مع مطاردة منصات التواصل الاجتماعي الكبرى مثل فيسبوك وتويتر لأعضاء وأنصار جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت، عقب أحداث أقتحام الكونغرس، أصبحت هذه الجماعات تبحثو عن منصات بديلة.
والآن يخشى أن يتحول تطبيقا تليغرام وسيغنال تحديداً إلى ملاذ لأعضاء جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت، المطرودة من المنصات الأخرى، في ظل حرص تليغرام وسيغنال على رفض الرقابة الحكومية عليهما، باعتبار أن نشأة التطبيقين مرتبطة بالأساس بفكرة الحفاظ على حريات وخصوصيات المستخدمين.
ولكن هناك تجربة سابقة يمكن أن تفضي لتحقيق التوازن بين متطلبات محاربة العنف والإرهاب والعنصرية، وبين دواعي الحفاظ على الخصوصية، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
تاريخ مؤسسي تليغرام يكشف سر حساسية التطبيق من الرقابة الحكومية
تم إطلاق تطبيق Telegram في عام 2013 من قبل الأخوين الروسيين نيكولاي وبافل دوروف، بعد أن غادرا بلديهما إثر استيلاء حلفاء الرئيس فلاديمير بوتين على شبكة التواصل الاجتماعي "VKontakte" التي أسسها بافيل في روسيا، وهي بمثابة النسخة الروسية من فيسبوك، وذلك بسبب رفض بافيل دوروف تسليم بيانات مستخدمين إلى الكرملين أو حظر حسابات نشطاء المعارضة الروسية.
وسجل الأخوان تطبيق تليغرام كشركة إنجليزية أمريكية ذات مسؤولية محدودة، ولا تكشف الشركة عن مكان استئجار المكاتب أو حتى الكيانات القانونية التي تستخدمها لتأجير مقارها، مشيرة إلى الحاجة إلى "حماية الفريق من التأثير غير الضروري" وحماية المستخدمين من طلبات الحصول على البيانات من قبل الحكومات.
وبعد مغادرة بافل دوروف لروسيا، قيل إنه ينتقل من بلد إلى آخر مع مجموعة صغيرة من مبرمجي الكمبيوتر تتكون من 15 عضواً أساسياً، ويعتقد أن فريق تليغرام حالياًّ يوجد في دبي بالإمارات العربية المتحدة.
أما تطبيق "سيغنال" فلقد اكتسب شعبية في السنوات الأخيرة، أيضاً مع تزايد اهتمام المستخدمين بشكل متزايد بحماية معلوماتهم الخاصة.
وأحد أبرز مؤسسي تطبيق سيغنال هو بريان أكتون الذي أسس تطبيق واتساب قبل أن تشتريه شركة فيسبوك عام 2017.
ويشدد أكتون على أنه لا يعجبه ما يفعله مالك فيسبوك مارك زوكربيرغ مع واتساب، ويقدم تطبيق سيغنال على أنه يحافظ على خصوصية مستخدميه عكس واتساب!
وبالفعل اكتسب التطبيق دفعة خاصة مؤخراً في أعقاب إشعار مثير للجدل من تطبيق المراسلة "واتساب" المملوك من قبل "فيسبوك" حول تحديثه شروط الخدمة، فهم أنه يتضمن مشاركة بيانات مستخدمي واتساب مع الشركة الأم فيسبوك.
كما تلقت "سيجنال" أيضاً دعماً من قبل العديد من أكبر الأسماء في وادي السيليكون، من بينهم الرئيس التنفيذي لشركة "تسلا"، إيلون موسك.
هجرة جماعات اليمين المتطرف إلى تليغرام وسيغنال
منذ الاقتحام العنيف لمبنى الكابيتول وما أعقبه من حظر للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من على الشبكتين الاجتماعيتين فيسبوك وتويتر، وإزالة خدمة Parler من خوادم أمازون (كانت توصف بأنها منصة يمينية متطرفة)، وحذف المحتوى المُحرِض للتيار اليميني المتطرف في كثير من الخدمات، شهدت خدمات المراسلة تليغرام وسيغنال طوفاناً من المستخدمين الجدد.
ففي يناير/كانون الثاني وحده، أبلغ تطبيق تليغرام عن 90 مليون حساب جديد. ووصف مؤسسه، بافيل دوروف، هذا التدفق بأنه "أكبر هجرة رقمية في تاريخ البشرية".
وبحسب ما ورد ضاعف سيغنال بدوره قاعدة مستخدميه إلى 40 مليون شخص وأصبح التطبيق الأكثر تنزيلاً في 70 دولة.
تعتمد هاتان الخدمتان على التشفير لحماية خصوصية اتصالات المستخدم؛ مما جعلها تحظى بشعبية لدى المتظاهرين الذين يسعون لإخفاء هوياتهم عن الحكومات القمعية في أماكن مثل بيلاروسيا وهونغ كونغ وإيران.
لكن تقنية التشفير نفسها جعلتها أيضاً أداة اتصال مُفضَّلة للمجرمين والجماعات الإرهابية، بما في ذلك تنظيما القاعدة والدولة الإسلامية "داعش".
والآن يُعتقد أنهما يتحولان إلى ملاذ لجماعات اليمين المتطرف على الإنترنت.
ومع ذلك لا تُعزى الزيادة في عدد المستخدمين الجدد إلى قمع منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية للجماعات اليمينية فقط. إذ إنَّ سياسة الخصوصية الجديدة لتطبيق واتساب، التي ظن المستخدمون خطئاً أنها ستسمح للشركة الأم، فيسبوك، بمشاركة بياناتهم على نطاق أوسع، ساهمت بنفس القدر، على أقل تقدير، في انتقال المستخدمين إلى تليغرام وسيغنال.
وبغض النظر عن الأسباب، فإنَّ شعبية كلا التطبيقين تزداد؛ ما يثير أسئلة مُقلِقَة حول ما إذا كانت هذه المنصات ستُستغَل أكثر فأكثر من جماعات الكراهية والمنظمات المتطرفة والجهات الفاعلة الشائنة الأخرى التي لم تعد مُرحباً بها على المنصات الأخرى.
وعلى الرغم من أنَّ حرمان الجماعات المتطرفة من التواجد العام على الشبكات الاجتماعية سيكون بمثابة فوز لعملية محاربة التطرف بجوانبه المختلفة، لكن انتقالهم إلى التطبيقات المشفرة يثير مخاوف من أنَّ الاتصالات السرية يمكنها تسهيل ارتكاب المزيد من العنف، حسب Foreign Policy.
معقل لداعش
ولمعرفة سبب انزعاج الكثيرين من هجرة جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت إلى منصتي تليغرام وسيغنال، ليس علينا النظر بعيداً إلى الوراء، وفقاً للمجلة الأمريكية.
ففي عام 2015، شهدت تليغرام استخداماً متزايداً من أفراد "داعش"، بعدما كانوا يعتمدون على تويتر وفيسبوك لتجنيد أعضاء جدد وتنسيق الأنشطة وتعزيز أيديولوجية الجماعة. وبعدما حظرت المنصتان العامتان أخيراً محتوى "داعش" وبدأت في إزالته، لجأت المجموعة إلى تليغرام والخدمات المماثلة لتسهيل الاتصالات، بما في ذلك التجنيد والتخطيط لهجمات إرهابية.
وبينما يستطيع تطبيق تليغرام نظرياً الاطلاع على قنوات الخدمات العامة على منصته، إلا أنَّ الدردشات السرية تكون مشفرة بين أطرافها. وهذا يعني أنه لا أحد – ولا حتى المديرين التنفيذيين في تليغرام- يمكنهم الاطلاع على هذه الرسائل الخاصة.
ولجعل الاتصالات أكثر أمناً، يوفر تليغرام للمستخدمين خيار ضبط رسائلهم على التدمير الذاتي بعد قراءتها بحيث يختفي أي سجل للاتصال دون أثر وراءه.
وبينما تحظر شروط خدمة تليغرام الترويج للعنف، إلا أن هذه الشروط قابلة للتنفيذ فقط فيما يتعلق بالقنوات المتاحة للعامة.
وفي أعقاب هجوم شاحنة على سوق لعيد الميلاد في برلين عام 2016، لم تستخدم "داعش" تليغرام لإعلان مسؤوليتها عن الهجوم فحسب، بل نشرت أيضاً مقطع فيديو تعهَّد فيه الجاني بقتل الغربيين.
وبالمثل، تلقى مسلح "داعش" الذي نفذ هجوم 2017 على ملهى رينا الليلي في اسطنبول تعليمات من عضو سوري في الجماعة الإرهابية عبر تليغرام.
ورغم ذلك رفض مؤسس تليغرام تسليم البيانات السرية للحكومات.
وضغطت الحكومات في جميع أنحاء العالم على تليغرام لحظر المحتوى المرتبط بـ"داعش" والتعاون مع السلطات في التحريات بشأن الإرهابيين المُشتَبَه بهم الذين يستخدمون المنصة. في واشنطن، أعلن أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي أنه "لا ينبغي لأية شركة خاصة السماح باستخدام خدماتها للترويج للإرهاب والتخطيط للهجمات التي تريق دماء الأبرياء".
وحصلت السلطات الفرنسية على أمر محكمة لمحاولة إجبار تليغرام على تقديم معلومات حول نشاط إرهابي على المنصة. فيما هددت الحكومة الروسية بحظر تطبيق تليغرام بعد هجوم لتنظيم "داعش" في سانت بطرسبرغ في عام 2017.
أرفض أن أكرر تجربتي الأليمة مع بوتين
واستمر مؤسس تليغرام، بافيل دوروف، في رفض مشاركة أي من بيانات المستخدمين السرية. وربما نبع إحجامه عن التعاون مع سلطات إنفاذ القانون، حتى في التحقيقات المتعلقة بالإرهاب، من تجربته مع السلطات في روسيا، التي سبق الإشارة إليها.
وكتب دوروف أنَّ "تليغرام لم يذعن قط لضغوط المسؤولين الذين أرادوا منا ممارسة الرقابة السياسية"، وأنهم يلتزمون الحذر في إنفاذ القانون.
وشكَّل هذا مأزقاً لأولئك الذين يسعون لمواجهة وصول "داعش" للجمهور عبر تليغرام: كيف يمكنهم إقناع الشركة، على الأقل، بإزالة المحتوى العام للجماعة الإرهابية في حين أنَّ تليغرام يعارض تماماً تدخل الحكومة والرقابة؟
الوكالة الأوروبية لتطبيق القانون تتوصل لحل
جاء الحل من مصدر غير متوقع؛ وهو: وحدة الإحالة لمكافحة الإرهاب عبر الإنترنت التابعة لليوروبول (وكالة تطبيق القانون الأوروبية).
ففي أعقاب هجمات باريس عام 2015، بدأ اليوروبول في الإبلاغ عن محتوى متطرف تابع لتنظيم "داعش" على تليغرام عندما نُشِره على القنوات العامة للتطبيق.
ولم تسعَ اليوروبول إلى إصدار أمر قضائي للكشف عن بيانات المستخدمين أو المطالبة بإزالة المحتوى، بل كل ما فعله ببساطة هو لفت انتباه شركة تليغرام إلى استغلال تنظيم "داعش" للمنصة للتحريض على العنف.
وفقاً لمسؤولي وكالة اليوروبول، فتح هذا قناة اتصال بين مسؤولي إنفاذ القانون والمديرين التنفيذيين للشركة؛ ما ساعد على بناء الثقة. وبدأت تليغرام، التي ربما أدركت أنَّ لديها مشكلة تتعلق بسمعتها وتخاطر بخطوات أشد من الحكومات ضدها، في تحمل مسؤولية مراقبة المحتوى الإرهابي على منصتها.
وبدأت العلاقة بين اليوروبول وتليغرام تؤتي ثمارها. إذ أطلقت تليغرام منصة "ISIS Watch- مراقبة داعش" التي تنشر تحديثات يومية حول المحتوى الإرهابي المحظور على المنصة.
ثم أخيراً، في أواخر عام 2019، أجرت تليغرام ويوروبول عملية مشتركة تمكنت من خلالها حذف 43 ألف حساب مستخدم مرتبط بالإرهاب؛ ما أدى فعلياً إلى محو تواجد التنظيم الإرهابي على الإنترنت. وكانت فعالية هذه الحملة استثنائية، حسب تعبير المجلة الأمريكية.
وأدى تطهير تليغرام من المحتوى الداعشي إلى شلَّ قدرة الجماعة الإرهابية على نشر الدعاية والتواصل سراً من خلال الخصائص المُشفَّرة للمنصة.
وعلى الرغم من أنَّ تليغرام لا يمكنه أبداً الوصول إلى الاتصالات الخاصة لأعضاء تنظيم داعش، ولكن يمكنه تحديد المستخدمين المتطرفين العنيفين بناءً على مشاركاتهم في القنوات التي نشرت محتوى ينتهك شروط الخدمة الخاصة بها، والتي بدورها وفرت وسيلة لحذف المستخدمين من المنصة.
لكن وضع اليمين المتطرف على الإنترنت يبدو مختلفاً
ولكن منذ التمرد اليميني في 6 يناير/كانون الثاني في مبنى الكابيتول الأمريكي، الذي خلَّف 5 قتلى، هناك مخاوف مماثلة حالياً في الولايات المتحدة من أنَّ جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت خاصة العنيفة ستستغل تليغرام لتنسيق الهجمات سراً.
ومنذ الهجوم، أغلقت تليغرام بالفعل ما تقول الشركة إنها "عشرات" القنوات التي تدعو إلى العنف ضد الحكومة الأمريكية أو إلى التطهير العرقي أو النازية الجديدة أو حرب العصابات.
غير أن أوجه التشابه بين داعش والجماعات المتطرفة العنيفة في الولايات المتحدة ليست متطابقة بطبيعة الحال، حسب تقرير مجلة Foreign Policy.
إذ لم تقتل الميليشيات اليمينية المتمردة المحلية آلاف المدنيين، ولا تُعتَبَر منظمات إرهابية عالمية، على غرار "داعش". لذا، ربما يكون تليغرام أكثر تردداً في إزالة المحتوى من الحسابات التي تنشر شعارات "أوقفوا السرقة" أو تدعو إلى الإطاحة بالحكومة الأمريكية لأسباب على رأسها أنَّ هذه الأفكار مدعومة ضمنياً من حزب سياسي أمريكي رئيسي (في إشارة إلى بعض المواقف الحادة في أوساط الحزب الجمهوري، ولاسيما مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب).
ومن المؤكد أنَّ دوروف سيواجه اتهامات بفرض الرقابة من نشطاء اليمين إذا حذا حذو تويتر أو فيسبوك بإزالة شاملة لمثل هذه القنوات التابعة لجماعات اليمين المتطرف على الإنترنت.
قد يحتاج الأمر للتعامل معهم بالطريقة التي طبقت مع داعش
ومع ذلك، لا تزال إدارة تليغرام ويوروبول لمسألة "داعش" توفر دروساً قيمة، لكيفية التعامل مع جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت دون المساس بخصوصيات المستخدمين، وفقاً للمجلة الأمريكية.
إذ توضح هذه التجربة أنَّ تطبيق تليغرام، إذا رغب في ذلك، يمكنه مراقبة وإزالة المحتوى العنيف دون المساس بوظائف المراسلة المشفرة.
فعندما يدافع أحد المستخدمين علناً عن العنف أو ينضم إلى قناة تروج للعنف، يمكن لتطبيق تليغرام إزالة حساب هذا المستخدم، وفي هذه الحالة يفقد الوصول إلى النظام الأساسي والقدرة على التواصل عبر الدردشات الخاصة.
ومن المحتمل أن يعتمد مستقبل الجماعات اليمينية المتطرفة في تليغرام على ما إذا كانت تدعو علناً إلى العنف أو تُقصِر تآمرها على الاتصالات الخاصة. وبالطبع، سيجد المتطرفون الذين يلتزمون بالاتصالات الخاصة صعوبة أكبر في جذب الانتباه وتجنيد أعضاء جدد؛ مما يقلل بطريقة طبيعية من وصولهم إلى الجمهور.
ويكشف مثال "داعش" أيضاً كيف يمكن لوكالات إنفاذ القانون تشكيل شراكة فعالة مع تليغرام على الرغم من عدم ثقة الشركة بالحكومات ومنظورها القوي عن حرية التعبير.
ويمكن لنظير وحدة إحالة الإنترنت التابعة لليوروبول في الولايات المتحدة تطوير علاقة عمل مع تليغرام لتسهيل الحد من تواصل جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت عبر المنصة.
ويمكن أن يمثل هذا نموذجاً للتعاون ليس فقط مع تليغرام، بل مع سيغنال والتطبيقات المشفرة الأخرى أيضاً، لوقف المحتوى العنيف والتهديدات المحلية وتحجيم تأثير جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت، حسب تقرير Foreign Policy.
فلا يوجد سبب يمنع من تكرار نجاح تجربة تعاون وكالات إنفاذ القانون ضد داعش مع منظمات يمينية غربية متطرفة مثل Proud Boys (فتيان فخورون)، وOath Keepers (حراس القَسَم)، وغيرها من جماعات اليمين المتطرف على الإنترنت، عبر طردهم وحجب دعواتهم العامة للعنف.