قبل عشر سنوات تظاهر السوريون مطالبين بمحاربة الفساد والقمع، وبدلاً من أن يستمع إليهم نظام الرئيس بشار الأسد شن حرباً شعواء على شعبه، واليوم لا يزال بشار رئيساً على سوريا بعد أن ساعدته روسيا وإيران في السيطرة على أغلب البلاد، لكن أي دولة يجلس الأسد على كرسي رئاستها؟
ففي نهاية عام 2011، كان نظام الأسد قاب قوسين من السقوط وسط ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة عدّة حكمت بلادها لعقود بقبضة حديدية، لكن اليوم وبعد عقد كامل لا يزال الأسد في مكانه بعد انتصار باهظ الثمن لم يوفّر فرصة حقيقية لأي مصالحة مع الشعب، ويمارس الأسد اليوم سيادة شكلية على أرض أصبحت فريسة لقوى أجنبية متناحرة، على شكل دويلات وليست دولة واحدة.
على ماذا يسيطر الأسد تحديداً؟
يسيطر نظام بشار الأسد حالياً على أقلّ من ثلثي مساحة البلاد، لكن نظرة فاحصة أكثر على الأوضاع تكشف مدى هشاشة تلك السيطرة من الأساس خصوصاً ما يتعلق بخريطة السيادة على حدود البلاد، وهو ما أوضحه الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش في تقرير نشره مؤخراً استنتج فيه أنّ قوات نظام الأسد "تسيطر على 15% فقط من حدود سوريا"، مضيفاً: "الحدود هي رمز السيادة بامتياز، وبطاقة أداء النظام لا تزال فارغة تقريباً على تلك الجبهة".
وبحكم الأمر الواقع تسيطر القوات التركية والأمريكية والكردية أو المجموعات المدعومة من طهران على ما تبقى من الحدود، ويعتبر بالانش أن القوى الخارجية "تقسّم البلاد بشكل غير رسمي إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر بشكل أحادي على معظم حدودها".
وفي بودكاست بثّته مجموعة الأزمات الدولية الشهر الماضي بعنوان "الصراع المجمّد" في سوريا، قالت الباحثة دارين خليفة: "أفضل الخيارات السيئة المتاحة لدينا اليوم هو تمادي الجمود" القائم، معتبرة أنّ تجاوزه في محاولة لتسوية النزاع يمرّ عبر تحسين جذري للظروف المعيشية التي يواجهها الشعب السوري.
والمشهد نفسه توقفت عنده مجلة The Economist في تقرير لها رصد مجموعةٌ من الاتفاقيات تضمُّ أمريكا وإيران وروسيا وتركيا ونتج عنها خفوت حدة من القتال، إذ يسافر السوريون عبر البلاد من أجل الدراسة والتسوُّق وزيارة الأقارب، لكن البلاد مُقسَّمة إلى جيوب ولكلٍّ منها حاميةٌ أجنبية.
وأصبحت الإدارات المحلية راسخةً في كلِّ مكان، ولديها ميليشياتها الخاصة، وتدير اقتصاداتها الخاصة، وغالباً ما تفضِّل عرقاً أو طائفةً واحدة. يقول مسؤولٌ في الأمم المتحدة: "إننا نشهد تقسيماً لسوريا مثل البلقان"، بحسب تقرير المجلة.
انهيار اقتصاد سوريا
نقل تقرير لوكالة فرانس برس الفرنسية عن مواطن سوري مقيم في دمشق عبر الهاتف قوله: "انتهت الحرب بمعنى توقف القتال والمعارك، لكن جراحنا ما زالت تنزف"، مضيفاً: "الاقتصاد هو الأزمة التي يعاني منها الجميع، لذا قد تكون الحرب انتهت عملياً، لكن المعاناة لم تنتهِ".
إذ يعاني نحو 60% من سكان سوريا حالياً، وفق الأمم المتحدة، من انعدام الأمن الغذائي، وخسرت الليرة السورية 98% من قيمتها خلال عقد من الزمن. وقدّر تقرير لمنظمة الرؤية العالمية هذا الشهر كلفة الحرب السورية بـ1,2 تريليون دولار.
وأفاد مصدر موثوق لموقع "عربي بوست" بأن هناك بالفعل احتجاجات بسبب الوضع الاقتصادي الخانق في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، ورغم أنها لا تزال احتجاجات صغيرة الحجم ونادرة الحدوث، "لكنها قد تتزايد نتيجة الانهيار المتواصل للعملة السورية وتدهور الأوضاع الاقتصادية دون مؤشرات إيجابية في الأفق، ويرجح أن تتزايد وتيرة الاحتجاجات لمستويات مؤثرة على النظام".
وفي هذا السياق، تشير توقعـات "فيتـش سوليوشـنز التابعة لمؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني" إلى أن الاقتصاد السوري سيمر بعام آخر مليء بالتحديات، ومن المتوقع أن يشهد نسبة نمو حقيقي لا تتجاوز 2% في 2021. ويبدو أن هناك احتمالاً ضئيلاً بأن يرفع الرئيس الأمريكي جو بايدن العقوبات عن سوريا في أي وقت قريب، وكذلك من المرجح أن تستمر الأزمة المصرفية في لبنان، ما سيدفع إلى استمرار نقص الدولار في سوريا خلال الفترة المقبلة، وهو ما يعني استمرار الوضع المتأزم لليرة السورية وتأجيج الأزمة المشتعلة بالفعل.
تكلفة تمسك الأسد بالكرسي
وعلى الرغم من تلك السيطرة الشكلية والبلاد الممزقة والخاضعة لسيطرة قوى خارجية، يستعد الأسد البالغ من العمر 55 عاماً والجالس على كرسي الرئاسة منذ 2000 خلفاً لوالده حافظ الأسد لخوض انتخابات لولاية رئاسية رابعة الصيف المقبل يتوقع القاصي والداني أن يفوز بها.
ولا يمتلك الأسد إجابات أو حلول يقدمها لمن تبقى من شعبه في المناطق التي يسيطر عليها وينعكس ذلك في خطبه المتكررة التي يتجاهل فيها مشاكل سوريا الكبيرة الكبيرة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، إذ تعمل القوات الروسية ما تريده دون رادعٍ بينما تسيطر الميليشيات الإيرانية على الحدود بين مناطق سيطرة النظام والعراق ولبنان، وتُسقِط إسرائيل قذائفها على البلاد، وتدافع القبائل الدرزية في الجنوب والقبائل العربية في الشرق وحتى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد على الساحل عن نفسها بشكلٍ متزايد.
تكلفة تمسك الأسد بكرسي الرئاسة تتجاوز أكثر من نصف مليون قتيل وأضعاف هذا العدد من اللاجئين والنازحين، ورغم أن الأوضاع الأمنية صارت أهدأ عن ذي قبل إلا أن المعركة لم تنتهِ بعد، فالتحدي الأكبر الذي يواجهه النظام السوري حالياً هو توفير الحياة الكريمة للذين وقفوا بجواره ودعموه، وكذلك التخلص من التبعية التي فرضتها إيران وروسيا عليه بعد تمكنه من السيطرة على أغلب البلاد عدا منطقة إدلب شمال البلاد والتي ما زالت في يد الفصائل المسلحة.
وبحسب المصدر الموثوق الذي تحدث لـ"عربي بوست"، لا زال بشـار الأسـد يعلن أنه ملتزم بإعادة السيطرة على كل سـوريا، بدعم من روسيا وإيران، وفي ظل غياب الحافز لديه لتقديم أي تنازلات ذات مغزى لما تبقى مـن المعارضة المسلحة المنقسمة بشدة بيـن فصائل تدعمها تركيا وبعض المجموعات الجهادية، خاصة مع التقدم العسكري الكبير لصالح النظام، وعدم رغبة إيران وروسيا وتركيا والأردن والولايات المتحدة تفكيك هياكل الدولة في سوريا بالكامل.
وفي السياق ذاته، تواجه المعارضة السياسية تصدعات خطيرة للغايـة تجعلها غير فعالة ومنقسمة داخلياً فيما بينها، سواء تلك المجموعات السياسية الرئيسية المشكلة لـ"الائتلاف الوطني للثورة السورية" ومقره إسطنبول أو لجنة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي ومقرها دمشق.
ولا يوجد مؤشر حاليّ على مواجهة الأسد تحديات كبيرة لحكمه من داخل النخبة العلوية، ويبدو أن داعمي المعارضة السورية السابقين قـد تخلوا جميعاً عـن إصرارهم على الإطاحة بالأسد، في حين من المرجح أن تستمر الولايات المتحدة تحت رئاسة بايدن في تقديم تنازلات بشأن مستقبل الأسد، في ظل عدم وجود بديل قابل للتطبيق.
لكن على الجانب الآخر من الصعب تجاهل حقيقة أن غالبية الفريق القيادي الذي عينه بايدن (وزير الخارجية أنتوني بلينكن، نائبة الرئيس كامالا هاريس، وزير الدفاع لويد أوستن، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان) لهم مواقـف مناهضة وحادة تجاه الأسد، وهو ما يعني أن الاختبار الحقيقي للإدارة الجديدة سيظهر في الموازنة بين توجهات العودة للاتفاق النووي الإيراني من جهة والتعاطي بجدية لدفع عملية الانتقال السياسي في سوريا من جهة أخرى.
والخلاصة هنا هي أنه على الرغم من أن السنوات العشرة الماضية قد حولت سوريا إلى وطن ممزق ومحطم وخرجت منه أكبر موجة نزوح ولجوء على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية واقتصاده على شفا الانهيار التام، فإن القادم لا يبدو مبشراً في ظل إصرار الأسد على البقاء على كرسي الرئاسة مهما كانت التكلفة.