يواجه رجال الدين من مختلف الأديان والعقائد عبئاً ثقيلاً يتمثل في إقناع أتباعهم المترددين في تلقي لقاحات كورونا، فكيف يمكن أن يواجهوا أسئلة المشككين انطلاقاً من المعتقدات والشائعات التي قد يقف وراءها رجال دين آخرون؟
ومنذ الإعلان عن التوصل للقاحات كورونا أواخر العام الماضي، وهو إنجاز علمي غير مسبوق بكل المقاييس نظراً للتوصل إلى اللقاحات في أقل من عام، ثار الجدل حول تلقي اللقاحات وبدأ البعض يشكك في تلك اللقاحات لأسباب متنوعة، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو مرتبط بمعتقدات دينية، ومنها ما هو مرتبط بنظريات المؤامرة بشكل عام.
فتاوى تلقي لقاحات كورونا
وعلى سبيل المثال، ترددت في الدول العربية والإسلامية نظرية حرمة تلقي لقاحات كورونا لأنها تعتمد في جزء من تركيبتها على مادة مستخلصة من الخنزير، وهو حيوان يحرم الدين الإسلامي تناول لحمه أو أي من أجزائه، وانتشرت تلك الفرضية بشكل لافت على منصات التواصل الاجتماعي.
وفي يوم 26 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تعاملت دار الإفتاء المصرية مع تلك الفرضية بقولها في فتوى لها إنه "لا مانع شرعاً من استخدام لقاحات فيروس كورونا، ما دامت هذه المادة المستخدمة فيه قد تحولت طبيعتُها ومكوناتُها الخنزيرية إلى مادة أخرى واستحالت إليها بحيث أصبحت مادة أخرى جديدة".
وأوضحت الفتوى أن تحول هذه المادة المستخدمة في اللقاح إلى مادة أخرى أثناء عملية التصنيع حينها لا تسمى خنزيراً، ولا يَصْدُق عليها أنَّها بهيئتها ومكوناتها التي تحوَّلت إليها جزء من الخنزير، ولا مانع حينئذٍ من استخدامها في اللقاح للتداوي من فيروس كورونا وغيره من الأوبئة والأمراض.
وفي إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، أباح مجلس العلماء الإندونيسي يوم 8 يناير/كانون الثاني تلقي لقاح سينوفاك الصيني المضاد لكورونا قبل أيام من بدء برنامج التطعيم الوطني الذي انطلق منتصف نفس الشهر، وقال أسورون نيام شوله، من لجنة الفتوى بالمجلس، في مؤتمر، إن لقاح كورونافاك الذي تنتجه شركة سينوفاك الصينية "حلال شرعاً".
وكان الإندونيسيون ينتظرون فتوى بإباحة اللقاح لبدء برنامج التطعيم الجماعي باللقاح الصيني في البلاد، بعد انتشار فرضية وجود شبهات بشأن احتوائه على مشتقات الخنازير المحرّمة في الشريعة الإسلامية.
وفي الإمارات أيضاً، أجاز مجلس الإفتاء الشرعي، عبر فتوى شرعية، استعمال اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، إعمالاً لمقاصد الشريعة المتعلقة بحفظ النفس البشرية والقواعد الفقهية المفصلة في ذلك، وذلك في سياق ما ورد للمجلس من اهتمام كثير من المسلمين بحكم استعمال اللقاح وإجابة عن استفتاء توجَّه به لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي وزير الشؤون الإسلامية بماليزيا حول نفس الموضوع، بحسب إعلام إماراتي.
تشكيك أمريكيين في اللقاح
التشكيك في لقاحات كورونا انطلاقاً من معتقدات دينية ليس حكراً على المسلمين ولا على أتباع دين بعينه، ونشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تقريراً تناول العبء الذي يلقيه هذا التشكيك على عاتق كثير من رجال الدين.
ورصد تقرير الصحيفة قصة القس سالجويرو كواحد من بين آلاف رجال الدين من مختلف الأديان والعقائد الذين يحاولون إقناع الأشخاص المترددين في الحصول على لقاح كورونا. إذ من خلال استحداث خيط ينسج النصوص الدينية بالعلوم، يستخدم هؤلاء الثقة الكبيرة التي يضعها فيهم تابعوهم من المصلين، لكي يبددوا الخرافات والتضليل المتعلق بجرعات اللقاح، حتى إن بعضهم يجعل من مكان العبادة موقعاً لتلقي اللقاح، كي يسهل التجربة ويطمئن متلقي اللقاح.
فخلال قداسٍ من قداسات الأحد التي عُقدت مؤخراً في كنيسة جاثرينغ بلايس الإنجيلية في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا، سلط القس غابرييل سالجويرو الضوء في خطبته على لقاحات كوفيد-19، والخوف والشكوك اللذين يسيطران بشدة على المصلين في كنيسته، وأغلبهم من اللاتينيين.
وقد صارت مهمة سالجويرو والفريق الذي يمثله من رجال الدين الآن شديدة الأهمية، فمع توقع زيادة مستويات الحصول على اللقاح خلال الأشهر القادمة، وتعهد البيت الأبيض بتوفير ما يكفي من اللقاحات لكل أمريكي بالغ بحلول مايو/أيار، يحوّل مسؤولو الصحة تركيزهم نحو أعداد لا تزال كبيرة من الأشخاص الذين تساورهم الشكوك بشأن اللقاحات. سوف يكون ضمان تلقي هؤلاء للقاح ضرورياً إذا أرادت البلاد تحقيق مناعة القطيع من الفيروس والعودة إلى ما يشبه الوضع الطبيعي.
وتكمن بعض الأسباب الأقوى التي يستشهد بها الناس لمقاومة اللقاحات، في جذور المعتقدات الدينية، وبالتأكيد يتجسد أحد العوائق التي يواجهها رجال الأديان في أقرانهم الذين يعارضون كلياً تلقي اللقاح. وأعلن اتحاد المطارنة الكاثوليك في الولايات المتحدة مؤخراً أن الكاثوليكيين يجب عليهم تجنب لقاح جونسون آند جونسون إذا كان عليهم الاختيار بين اللقاحات، ووصفوا الأمر بأنه "خطر أخلاقياً" لأنه طُوِّر من خطوط خلايا مستخرجة من جنين أُجهض في عام 1985. انتشرت شائعة أخرى بين الجاليات الإسلامية واليهودية، ورددها بعض الأئمة والحاخامات، تقول إن اللقاحات تحتوي على منتجات ثانوية مستخلصة من الخنازير.
موقف رجال الدين في التصدي للشائعات
لكن رجال الدين الذين يؤمنون بأهمية اللقاحات يتخذون موقفاً فريداً للتصدي لمثل هذه الادعاءات. حتى إن البابا فرنسيس نفسه أعلن أن تلقي لقاحات فيروس كورونا "مقبولٌ أخلاقياً"، بسبب قوة الجائحة وشبه انعدام العلاقة مع الجنين المُجهض. ومع اقتراب شهر رمضان، يعقد الأئمة جلسات بث مباشر عبر فيسبوك مع الأطباء المسلمين، وينظمون تفاعلات حول تساؤلات على شاكلة "هل لقاح كوفيد-19 حلال؟".
لدى رجال الدين شريك جديد في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. إذ إن مكتب البيت الأبيض للشراكات القائمة على العقيدة والجوار، المؤسَّس منذ عهد قريب، يُجري مكالمة أسبوعية مع آلاف من كبار رجال الدين حول البلاد، يتناول فيها استراتيجيات للعمل مع العيادات من أجل إعطاء اللقاحات. في مكالمة أُجريت في 4 مارس/آذار، قال جاريد موسكويتز، مدير إدارة الطوارئ بولاية فلوريدا، الذي ربط بين كنائس الجاليات الكوبية والهايتية والفيتنامية، إن كبار رجال الدين كانوا مهمين في إيصال اللقاحات إلى مجتمعاتهم.
مسلمو أمريكا وتلقي اللقاح
كانت أكثر عبارة يسمعها القس سالجويرو من أبناء رعيته عندما يتحدث عن لقاحات كوفيد-19، هي: "Qué lo prueben"، أي "اجعلهم يثبتوا الأمر". ومن جانب القس سالجويرو، الذي ينحدر من بورتوريكو ويدرك تماماً تاريخ الإساءات الطبية التي عانت منها الشعوب اللاتينية، بما في ذلك عقود من الإعقام القسري لنساء بورتوريكو، فإنه ينصح رعيته بأن يسألوا جميع الأسئلة التي يريدون الإجابة عليها بشأن اللقاح.
صحيح أن الأسئلة التي يتلقاها القس سالجويرو غريبة -مع أنه رجل في جعبته الكثير من الحقائق العلمية؛ نظراً إلى أنه أدار اجتماعات المجالس البلدية مع خبراء من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها- لكنه يحاول تهدئة روع الرعية عن طريق اقتباس سطور الكتاب المقدس.
كذلك ينتشر التردد لتناول اللقاحات بين المسلمين الأمريكيين، الذين يصل عددهم لحوالي 3.5 مليون مسلم. وينتمي ربع هؤلاء إلى الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، الذين لديهم أسبابهم التاريخية الخاصة لعدم الوثوق في اللقاح.
قالت هاجر أبوبكر، التي تدير مدرسة إسلامية في مقاطعة هاوارد بولاية ماريلاند، لنيويرك تايمز إنها لا ترى أي سبب يدعو لتناول لقاح كوفيد، ولكن عندما علمت أن المعلمين في مدرستها حصلوا على اللقاح، ففكرت وقالت: "لديّ مسؤولية أن أكون نموذجاً يُحتذى به. فهل أنا أنانية بعدم حصولي على اللقاح؟".
صلت هاجر صلاة استخارة، وسألت الله أن يرشدها إلى قرار صائب. استمعت كذلك إلى خطاب الأطباء المسلمين، وطلبت المشورة من شيخها. فأخبرها شيخها: "أئمة المسلمين ينصحوك بتلقي اللقاح. نظراً إلى أننا مسلمون، فمن مسؤوليتنا أن نؤدي ما علينا كي تتعافى البشرية من هذه الجائحة". وتلقت هاجر مؤخراً أول جرعة من اللقاح.
وظهر الأئمة حول العالم في محادثات البث المباشر مع الأطباء من الجمعية الطبية الإسلامية في أمريكا الشمالية. وفي هذه المحادثات، أوضحت طبيبة الأمراض المعدية، الدكتورة أوزما سيد، الأمور المتعلقة بعلوم اللقاح، لكنها تحولت لاحقاً نحو التفسير الديني.
إذ قالت أن تناول الدواء كان دائماً في سماء الإسلام، واستشهدت بحديثٍ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سُئِل فيه عن التداوي، فقال: "نعم يا عباد الله تداووا فإن الله -عز وجل- لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً غير داء واحد". وتابعت: "قالوا: ما هو؟ قال: الهرم".
البحث عن اليقين بشأن اللقاح
مجرد التفكير في لقاح كوفيد جعل كارولين لوف متصلبة. إذ إن الدكتورة كارولين، وهي من صاحبات البشرة السمراء ومستشارة في التنوع داخل الشركات وبرامج الدمج، تدرك جيداً أن غير البيض عوملوا باستخفاف من جانب نظام الرعاية الصحية، حتى إنها تبعد نفسها عن هذا النظام.
ولكن من أجل استكشاف المزيد، حضرت كارولين جلسات تثقيفية حول اللقاح يقودها أطباء من أصحاب البشرة السمراء. وعندما عرفت أن كنيسة شورتر كوميونيتي إي.إم. إي في دنفر، التي ترتادها منذ 40 عاماً، تقدم اللقاح، اختلف الأمر بالنسبة إليها.
في كنيسة شورتر، تحدث القس الدكتور تيموثي تايلر عن اللقاح في قداس عُقد عبر الإنترنت، وشارك في ندوات، ونشر على فيسبوك معلومات حول الجرعات. والآن، عندما بعث نظام الرعاية الصحية المرتبط بجامعة كولورادو UCHealth، بخطابه مشيراً إلى أنه سوف يعطي 500 جرعة من اللقاح في كنيسة شورتر خلال أحد قداسات الأحد، اتصل أعضاء الكنيسة بمرتاديها ولاطفوا كبار السن لإقناعهم بتناول اللقاح، وعرضوا نقلهم من وإلى الكنيسة.
وفي واحد من قداسات الأحد، بعد عام صعب من الابتعاد عن الكنيسة، عادت الدكتورة كارولين إلى كنيسة شورتر للحصول على اللقاح. وألقت التحية على زملائها في مقاعد الكنيسة، الذين لم تراهم منذ وقت طويل. وركعت أمام المذبح، وبكت. وقالت: "صليت من أجل هؤلاء الذين لم يحظوا بالفرصة التي مُنحت إياها، ومن أجل تعافي أمتنا".
ثم توجهت إلى قاعة زمالة عمر دي. بلير الملحقة بالكنيسة، وهي قاعة سُميت على اسم طيار من طياري توسكيجي صار مدافعاً عن الحقوق المدنية. وكان هذا هو المكان الذي قادت فيه أنشطة الكشافة للفتيات، والمكان الذي احتفت فيه الكنيسة بزوجها بعد وفاته. والآن، صارت القاعة معلماً لحدث آخر.
جلست كارولين أمام منضدة لتلقي اللقاح، ويملؤها الأمل من أن ذلك قد يساعد لإخراجها من الجائحة، واستعادة حياتها المجتمعية التي تعلقت بها. عندما شمرت كمّ القميص، نظرت حولها. ولما فكرت قالت إن هذا المكان كان أفضل بكثير من عيادات الأطباء.