إشارات متضاربة تخرج من موسكو بشأن مستقبل سوريا ومصير بشار الأسد، فتارة يبدو أنها تروج لتطبيع عربي مع نظامه المنبوذ، وتارة تُسرب حديثاً عن البحث في مصيره، مما يعني البحث عن بديل.
وتشير بعض التقارير إلى تطوُّر في الموقف الروسي بهدف الوصول إلى حل سياسي في سوريا، تمهيداً لفتح الطريق للدخول الخليجي، مقابل تخفيف الهيمنة الإيرانية، وأنشطتها الاستفزازية في سوريا.
فموسكو تعاني أزمة مالية واقتصادية وهي بالتالي لا تستطيع منع انهيار الاقتصاد السوري، كما أنها تعلم أن الرهان على حلٍّ سياسي في سوريا وإعمارها مستحيل من دون الخليج والسعودية، والرضا الأوروبي والأمريكي. وهذا يتطلب تنازلات من حزب الله وإيران.
ولكن التحركات الروسية تحمل مسارات متعددة، فأحياناً يبدو أنها تحاول تمرير قبول عربي ودولي للأسد، وأحياناً أخرى تلمح إلى بحث فكرة إيجاد بديل له.
عودة سوريا للجامعة العربية عبر البوابة السعودية
قبل عدة أيام عقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لقاءين منفصلين مع نظيريه السعودي فيصل بن فرحان، والإماراتي عبدالله بن زايد، حيث دعا كلاهما خلال اللقاء، إلى أن من الضروري عودة سوريا إلى ما يوصف بـ"حاضنتها العربية"، أي الجامعة العربية.
إذ قال وزير الخارجية السعودي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع لافروف، في 10 مارس/آذار 2021، إن الأزمة السورية تتطلب حلاً سياسياً، مؤكداً أن هذا البلد في حاجة إلى العودة لحضنه العربي والتمتع بالاستقرار والأمن.
وهو موقف يعد بمثابة نقلة نوعية في السياسة السعودية تحديداً، التي تُعتبر أكبر مٌُتحفِّظ على عودة سوريا للجامعة العربية.
أما الشيخ عبدالله بن زايد فقد ذهب لأبعد من ذلك عندما صرح بأن "قانون قيصر" الأمريكي أصبح يشكل عائقاً رئيساً أمام التسوية السياسية في سوريا، وأن أبوظبي ستبحث هذا الأمر مع الجانب الأمريكي.
مسار الدوحة يشدد على رفض انفصال الأكراد ولا يتحدث عن الجامعة العربية
كما عقد لافروف اجتماعاً ثلاثياً مع وزيري خارجية تركيا وقطر، وهما أبرز دولتين داعمتين للمعارضة السورية، خاصة بعد تخلي الغرب والسعودية عنها، وهو الاجتماع الذي تقول وسائل إعلام روسية إنه قد تمخض عنه ما يُعرف بمسار الدوحة للتعامل مع الأزمة السورية.
وكان لافتاً أن "الاجتماع شهد تأكيد الدول الثلاث أنها ضد المشاريع التقسيمية ومع وحدة سوريا وانسحاب جميع القوات غير الشرعية، وأنه يجب أن تكون هناك تنازلات من الدولة السورية".
وهو بيان يفيد باحتمال وجود توجه للضغط على الأسد للتفاوض مع المعارضة السورية، إضافة إلى وضع خطوط حمراء أمام طموحات أكراد سوريا الانفصالية، وهو أمر يهم تركيا بصفة خاصة.
ولكن لم تشر قطر خلال الاجتماع، إلى موافقتها على عودة سوريا للجامعة العربية، كما فعلت السعودية.
وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن، أكد أن المسار الجديد سيقدم المساندة لجهود الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، لدعم مفاوضات اللجنة الدستورية في جنيف، كما أعلن نية الدوحة تسهيل وزيادة تقديم المساعدات الإنسانية إلى جميع السوريين، وتحقيق تقدُّم في العملية السياسية، وتسهيل عودة اللاجئين الطوعية إلى ديارهم.
تلميح روسي إلى البحث عن بديل للأسد
ولكن بعد كل هذه المبادرات الروسية الرامية إلى تطبيع وضع النظام السوري، خرجت تسريبات لافتة من الإعلام الروسي الرسمي، تقول إن مصير الأسد هو المحور الرئيسي لنقاش وفد حزب الله الذي زار روسيا مؤخراً.
ولا يُعرف عن الإعلام الروسي، بحكم طبيعة نظام الحكم في البلاد، أن تقاريره عفوية أو مجرد اجتهادات من الإعلاميين.
ففي تعليق لافت على زيارة وفد حزب الله لموسكو، كتب إيغور سوبوتين، في "نيزافيسيمايا غازيتا"، عن الهدف الحقيقي من زيارة وفد حزب الله لموسكو.
ونقل عمن وصفهم بالخبراء، قولهم إن "ممثلي حزب الله يريدون أن يعرفوا من موسكو ما إذا كانت هناك أي تغييرات في موقفها تجاه الرئيس السوري بشار الأسد".
ويعلق موقع المدن قائلاً: "هناك جهات روسية عملت على تسريب أخبار تفيد بأن الهدف الحقيقي من الزيارة هو السؤال عن مصير الأسد".
ورغم أن التسريبات حول فحوى زيارة وفد حزب الله تتضارب إلى حدّ بعيد، فإنه كان هناك شبه توافق على أن الملف اللبناني كان حاضراً، إلا أنه ليس العنوانَ الأبرز لزيارة وفد الحزب لروسيا، بل كان الأوضاع الإقليمية.
فالأساس في الزيارة، وفق ما نقله موقع المدن عن مصادر مقربة من حزب الله، هو البحث في الملفات الإقليمية وسوريا خصوصاً. ويضع الحزب الزيارة في خانة سعي روسيا لتعزيز أوراقها الإقليمية، في إطار التنافس مع إدارة جو بايدن.
ولكن حزب الله نفى بشكل قاطع، الحديث عن مصير الأسد، ويقول إن الزيارة للتشاور، وليس لاتخاذ قرارات، مؤكداً الانسجام الكامل مع روسيا.
صعود أسهم طلاس وحديث عن مجلس عسكري
"من الواضح أن روسيا تحاول إعادة الملف السوري إلى المسار الدبلوماسي مرة أخرى"، حسبما قال الباحث الزائر بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، وخبير مجلس الشؤون الدولية الروسي، أنطون مارداسوف.
وأضاف مارداسوف: "من الضروري التفاوض حول المأزق الحالي، لا يبدو أن زيارة وفد حزب الله وتفعيل صيغة (روسيا-تركيا-قطر) مسألة عرضية".
ولفت إلى الحديث غير الرسمي عن مجلس عسكري في سوريا، مؤكداً أهمية بحث تفاصيل الملف السوري، بل توضيحها في هذا التوقيت مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة والحملة الإعلامية حول" دور الجنرال مناف طلاس ابن وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس".
ومناف طلاس كان جزءاً من النظام السوري ثم انشق عنه، ولكن يظل اسمه مطروحاً كبديل للأسد باعتباره سُني المذهب وفي الوقت نفسه كان جزءاً من النظام ووالده كان رفيقاً مقرباً لحافظ الأسد حتى لو لم يكن له دور فعليّ في فترة ولايته الطويلة كوزير دفاع لسوريا.
وفي هذا الإطار، أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) تأييدها لفكرة تأسيس "مجلس عسكري" لقيادة سوريا في المرحلة الانتقالية.
وقال كينو غابرييل المتحدث الرسمي باسم "قسد"، في حديث صحفي لصحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، عن استعداد "قسد" للمشاركة في تشكيل مجلس عسكري مشترك لإدارة البلاد في مرحلة انتقالية، شرط تمثيل جميع القوى السورية مع وجود كيان سياسي يمثل جميع القوى السياسية بمهام مكملة لبعضها.
وأكد كينو أنهم على تواصل مع العميد مناف طلاس بخصوص تشكيل المجلس، وقال: "حصلت مجموعة من الحوارات بيننا؛ لمعرفة مهام المجلس والهدف منه والأفكار المطروحة حوله".
في المقابل، نفت ما تسمى "منصة موسكو" بالمعارضة السورية ما قيل عن تأييدها فكرة المجلس العسكري، كما نفت ما تردد عن لقاء ممثلين عنها بالعميد المنشق عن الجيش السوري، مناف طلاس، في باريس لبحث هذه الفكرة.
كما يظهر اسم رياض حجاب، رئيس الوزراء الذي انشق عن النظام بعد توليه منصبه بفترة قليلة عام 2012، وأصبح المنسق لـ"الهيئة العليا للمفاوضات" السورية المعارضة، قبل أن يستقيل منها.
إذ إن اللافت أن حجاب قد التقى وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، في الدوحة، بعد ساعات قليلة من الاجتماع الثلاثي التركي القطري الروسي لبحث الأوضاع بسوريا.
ماذا يريد الروس؟
هذا المبادرات الروسية لا تبدو غريبة، وسبق أن شهدت المنطقة تحركات روسية مماثلة، ممن ضمنها هجوم الإعلام الروسي على بشار الأسد والحديث عن إيجاد بديل له.
معرفة ما يريده الروس تحديداً، ليس بالأمر سهل، فالدبلوماسية الروسية تخاطب كل الأطراف، وقد يكون لأهداف متعددة، لا تقتصر على سوريا وحدها.
فلا يمكن استبعاد أن الحديث السعودي الإماراتي الروسي عن عودة سوريا للجامعة العربية ليس مرتبطاً فقط بهذا الهدف، بل قد يكون محاولة روسية للتقرب من أبوظبي والرياض عبر هذا الملف، مقابل سعي الدولتين الخليجيتين لإرسال رسائل إلى واشنطن بإمكانية التقارب مع روسيا، بسبب توتر علاقتهما مع إدارة بايدن، عبر جسّ نبضهما في مسألة العمل مع روسيا بالملف السوري تحديداً.
وفي الوقت ذاته قد تكون روسيا تسعى للتقارب مع تركيا وقطر؛ لتخفيف معارضتهما للنظام السوري، مقابل وعود فيما بالتعاون لكبح الأكراد، وفتح باب مفاوضات مع المعارضة السورية المقربة من تركيا والدوحة.
في المقابل، فإن التلميحات الإعلامية الروسية الغريبة والغامضة عن بحث مصير الأسد في زيارة حزب الله لموسكو، قد يكون هدفها الضغط على الأسد لتقديم تنازلات سواء في التفاوض مع المعارضة، أو تنازلات لروسيا في الداخل السوري الذي باتت موسكو لاعباً رئيسياً ومنافساً للنظام به أحياناً.
كما أنها قد تكون رسالة روسية إلى إيران وحزب الله لتخفيف نفوذهما وسياستهما وممارستهما في سوريا والتي ليست مستفزة للغرب وإسرائيل فقط؛ بل للروس والشعب السوري أيضاً (مثل ظهور تقارير عن ممارسة الإيرانيين عمليات تهدف إلى تشييع قطاعات من الشعب السوري).
ولكن يظل احتمال رفض الإيرانيين والأسد تقديم تنازلات حقيقية للمعارضة والغرب قائماً بشكل كبير، إضافة إلى أنه لا يمكن تخيُّل أن إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي لا تسمح لمعارضيها بالعمل داخل موسكو، يمكن أن تكون ضامنة لدور حقيقي لعمل المعارضة السورية في دمشق.
فموسكو منذ أن استخدمت قوتها القاهرة، لوأد الثورة السورية عبر تدمير حلب والمدن السورية الأخرى، لجأت بعد ذلك إلى سياسة التحرك خطوة خطوة، عبر خليط من التفاوض وفرض الأمر الواقع لتحقيق مكاسب على حساب حلفائها في سوريا كإيران والنظام وكذلك منافسيها كما حدث مع تركيا، وكان اللافت أنه لولا تدخُّل تركيا العسكري بإدلب في بداية عام 2020، لكان الأسد بدعم روسي، قضى على معقل المعارضة السورية هناك والذي أقيم أصلاً بضمانات روسية.
فتركيبة النظام السوري وداعميه أكبر عائق أمام إقامة تسوية سياسية حقيقية في سوريا، فالنظام على سبيل المثال أثبت أنه على استعداد للتعاون مع الأكراد الذين يريدون اقتطاع ثلث البلاد، في مواجهة المعارضة السورية التي تؤكد على وحدة الدولة السورية، فالمهم بالنسبة للنظام الانفراد بحكم سوريا مهما ساء حالها.