تسلُّم حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا برئاسة عبدالحميد الدبيبة مهامها رسمياً عقب تأدية اليمين الدستورية أمام البرلمان، يُمثل الخطوة الثالثة على طريق إرساء استقرار لم تعرفه البلاد منذ الإطاحة بنظام القذافي، لكن التحديات تظل قائمة.
حكومة الوحدة الوطنية أدّت القَسَم في مدينة طبرق، وقال رئيس الوزراء عبدالحميد الدبيبة وهو يؤدي اليمين أمام نواب البرلمان "أقسم بالله العظيم أن أودي مهام عملي بكل أمانة وإخلاص"، وتحل الحكومة محل حكومة الوفاق الوطني التي كان معترفاً بها من الأمم المتحدة في طرابلس وشمال غربي ليبيا، وأيضاً محل الإدارة المنافسة لها، والتي كانت تعمل من شرق البلاد.
ومن المرتقب أن يتسلم الدبيبة اليوم الثلاثاء 16 مارس/آذار مقر مجلس الوزراء من السراج، ليباشر رفقة وزرائه مهامهم من العاصمة طرابلس، عبر كامل أرجاء البلاد، لأول مرة منذ 2014، والحكومة المؤقتة (غير المعترف بها دولياً) الموالية للجنرال خليفة حفتر، والتي تسيطر على المنطقة الشرقية، ملزمة كذلك بتسليم المقرات والمؤسسات الخاضعة لها لحكومة الوحدة.
ترحيب عربي ودولي بالخطوة الثالثة
وانهال الترحيب من جهات عربية ودولية بتلك الخطوة، التي يأمل الليبيون أن تكون بداية النهاية للصراع الذي يمزق بلادهم منذ سنوات طويلة، فقد رحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالخطوة الليبية، واصفاً إياها بأنها خطوة هامة تجاه استعادة الوحدة والاستقرار والأمن والرخاء في ليبيا، وذلك بحسب الناطق باسمه ستيفان دوجاريك.
كما عبرت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا عن سعادتها بالقرار، وقالت إن ليبيا أمامها فرصة حقيقية للمضي قدماً لاستعادة سيادتها. كذلك أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً اعتبرت فيه هذا التطور خطوة أساسية تجاه إتمام خارطة الطريق للحوار السياسي الليبي، مطالبة كل الأطراف باحترام قرار الأمم المتحدة المتعلق بحظر الأسلحة وإنهاء التدخلات الخارجية.
ومن جهتها، هنأت منظمة التعاون الإسلامي الحكومة الجديدة والشعب الليبي بالقرار، معبرة عن الأمل في أن تمهد هذه الخطوة المهمة الطريق لخطوات أخرى نحو المصالحة، وإرساء دعائم السلام والأمن والاستقرار والتنمية في ربوع ليبيا. كما رحبت الخارجية السعودية بقرار مجلس النواب الليبي، واصفةً إياه بالخطوة التاريخية المهمة التي من شأنها تحقيق الأمن والاستقرار.
وثمّنت مصر دور المجلس في تحمل مسؤولياته وإعلاء المصلحة العليا لدولة ليبيا، للتحرك قدماً نحو استعادة ليبيا لاستقرارها وأمنها وسيادتها، وبما يرفع المعاناة عن الشعب الليبي الشقيق، وأشادت الخارجية الأردنية في بيان بأهمية هذه الخطوة في حل الأزمة الليبية، مؤكدة على موقف المملكة الداعم للجهود التي تسعى إلى حل سياسي يحمي مقدرات ليبيا وشعبها. كما عبرت تونس عن بالغ ارتياحها لما وصفته بالإنجاز التاريخي المُحرَز اليوم في ليبيا.
وتعتبر الحكومة، التي تشكّلت عبر عملية حوار نظمتها الأمم المتحدة، وصدّق عليها البرلمان الأسبوع الماضي في مدينة سرت، أفضل أمل منذ سنوات لوضع حد لعقد من الفوضى في ليبيا منذ أطاحت انتفاضة دعمها حلف شمال الأطلسي بمعمر القذافي من الحكم.
وكان من بين الحضور وقت أداء الحكومة لليمين دبلوماسيون من دول غربية ومن تركيا، التي دعمت حكومة الوفاق الوطني، ومن مصر التي دعمت خليفة حفتر، خصم حكومة الوفاق في الحرب، قائد قوات شرق ليبيا، بينما لم ترسل روسيا ولا الإمارات دبلوماسيين لحضور أداء اليمين، لكنهما رحبتا علناً بتعيين الحكومة الجديدة، وساندت الدولتان خليفة حفتر.
وكانت الخطوة الأولى على طريق التسوية السلمية في ليبيا تمثلت في انتخاب ملتقى الحوار السياسي، لمجلس رئاسي جديد برئاسة محمد المنفي ورئيس حكومة الوحدة (الدبيبة)، في 5 فبراير/شباط الماضي، والخطوة الثانية تمثلت في اجتماع 133 نائباً في البرلمان بشقيه (طرابلس وطبرق)، بمدينة سرت (وسط) لأول مرة منذ 2016، ومنحوا الثقة لحكومة الوحدة برئاسة عبدالحميد الدبيبة، بأغلبية 132 نائباً.
مؤشرات إيجابية نحو استقرار ليبيا
واعتبر مراقبون أن تمكُنِ مجلس النواب من الاجتماع مجدداً في طبرق لاحتضان مراسم أداء القسم الدستوري لحكومة الدبيبة أعطى إشارة طيبة بأن البرلمان طوى صفحة الانقسام، وهو ما من شأنه إنجاح مهام البرلمان المتعلقة بإعداد قانون الانتخابات، والمصادقة على مسودة الدستور قبل عرضها على الاستفتاء، ما سيسهل من عمل الحكومة.
إذ إن انتخاب مجلس رئاسي جديد بقيادة المنفي وأداء أعضاء حكومة الوحدة لليمين وحصولها على اعتراف جميع أطراف الصراع، تعتبر خطوات تاريخية نحو تثبيت السلام والاستقرار في البلاد، والخروج من مرحلة وقف إطلاق النار.
لكن يظل الحديث عن انتقال ليبيا نحو مرحلة استقرار مستدامة صعباً في ظل انقسام المؤسسة العسكرية، وانتشار الميليشيات المنفلتة والمرتزقة الأجانب بالبلاد، وعدم نزع الألغام، واستمرار ملف الأسرى وغلق الطرقات بين الأقاليم، ووقوع أعمال نهب وقتل خارج القانون.
فتردي الوضع الأمني في مدينة بنغازي (شرق)، الخاضعة لميليشيات حفتر، دفع مجلس النواب لنقل جلسة أداء أعضاء الحكومة للقسم من مقره الدستوري في المدينة إلى طبرق، وتجلى ذلك في بيان لأعيان برقة (شرق)، دعا إلى فتح تحقيق في كل أعمال الاغتيالات والانتهاكات والخطف ببنغازي، على رأسها اختطاف النائبة سهام سرقيوة، والكشف عن السجون السرية في برقة، وإخراج جميع التشكيلات العسكرية من المدينة، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
ورغم الدعم الرسمي من طرفي الصراع الرئيسيين لحكومة الوحدة ولإجراء انتخابات، فإنه لا تزال هناك عقبات كبرى، أبرزها أن بعض المناطق وبعض مؤسسات الدولة لا تزال واقعة تحت هيمنة الكثير من الفصائل المسلحة، بحسب رويترز.
غير أن الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد تتحسن شيئاً فشيئاً، مقارنة بما كانت عليه قبل يونيو/حزيران 2020، عندما أجبرت حالة التوازن العسكري طرفي الصراع على وقف الاشتباك. وتم تعزيز وضعية "لا حرب ولا سلم"، باتفاق تاريخي لوقف إطلاق النار، في 23 أكتوبر/تشرين الثاني 2020، بقي صامداً إلى الآن رغم بعض الخروقات لميليشيات حفتر.
توحيد المؤسسة العسكرية
لكن المؤشر الإيجابي الأهم هو أنه أصبح للمؤسسة العسكرية الليبية، المنقسمة إلى شقين، قائد واحد، مُمثلاً في المجلس الرئاسي بأعضائه الثلاثة، ووزير دفاع ممثلاً في رئيس حكومة الوحدة ولو بشكل مؤقت.
ورغم أن توحيد المؤسسة العسكرية مازال رمزياً، فإن اعتراف حفتر بشرعية المجلس الرئاسي الجديد، وبأنه القائد الأعلى للجيش وقبوله الخضوع لسلطة مدنية، يشكل خطوة مهمة نحو إنهاء الانقسام.
إذ إن رفض حفتر في 2016، خضوع ميليشياته لسلطة مدنية، تسبب في استمرار الانقسام، وتعطيل عملية منح البرلمان الثقة لحكومة الوفاق، بل وشن هجوماً على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، لمحاولة إسقاط المجلس الرئاسي بقيادة فائز السراج بالقوة، لكنه فشل في نهاية الأمر.
وتفادى الدبيبة الوقوع في فخ تعيين وزير دفاع محسوب على أي من طرفي النزاع، لتجنب تنصل الطرف المتضرر من دعم حكومة الوحدة، لذلك احتفظ بحقيبة الدفاع لنفسه، لأخذ مزيد من الوقت والتشاور مع أعضاء المجلس الرئاسي بشأن الشخصية المناسبة لهذا المنصب. وتلعب لجنة 5+5 العسكرية المشتركة، الدور الأبرز في عملية توحيد الجيش، ونزع الألغام وفتح الطرق وتبادل الأسرى وإخراج المرتزقة، ووعد رئيس حكومة الوحدة بدعم جهودها.
المصالحة في ليبيا تحتاج للوقت
اعترف المنفي، في كلمته خلال مراسم أداء الحكومة للقسم، أنهم لا يستطيعون "الوصول إلى مصالحة نهائية نهاية العام"، إلا أنه أوضح أن هدفهم "تكوين نواة لهذه المصالحة" والتأسيس لها، للوصول إلى انتخابات في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، لتسليم السلطة لمن يختاره الشعب في المرحلة المقبلة.
لذلك، فإن الحديث عن استقرار نهائي مازال سابقاً لأوانه، ما لم تستكمل المصالحة بين أطياف الشعب وعلى رأسها المنطقتان الغربية والشرقية، خاصة أن المناخ السياسي الداخلي والدولي أصبح مستعداً لتقبلها.
فعقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق، الذي يُعد أحد أقطاب الأزمة المتحالفين مع حفتر، قال أخيراً إنه "آن الأوان لنتسامح ونتصافح ونتصالح ونتجاوز الماضي"، ودعا إلى "المصالحة وبناء الوطن وإتاحة الفرصة للجميع دون إقصاء أو تهميش، والتركيز على تحقيق الأمن والعدالة لتحقيق الاستقرار".
وهذه الأجواء، التي يسودها خطاب المصالحة، توفر الأرضية لحكومة الوحدة للعمل في أقاليم البلاد الثلاثة دون قيود، وتوحيد مؤسسات البلاد السيادية، وعلى رأسها البرلمان والبنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط.
ويمهد ذلك لتوحيد الجيش وتفكيك الميليشيات واستيعاب أفرادها ضمن المؤسستين الأمنية والعسكرية، وإخراج مرتزقة فاغنر والجنجويد، وفتح الطرق بين الأقاليم، وإطلاق سراح الأسرى والمختطفين، كما يفسح المجال للمؤسسة الأمنية بالتركيز على محاربة الجريمة تحت رقابة المؤسسة القضائية، ما يفتح المجال لسيادة القانون، وتحقيق الأمن والعدالة والاستقرار.
لكن كل ذلك يتطلب وقتاً، لتقبل الاحتكام لصناديق الاقتراع بدل حسم الخلافات برصاص البنادق، من خلال انتخاب رئيس للبلاد وبرلمان، والخروج من نفق المراحل الانتقالية.