكا في واحدة من أسوأ عهودها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل يعتقد أن الحروب الإلكترونية الروسية لعبت دوراً شديد الخطورة في أوروبا، حيث يعتقد أن لموسكو دوراً في تشجيع قطاع الناخبين البريطانيين على التصويت لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في استفتاء البريكست الشهير، الأمر الذي دفع لجنة نيابية بريطانية للتحقيق في هذا الأمر مؤخراً.
وقبل ذلك يعتقد أن موسكو ساهمت في التحريض ضد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بسبب حفاوتها في استقبال اللاجئين السوريين عام 2015، وهو ما أدى ضمن أسباب أخرى إلى انقلاب الرأي العام الألماني ضد سياسة فتح الباب للاجئين السوريين الهاربين من بلادهم المنكوبة.
وفي أوروبا الشرقية، يعتقد أن الحروب الإلكترونية الروسية إضافة إلى الدعاية التلفزيونية، تساعد على زعزعة الأوضاع خاصة في البلدان التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي والتي يوجد بها أقليات روسية كبيرة مثل أوكرانيا وجمهوريات البلطيق.
من المسؤول عن التجرؤ الروسي ضد أمريكا وأوروبا؟
المفارقة أن بايدن شخصياً يتحمل مسؤولية كبيرة في وصول الحرب الإلكترونية الروسية إلى هذا المستوى من الفجاجة والتجرؤ الروسي عامة أمام أمريكا والغرب.
فقد بدأ الأمر مع عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما والتي كان بايدن نائباً له، وكان يحظى بمكانة كبيرة تفوق كثيراً من نواب الرؤساء الأمريكيين باعتراف أوباما في مذكراته.
ولكن سياسة هذه الإدارة الميالة للانسحاب من المشكلات وتحقيق السلام الذي وعد به أوباما، أدت إلى تحرك روسي لملء الفراغ، وتجرؤ في مواجهة غياب الردود الأمريكية.
وهناك أزمتان كان لهما تأثير واضح في هذا الصدد، ضعف الرد الفعل الأمريكي والغربي عامة على حرب روسيا على أوكرانيا وضمها للقرم، (حتى لو فرضت بعض العقوبات)، علماً بأن أوكرانيا شريك للناتو، ودولة تاريخياً تتطلع للغرب، كما أنها تخلت عن أسلحتها النووية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مقابل ضمانات أمنية من واشنطن وموسكو على السواء.
الأزمة الثانية، كانت سوريا، حيث تركت إدارة أوباما، الثورة السورية (التي كان أوباما وأعضاء إداراته متعاطفون معها شخصياً) فريسة للأسد والتدخل الإيراني، ثم لم تعاقب إدارة أوباما نظام الأسد بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وأدى كل هذا الضعف إلى دخول الروس بشكل سافر إلى سوريا، وقمعهم الثورة السورية بوحشية، إضافة إلى انتهاك طائرات موسكو الأجواء تركيا عضو الناتو دون رد أمريكي أو أوروبي.
كان كل ذلك رسالة لبوتين بأن "افعل ما شئت فلن تواجه برد حازم"، فيما كان القادة الغربيون وعلى رأسهم أوباما وبايدن يتساءلون في ذلك الوقت كالهواة، من أين يأتي بوتين بهذه الجرأة والاقتصاد الروسي حجمه يعادل كندا، أصغر اقتصاد في مجموعة الثمانية، وأقل حجماً حتى من ولاية كاليفورنيا الأمريكية.
وتتحمل القوى الليبرالية الأوروبية مسؤولية مشتركة مع إدارة أوباما في التغييرات الاستراتيجية التي حدثت في ذلك الوقت، ومنها تجاهل أوروبا وأمريكا طلب تركيا المتكررة للحصول على نظام دفاع جوي فعال (تجاهل أوباما طلب أنقرة الحصول على نظام باتريوت الأمريكي).
بل إن دول الناتو سحبت صواريخ باتريوت من تركيا في ذروة الأزمة بين أنقرة وروسيا.
وبالإضافة إلى ترك الربيع العربي فريسة للأنظمة العربية المستبدة، فإن الدول الغربية كان رد فعلها فاتراً (لدرجة تلامس التلميح بالارتياح) على الانقلاب العسكري الذي وقع في تركيا عام 2016 ضد نظام ديمقراطي منتخب لأنها لم تتحمل سعيه لسياسة مستقلة، وأدت هذه التطورات إلى انتهاز روسيا فرصة الغضب التركي من الخذلان الغربي وسارعت للتقارب مع أنقرة، وهو بمثابة مكسب استراتيجي مهم لموسكو بالنظر إلى أهمية تركيا الجيوسياسية والعسكرية لأوروبا والغرب وحلف الأطلنطي.
بالطبع تتحمل الأحزاب المحافظة واليمينية (يمين الوسط وأقصى اليمين على السواء) مسؤولية كبيرة عن التجرؤ الروسي أيضاً لأنها كانت مستفيدة منه في الأغلب؛ لأن التدخل الروسي في العملية السياسية في الغرب كان يخدم أجندتها (مثل العداء للمهاجرين والإسلام)، إضافة إلى مغازلة فكرة وحدة الرجل الأبيض في مواجهة العالم الإسلامي والصين.
خيارات أمريكا للانتقام من روسيا
يبدو أن التمادي الروسي في التدخل بالشؤون الداخلية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، يدفع بايدن للتفكير في ضرورة الرد، باعتبار أن الرد هو أفضل وسيلة لردع ووقف هذه الحروب الإلكترونية الروسية الخفية.
ولكن ما هي الخيارات أمام بايدن؟
الانتقام السيبراني
أحد الخيارات التي سبق طرحها على الرئيس الأمريكي باراك أوباما إثر التدخل الروسي في انتخابات عام 2016، كان الانتقام بوساطة هجوم إلكتروني مضاد.
في ذلك الوقت، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن بلاده سوف ترد في المكان والزمان اللذين تختارهما على القرصنة الإلكترونية الروسية ضد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ولكن هذا التهديد لم ينفذ، وقد يكون ذلك بسبب طبيعة أوباما المترددة، إضافة إلى أنه فعلياً قد أصبح بطة عرجاء وقت هذا التهديد بعد الإعلان عن فوز ترامب، فضلاً عن كون الرئيس الجديد قد جاء بفضل التدخل الروسي، وكذلك حساسية وضع أوباما باعتبار أن الأمر سيبدو كانتقام لهزيمة الديمقراطية هيلاري كلينتون، خاصة في ظل تقليل الجمهوريين من تداعيات الهجوم الإلكتروني الروسي.
وقد يكون السبب في عدم الرد الأمريكي أيضاً الطابع البيروقراطي الحذر الذي ميز إدارة أوباما ومكتب التحقيقات الفيدرالية ورئيسه في ذلك الوقت جيمس كومي الذي أقاله ترامب بعد ذلك بسبب إصراره على الاستمرار في التحقيق بالتدخل الروسي (يبدو أنه حاول القيام بالعمل الصحيح بعد فوات الأوان).
أمريكا شنت أشهر هجوم إلكتروني معروف حتى الآن
والولايات المتحدة يفترض أن لديها أعلى قدرات في العالم في مجال الحرب الإلكترونية، ولديها وكالة متخصصة في هذا الأمر هي وكالة الأمن القومي الأمريكية التي يقال إنها تمتلك قدرات مذهلة في التجسس والحروب الإلكترونية.
وسبق أن استخدمت أمريكا أدوات الحرب الإلكترونية ضد العراق وصربيا.
بل إن إدارة أوباما نفذت أشهر عملية في تاريخ الحرب الإلكترونية معروفة حتى اليوم، من خلال استخدام سلاح سيبراني يسمى ستوكسنت (Stuxnet) لتخريب معدات نووية إيرانية، عبر استخدام فيروس لتشغيل أجهزة الطرد المركزي رغماً عن الإيرانيين (ودون معرفتهم لبعض الوقت) بطريقة أضرت ببرنامجهم النووي، وتسببت في تأخير عمليات تخصيب اليورانيوم.
وهي العملية التي تحدث عنها تأليف: الكاتب الأمريكي فرد كابلان في كتابه، "المنطقة المعتمة.. التاريخ السري للحرب السيبرانية".
قياساً على ذلك، يمكن للولايات المتحدة تنفيذ هجمات إلكترونية تلحق الضرر ببرمجيات البنية الأساسية الروسية.
ولكن يجب ملاحظة أن التفوق الأمريكي في هذا المجال بدأ يتضاءل والفجوة بين واشنطن ومنافسيها الأقل مثل إيران وكوريا الشمالية قد تراجعت، فما بالك بروسيا التي تعتبر من أكثر الدول تقدماً في هذا المجال (المبرمجون والقراصنة الروس مشهورون بعبقريتهم).
والأهم أن روسيا استثمرت في مجال الحرب الإلكترونية بشكل كبير، في ظل عجزها في التفوق على واشنطن في النواحي العسكرية، وهي الدولة التي أخذت الحرب الإلكترونية والدعائية إلى مستوى غير مسبوق.
كما أن من شأن انتقام إلكتروني أمريكي قوي أكثر مما ينبغي أن يثير رد فعل روسياً، يفتح الباب لحرب إلكترونية واسعة النطاق تلحق الضرر بالبلدين.
كما أنه يعتقد أن الطبيعة الأمنية للدولة الروسية الأكثر انغلاقاً من أمريكا، قد تجعل الأخيرة أكثر تضرراً من أي حرب إلكترونية مع روسيا.
ما هو أسوأ أن تسبب الحرب الإلكترونية بين البلدين في ضرر مادي يؤدي إلى انتقال الصراع من الواقع الافتراضي إلى أي مستوى من مستويات الواقع الحقيقي.
خيار أمريكا المفضل.. لماذا تبدو موسكو قادرة على تحمّله؟
تظل العقوبات خيار أمريكا المفضل، ولكن المشكلة أنه تحديداً مع روسيا، فإنه العقوبات لن يكون تأثيرها كبيراً.
فقد خلق بوتين اقتصاداً محافظاً لا يميل لتحقيق نمو عالٍ، ولكنه قادر على تحمل الأزمات، وذلك عبر احتفاظ البلاد باحتياطات مالية تعتبر ضخمة جداً بالمقارنة بحجم الاقتصاد الروسي.
والدليل على ذلك أن السندات الروسية لديها أسعار فائدة جيدة رغم تراكم العقوبات الغربية خلال السنوات الماضية، ورغم تراجع أسعار النفط التي هي المصدر الرئيسي لدخل البلاد.
بل إن روسيا رغم أن عدد سكانها يقارب خمس أضعاف السعودية، تستطيع ميزانيتها تحمل أسعار نفط منخفضة عن الرياض، إذ نجحت روسيا في عهد بوتين في خلق اقتصاد يتكيف مع تراجع موارد النفط والعقوبات الغربية.
كما أن التقارب الروسي الصيني في المجالات الاقتصادية، وصادرات الأسلحة الروسية لبكين، من شأنها تخفيف تأثير أي عقوبات أمريكية مفترضة، في ظل أن الصين أيضاً تعاني من عقوبات أمريكية.
محاصرة النفط والغاز الروسي في أسواقه الكبرى
إحدى النقاط التي يمكن أن تؤثر على روسيا بشدة هي محاصرة النفط والغاز الروسي في أسواقه الكبرى، وهو أوروبا.
ولكن هذا الخيار يقف أمامه عراقيل عدة منها أن الغاز الروسي يصل أوروبا بشبكات أنابيب تجعل الارتباط بين الجانبين الروسي والأوروبي طويل الأمد، خاصة في ضوء تنافسية سعر الغاز الروسي.
كما أن الأوروبيين رغم شكواهم الدائمة من موسكو لم يبدوا أي رغبة في الابتعاد عنها، بل هم منقسمون في تقييم مدى خطورتها، حيث يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التقارب معها، مع تنصيب تركيا خصماً لأوروبا (مدعوماً بموقف يوناني مشابه).
أما ألمانيا التي تشعر بوطأة الخطر الروسي أكثر من فرنسا، فإن مستشارتها أنجيلا ميركل لا تريد ترجمة مخاوف ألمانيا من روسيا إلى عمل واقعي خوفاً من التورط في توتر سياسي وعسكري خطير، أو حتى تأثر الازدهار الاقتصادي الألماني التي تحقق في عهدها.
ومن هنا رفضت ميركل وقف خط السيل الشمالي الذي يربط الغاز الروسي بأوروبا عبر ألمانيا، رغم التهديد بعقوبات أمريكية على الشركات المشاركة فيه.
وقبل ذلك رفضت ميركل تسليح أوكرانيا أمام الاعتداءات الروسية التي انتهت بالاستيلاء على القرم.
جربت ميركل شخصياً مغامرات بوتين الصبيانية عندما قام بتخويفها ذات مرة بكلبه لأنها يعلم أنها لديها عقدة منذ الطفولة من الكلاب.
ولكن تشعر بأن مواجهة هذه المغامرات بتصعيد سياسي وأمني واقتصادي، لن يكون مُضراً فقط باقتصاد ألمانيا التي تعتمد على إمدادات الطاقة الروسية، ولكن أي تصعيد روسي مقابل، ليس لدى ألمانيا ولا أوروبا قدرة على مواجهته وحدهما، في وقت لا يمكن ضمان النجدة الأمريكية التي سبق أن خذلت أوكرانيا.
كما أن التوجهات الانعزالية الأمريكية التي عبر عنها ترامب والتي تطالب بتحمل أوروبا لمسؤولية حماية نفسها وأن تركز واشنطن على الخطر الصيني، قد ترسخت في الوجدان الاستراتيجي الأمريكي، وهذا قد يعني أنه في حال حدوث أزمة حقيقية لا يمكن ضمان الدعم الأمريكي.
إعادة بناء التحالفات الأمريكية لاحتواء روسيا
إلى جانب كل الخيارات السابقة، فإن هناك خياراً تتجاهله أمريكا، رغم أنها بدأت تطبقه على استحياء في آسيا في مواجهة الصين، وطبقته خلال الحرب الباردة، وهو تقوية البلدان التي تعتبر منافساً تقليدياً مع روسيا وتقوية التحالف معها.
وأسست أمريكا مؤخراً مجموعة كواد (الرباعية) لاحتواء الصين، عبر تعزيز قوة جيران بكين الكبار اليابان والهند وأستراليا دون دفعهم للدخول في مواجهة معها.
يمكن أن تكرر إدارة بايدن ذلك مع دول مثل تركيا التي هي منافس تاريخي لروسيا، ولكن سياسات أمريكا وأوروبا جعلت البلدين صديقين.
ولكن هذا لا يجب أن يتم بمحاولة إعادة سياسة الإملاء على تركيا (وتخييرها بين واشنطن وموسكو) بقدر ما يجب أن يتم عن طريق تقويتها عسكرياً واقتصادياً لأن ذلك من شأنه أن يقرب تركيا للغرب، وأن تتنافس مع روسيا بحكم طبائع الأمور بين البلدين.
تمثل أوكرانيا التي تركها الغرب فريسة للروس مرشحاً طبيعياً لهذه السياسية أيضاً، وهي أحوج إليها من تركيا، كما أن كييف رغم كل مشكلاتها لديها إمكانيات كامنة لتصبح حائط صد التوسع الروسي عبر عدد سكان ليس قليل نسبياً (نحو 41 مليون نسمة) وصناعات عسكرية لديها إمكانيات كبيرة (حتى لو ترهلت) كافية لتسليح الجيش الأوكراني، واقتصاد رغم كل أزماته لديه بنية صناعية كبيرة، ومستوى علمي راقٍ وأراضٍ زراعية وفيرة (أوكرانيا كانت سلة قمح الاتحاد السوفييتي).
معرفة من هم الحلفاء الحقيقيين في هذه المعركة
إحدى إشكاليات الغرب التي ظهرت في السنوات الماضية أن حلفاءه التقليديين من الأنظمة المستبدة لاسيما في المنطقة العربية أصبحت لديهم دوافع ذاتية قوية للتقارب مع روسيا والصين.
لعقود طويلة كانت الأنظمة المستبدة غير الاشتراكية في العالم الثالث حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة وأوروبا في مواجهة المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، كان هذا التحالف نابعاً من العداء المشترك للاشتراكية والنزعات الاستقلالية مثل القومية العربية (في العالم العربي).
وكان هذا مانعاً للأنظمة اليمينية في العالم الثالث، من اكتشاف العامل المشترك بينهم وبين الاتحاد السوفييتي والصين وهو "الاستبداد"، واليوم بعد تخلي الصين وروسيا عن الشيوعية بات ما يجمعهما بالأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث أكثر مما يفرقهم.
فالصين وروسيا لا تغضب المستبدين بالحديث عن الحريات مثل يفعل الغرب (حتى لو كان حديثاً أجوف وشكلياً، كما يفعل الغرب)، بل إنه في حالة العالم الإسلامي تحديداً، فإن الصين وروسيا يجمعهما مع كثير من المستبدين رغبة جامحة في محاربة الديمقراطية والإسلام السياسي بأي ثمن.
فما يجب أن يراعيه بايدن وهو يخطط لعلاقته مع الصين وروسيا، أن الأنظمة الاستبدادية "العالم ثالثية"، لاسيما العربية تميل بحكم طبيعتها لموسكو وبكين، وأن ما يكبحها عن الاندفاع في هذا الاتجاه هو خوفها من الغضب الغربي، إضافة إلى أن الصين وروسيا لا يزال هناك حدود لقدراتهما الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية.
ولكن مع الصعود الصيني تحديداً (الذي تستفيد منه روسيا)، والذي يعني التراجع الحتمي لوزن الغرب النسبي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، فإن هذه الأنظمة المستبدة لاسيما العربية ستواصل التقارب مع بكين وموسكو دون أن تأبه للغرب.
فنموذج التنمية بدون مراعاة البعد الإنساني مع القمع الواسع النطاق، المعتمد على المراقبة التكنولوجية والهيمنة على الإعلام الذي يميز الصين وروسيا، نموذج مغرٍ للغاية لمستبدي العصر الحالي.
في المقابل فإن القوى والأنظمة الديمقراطية وكذلك تيارات الإسلام السياسي المعتدل مهما كانت مآخذ الغرب عليها ومهما كان مآخذها على الغرب، فإنها إذا خيرت بين علاقة جيدة مع الصين وروسيا أو مع الغرب بالتأكيد ستختار الأخير.
لأنه في أسوأ أحوال الغرب، فإنه قد خذل الربيع العربي، أو منع المسلمات المتدينات من لبس الحجاب كما هو في فرنسا، أو حتى وصل الأمر لمنع مسلمي بضع دول من دخول أمريكا كما فعل ترامب.
أما في الصين، فإن شعباً مسلماً "الإيغور" بأكمله وضع في مراكز احتجاز لمسح هويته، وشعباً آخر كالشيشان دمرت بلاده لأنه فكر في الاستقلال.
ولذا تحتاج إدارة بايدن إلى كبح رغبة حلفائها المستبدين العرب وغير العرب في التقرب لروسيا، وأن تدرك أن تحالفهم مع أمريكا هو تحالف مصالح سيزول لو ذهبت هذه المصالح ولو بعد حين.