تحل هذا العام الذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي أطلقت على إثرها الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب"، فغزت أفغانستان وفتحت معتقل غوانتانامو وبدأت في استخدام المسيرات القاتلة، فهل تتمكن إدارة جو بايدن من إنهاء "الحرب الأبدية"؟
ونشرت مجلة Foreign policy الأمريكية تقريراً أشارت فيه إلى الرئيس جو بايدن وضع هدفاً على أجندته يتمثل في العمل على إنهاء الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة والتي باتت تُعرف الآن غالباً باسم "الحرب الأبدية"، لكن بايدن وكبار مسؤولي إدارته يواجهون معارضة شديدة من مسؤولين عسكريين واستخباراتيين مخضرمين يخشون من أن يكون القيام بذلك خطوة متخذة قبل أوانها، وفقاً لمصادر في الإدارة الأمريكية وعاملين في مجال حقوق الإنسان.
حجة "الحرب على الإرهاب"
لكن الأمر لا يتعلق فقط برغبة بايدن في الخروج من أفغانستان أو تقليص هجمات الطائرات المسيّرة أو عزمه على إغلاق معتقل غوانتانامو نهائياً، إذ ثمة سؤال كبير يتعلق بما إذا كان تنظيم القاعدة وفروعه، والذي اتُّخذ حجةً لتبرير "الحرب على الإرهاب" في المقام الأول، لا تزال تشكّل تهديداً استراتيجياً للولايات المتحدة. ومن ثم، يريد بعض كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية طيّ هذه الصفحة برمتها، في حين يبدي بعض كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية ومجتمع الاستخبارات اختلافهم مع هذه الخطوة.
الواقع أن بايدن، مثله مثل كبار مساعديه، وعلى رأسهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، عازمون على وضعِ حدٍّ لأكبر قدر ممكن من بقايا هذا الفصل الممتد لعقدين من الزمن والوفاء بتعهدات بايدن الانتخابية. وفي نوعٍ من التشديد على رغبة إدارته في التركيز على أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بدلاً من الانخراط في حروب الشرق الأوسط، قال بايدن في توجيهاته الأمنية التي أصدرها على المستوى الوطني مؤخراً: "لا ينبغي للولايات المتحدة أن تخوض، وهي لن تخوض مرة أخرى، (حروباً أبدية) تكلف آلاف الأرواح وتريليونات الدولارات".
وإنفاذاً لهذه الرؤية، سعى فريق بايدن خلال الأسابيع الأخيرة إلى استكمال عملية الانسحاب من أفغانستان، وتضييق نطاق استخدام الطائرات بدون طيار، وإلغاء قانون "التصريح باستخدام القوة العسكرية لعام 2001" (AUMF) الذي أطلق الحرب على الإرهاب ثم استخدم بعدها بعام لتسويغ غزو العراق، وإنهاء الحرب في اليمن، والشروع في عملية إغلاق معتقل غوانتانامو.
معارضة عسكرية للانسحاب من أفغانستان
ومع ذلك، فإن مسؤول في الإدارة مطلع على المناقشات قال للمجلة إن "قوات الخدمة في الجيش ومجتمع الاستخبارات الأمريكي تقاوم" بعض هذه التحركات. ويجادل بعض المعارضين منهم بأن إعلان النجاح السابق لأوانه والانسحاب بهذه السرعة من أفغانستان والشرق الأوسط من شأنه أن يجعل بايدن عرضةً لنفس الانتقادات التي تعرض لها الرئيس السابق باراك أوباما عندما انسحب من العراق في عام 2011، ليجد أنه ما لبث أن فتح بانسحابه الباب أمام صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
وفي مقابلة أُجريت معه الخميس 11 مارس/آذار، أقر مسؤول كبير في الإدارة الحالية بوقوع نقاش "حاد" داخل الإدارة حول كيفية إنهاء حروب أمريكا الأبدية، لكنه أضاف: "لم نعلن أننا وصلنا إلى أي شيء يمكن وصفه بأنه نقطة تحول في هذا الموضوع. لا تزال هناك تهديدات إرهابية كبيرة للولايات المتحدة ومصالحها في الخارج". كما نفى أن يكون النقاش قد شهد انقسامات حادة في الرأي بين مسؤولي الإدارة السياسيين ومسؤولي الخدمة في الجيش والاستخبارات. ومن جانبهم، رفض المتحدثون باسم الاستخبارات القومية الأمريكية والبنتاغون التعليق.
لكن موقع Politico كان قد ذكر الأسبوع الماضي، نقلاً عن مصدر في الإدارة، القول إن بايدن "ينوي العمل مع الكونغرس لإلغاء تصاريح الحرب التي استندت إليها العمليات العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء العالم على مدار العقدين الماضيين، والتفاوض من أجل تشريع جديد يحدُّ من الطبيعة المفتوحة للحروب الخارجية الأمريكية". وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، إن بايدن يريد "إطاراً ضيقاً ومحدداً" جديداً يعمل على حماية المواطنين الأمريكيين، وفي الوقت نفسه "ينهي حروب أمريكا الأبدية".
التحدي الأول في أفغانستان
إذ يخشى بعض المسؤولين المخضرمين من أن انسحاباً مبكراً من أفغانستان قد يعود بالولايات المتحدة إلى حيث بدأت، مهددةً من دولة تستضيف تنظيم القاعدة وتهيمن عليها حركة طالبان. ويشير هؤلاء إلى أنه بموجب اتفاقية السلام التي أبرمها دونالد ترامب مع طالبان، كان على الجماعة أن تقطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة، لكنها لم تفعل ذلك. من جهة أخرى، لطالما كان بايدن من المدافعين المتحمسين عن الانسحاب، وقد أخذ يقول لسنوات إن حكومة أفغانستان فاسدة وغير جديرة بالثقة.
والآن تقترح إدارة بايدن أن يتقاسم الرئيس الأفغاني أشرف غني السلطة مع حركة طالبان المنبعثة من جديد في حكومة "جديدة وشاملة"، وقال بلينكن مؤخراً في رسالة إلى الرئيس الأفغاني إن الولايات المتحدة تدرس انسحاباً كاملاً للقوات الأمريكية بحلول الأول من مايو/أيار إذا لم يمتثل لهذا الاقتراح.
ورغم أن حرب أمريكا على الإرهاب قد تسببت في تشريد عشرات الملايين حول العالم، ودمار دول كثيرة في إفريقيا وآسيا، فإن حرب أفغانستان بالتحديد تحولت إلى كابوس لواشنطن لا يبدو له مخرج مقبول، بحسب تقارير أمريكية.
وفي المقابل، يرى بعض كبار المسؤولين الحاليين والسابقين أن القاعدة والجماعات المتفرعة عنها قد تم بالفعل تحييدها على نحو فعال، على الأقل من جهة تشكيلها تهديداً مباشراً للولايات المتحدة. ومن ثم، فهم يفضلون التخلي عن مواصلة الحرب على الإرهاب التي بدأها جورج دبليو بوش، ويميلون إلى التعامل مع تنظيم القاعدة كما تفعل الدول الأخرى، قضية جنائية يتعامل معها على نحو أفضل رجال الشرطة والمحاكم.
وفي مقابلة مع مجلة Foreign Policy، قال وزير الأمن الداخلي السابق جيه جونسون، إنه يعتبر "الحرب على الإرهاب" قد انتهت، "فالصراع المسلح الذي صرّح به الكونغرس في عام 2001، فيما يتعلق بتنظيم القاعدة، قد انتهى قانونياً وعملياً. لقد تم تدمير القاعدة الأساسية للتنظيم بفاعلية، كما أن قدرة التنظيم على شنِّ هجوم استراتيجي ضد الولايات المتحدة، على نحو ما حدث في عام 2001، قد تلاشى بدرجة كبيرة".
واستشهد سيث جونز، خبير مكافحة الإرهاب في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" (CSIS)، بدراسة من المقرر أن تنشر قريباً وتشير إلى أن "عدد المؤامرات لشنِّ همات داخل الولايات المتحدة قد تراجع إلى أدنى مستوى له منذ عقدين".
وفي غضون ذلك، يركّز بايدن على تهديد أكبر في الوقت الحالي، فقد وجه الرئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى إعادة التركيز على التهديدات الداخلية من ميليشيات اليمين المتطرف من النوع الذي أفضت أنشطته إلى اقتحام مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني الماضي. وكان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد التزم على مدار عقدين بصرف الحصة الأكبر من موارده إلى عمله الخاص بالقضاء على تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المسلحة، في حين أن التهديد اليميني المحلي قد أخذ يتفاقم خلال تلك الفترة.
يتفق بعض مسؤولي إدارة بايدن مع تقييم جيه جونسون، وهو أحد الأسباب التي تدفع الإدارة إلى الضغط على الكونغرس لتقويض أي تمديد لقانون التصريح باستخدام القوة العسكرية لعام 2001، كما أمر مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، بإجراء مراجعة واسعة النطاق لسياسات مكافحة الإرهاب، ويشارك وزير الدفاع لويد أوستن بتقييم يتعلق بالوضع الدفاعي العالمي.
الطائرات بدون طيار تحد آخر
ومع ذلك، يقول مسؤولون إن هذه لا تزال الأيام الأولى لإدارة تعاني نقصاً شديداً في الدبلوماسيين، كما أن المعارضة من جانب البنتاغون ومجتمع الاستخبارات قد اشتدت في الفترة الأخيرة.
غير أن ذلك لا يبدو أنه يحول دون بايدن وعزمه على تجنب الأخطاء التي ارتكبها أسلافه. فقد كثّف أوباما، على سبيل المثال، من وتيرة ضربات الطائرات بدون طيار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب شرق آسيا. كما أعطى ترامب الجيش ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تفويضاً غير محدود لشن العمليات العسكرية واختيار الأهداف بأنفسهم.
أما بايدن، فتشير صحيفة The New York Times الأمريكية إلى أنه قد عمل خلال الأسابيع الأخيرة على وضع حدٍّ لذلك، وقد "فرضت إدارته في هدوء قيوداً مؤقتة على ضربات الطائرات بدون طيار في عمليات مكافحة الإرهاب، وعلى غارات القوات الخاصة خارج مناطق القتال التقليدية مثل أفغانستان وسوريا، كما بدأت الإدارة مراجعة واسعة النطاق تبحث في تشديد القواعد الفضفاضة التي فوّض بها ترامب من أجل هذه العمليات".
ويقول كريس وودز من شركة Airwars، وهي شركة معنية بتتبع ضربات الطائرات بدون طيار على تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من المجموعات المسلحة في العراق وسوريا وليبيا، إن ضربات الطائرات بدون طيار الأمريكية قد وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ بدء الحرب على الإرهاب، وهو اتجاه بدأ في العام الأخير لإدارة ترامب. وأشار وودز إلى أن آخر عام لأوباما في منصبه قد شهد نحو 13 ألف غارة جوية بطائرات بدون طيار، غير أن هذا الرقم انخفض بحلول العام الماضي إلى نحو 1100 غارة، وهو مستمر في الانخفاض.
وفي حين يشير خبراء مثل وودز إلى أن الفرصة سانحة الآن لإنهاء الحروب الأبدية، فإن ثمة واقعاً يتعلق بأن عدد المسؤولين السياسيين الذين عيّنهم بايدن لا يزال أقل بكثير من عدد البيروقراطيين المدرجين في الخدمة في البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وهذا يعطي وزناً كبيراً لنفس الأصوات التي كانت تقود الزمرة المتحكمة في إدارة هذه الشؤون لفترة طويلة.
وتعليقاً على ذلك، تقول هينا شمسي، مديرة مشروع الأمن القومي التابع لاتحاد الحريات المدنية الأمريكي: "قصة العشرين عاماً الماضية، هي من نواح كثيرة، قصة تفضيل وجهات نظر المجتمع العسكري والاستخباراتي دون استراتيجية بديلة. وما نأمل أن نراه من بايدن في ذكرى أحداث 11 سبتمبر/أيلول هو رئيس قادر على إخبار الشعب الأمريكي والمجتمع الدولي أن هناك قدراً ضئيلاً من العدالة في تلك الهجمات، وأن البنية القائمة على الحرب والمستمرة منذ عقدين من الزمن وتسببت في كثير من الضرر لعديد من الأشخاص في الداخل والخارج، قد انتهت".
في المقابل، تقول أندريا براسو، نائبة مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في واشنطن، إن بايدن وقع عشرات من الأوامر التنفيذية في الأسابيع الأولى له، لكن "هذه القرارات حملت معها خيبة أمل كبيرة لأنها لم تأتِ بأي أوامر تنفيذية بشأن الطائرات بدون طيار أو إغلاق معتقل غوانتانامو".
ومع ذلك، قد تكون هناك نقطة نهاية تلوح في الأفق. ففي سلسلة من الخطب، سعى جونسون ومسؤولون آخرون في إدارة أوباما إلى التمييز بين القاعدة وغيرها من الجهات الفاعلة على مستوى إقليمي، مثل داعش. وبصفته المستشار العام للبنتاغون في عام 2012، رسم جونسون السبيل إلى انتهاء الحرب على الإرهاب التي لا تنتهي، إذ "ستأتي نقطة تحول.. حيث قُتل أو أُسر العديد من قادة ونشطاء تنظيم القاعدة والمجموعات التابعة لها ومن ثم أصبحت عاجزةً عن شن هجوم استراتيجي ضد الولايات المتحدة أو حتى محاولة ذلك، ما يعني حينها أن تنظيم القاعدة الذي نعرفه، التنظيم الذي أجاز الكونغرس للجيش ملاحقته في جميع أنحاء العالم في عام 2001، قد تم تدميره تدميراً فعالاً".
بناءً على ذلك، قال جونسون هذا الأسبوع، إن الأمور قد وصلت إلى نقطة التحول تلك بالفعل، و"لما كان الصراع الذي صرّح الكونغرس بشنِّه في عام 2001 قد انتهى، فإن الشجاعة السياسية تقتضي أن نقر بذلك" وأن نتصرف على أساسه.