في ليلة واحدة فقدت سهام حمو زوجها وابنها وحفيدتها عندما سقط صاروخ سنة 2016 على منزلهم في حي دوما، معقل المعارضة السورية القريب من دمشق، والذي كان حينها مسرحاً لبعض من أعنف معارك الحرب.
والآن وقد بلغت من العمر 74 عاماً وأصبحت حبيسة كرسي متحرك بعد إصابتها بمرض في القلب، تعتني سهام بأحفادها الأربعة الباقين على قيد الحياة بعد وفاة أبيهم، وبابنتها الأرملة، وابنتها الثانية وزوجها، وبأبنائهم.
مأساة ليست بغريبة على بلد قُتل فيه مئات الآلاف في الصراع المستمر منذ عقد من الزمان، والذي دفع ملايين إلى الفرار بحثاً عن النجاة والاستقرار في أماكن أخرى سواء في سوريا أو خارجها.
ومع اقتراب الذكرى العاشرة لاندلاع أول شرارة للصراع في منتصف مارس/آذار 2011، لا تريد سهام حمو سوى نعمة النسيان.
وبكلمات تقطر ألماً ومرارة تقول: "لا أريد أن أتذكر… كانت مسألة أقسى من المحتمل".
استقطب الصراع في سوريا أطرافاً عديدة وغاصت في رماله أقدام المسلحين الإسلاميين وجماعات المعارضة المسلحة وقوات الحكومة وقوات أجنبية.
اختارت سهام حمو البقاء في المكان الذي وُلدت وكبرت فيه رغم أن الندوب التي حفرتها الحرب ما زالت باقية.
عادت دوما إلى سيطرة النظام السوري بعد حملة عسكرية مدعومة من روسيا ساعدت بشار الأسد في إرغام جماعة جيش الإسلام، التي سيطرت على دوما في 2018، على الانسحاب.
حملة القصف الجوي التي أخرجت الجماعة من دوما جاءت بعد حصار لسنوات على مئات الآلاف من السكان الذين فر كثيرون منهم. ولا يُسمح الآن بعودة بعض الراغبين في ذلك من المناطق التي تسيطر عليها تركيا في الشمال.
ودوما جزء من منطقة الغوطة الشرقية التي تلامس أطراف دمشق.
كانت الغوطة الشرقية مسرحاً لهجوم كيماوي مشتبه به في أبريل/نيسان 2018، استتبع ضربات صاروخية من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا استهدفت عدداً من منشآت الأسلحة الكيماوية المشتبه بها في سوريا.
وتنفي حكومة بشار الأسد وحليفتها روسيا تنفيذ أي هجوم من هذا القبيل.
نجا الأسد من حركة التمرد التي بدأت في شكل احتجاجات سلمية في مارس/آذار 2011 ضمن موجة انتفاضات "الربيع العربي". هزت الانتفاضات مصر والجزائر وتونس وغيرها لكن تداعياتها لم تكن فادحة ومدمرة في أي دولة أخرى مثلما كانت سوريا.
خرج الأسد من مربع الخطر إلى وضع جديد يسيطر فيه الآن على أجزاء كبيرة من البلاد بفضل مساعدات الجيش الروسي وفصائل شيعية إيرانية.
وقبل أن تنزلق البلاد إلى أتون الصراع، كانت سهام حمو تعيش مع زوجها المزارع الذي يمتلك أيضاً متجراً صغيراً. كانت الأسرة ميسورة الحال نسبياً، وتمكنت من تزويج الابن صبحي وأختيه في ليلة واحدة.
لكن ألسنة النار كانت تتمدد من جحيم الصراع، حتى ابتلعت بيتها وحطمت حياتها في الليلة المشؤومة من 2016.
قالت: "كنت أتمنى ألا تكون هناك حرب وأن نعيش في أمان. لكنها إرادة الله".
أصبح الطابق الثاني من منزلها طلالاً متفحماً بفعل النيران وتذكاراً دائماً بما فقدته.
العودة
يتقاطر العائدون تدريجياً على دوما وغيرها من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة في السابق، بعد انحسار القتال.
أصبح أكثر من نصف سكان سوريا ما قبل الحرب نازحين إما داخل سوريا أو لاجئين خارجها، حسبما تظهر إحصاءات جديدة من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
يقول فارس البرغوث، رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية لإغاثة المحتاجين في مدينة دوما، إن الروح تعود تدريجيا لشرايين الحياة في المدينة مع عودة المدارس وتشغيل الخدمات. لكن الحرب تركت بصماتها واضحة.. فعدد الأيتام المسجلين لدى جمعيته وحدها حوالي 3200.
قال "الناس يشعرون بالأمان وبدأوا العودة لحياتهم الطبيعية".
فتحت المتاجر والشركات أبوابها واكتظت الشوارع بالسيارات، فيما يمضي الناس في حياتهم اليومية العادية.
لكن ياسين العفا، زوج ابنة سهام حمو، ليس لديه أمل في عودة الحياة قريباً إلى ما كانت عليه قبل 2011.
كان ياسين عامل بناء يتحصل على دخل يكفيه وأسرته، لكنه أصبح الآن عاطلاً ملازماً للفراش بعد جراحة كبيرة في الظهر، مما يعني أن عودته لممارسة عمل يعتمد على القوة البدنية فرضية مستحيلة.
قال إن الأشغال قليلة وتأتي على فترات متباعدة ولا يملك رأس مال لبدء عمل تجاري خاص.
تحدث عن الحياة قبل الحرب. قال بنبرة تنضح بالمرارة: "كنا نعيش مثل الملوك. كنا نعمل ونعول أسرنا وكان لدينا ما نحلم به ونتمناه".
عائلة حمو ليست حكاية فريدة في دوما.
فأم بشير الساعور (37 عاماً) ترملت بسبب الحرب، وتعيش مع حماتها وأربعة أطفال في بيت واحد.
تغسل الخس وتقطعه وتوصله للمطاعم لقاء أجر أسبوعي تقتات عليه هي وأطفالها وحماتها.
فقدت أم بشير زوجها وأحد أبنائها في قصف في الأيام الأخيرة من عمر الصراع في دوما.
قالت: "كنا نتمنى أن تتحسن الأمور وتمنيت ألا أفقد زوجي، لكنه رحل عنا.
"فات الأوان بالنسبة لنا الآن، لكني أتمنى ما هو أفضل للأبناء".
وبعد مرور عشر سنوات على اندلاع الصراع لم تنجح الاضطرابات العاصفة التي بدأت باحتجاجات سلمية في مارس/آذار 2011 في زحزحة بشار الأسد عن منصبه.
فالأسد يبسط هيمنته على أجزاء كثيرة من البلاد، ساعده في ذلك وجود عسكري روسي وفصائل شيعية إيرانية.
لكن التحدي الأكبر أمام الأسد الآن هو الاقتصاد.
فالاستياء السائد بعد الحرب من الفساد وعلو أسعار السلع الغذائية وانهيار العملة وانقطاع الكهرباء المتكرر ونقص البنزين.. كلها أمور فاقمت من المصاعب التي تواجهها أُسر كثيرة فقدت بالفعل عزيزاً عليها أو أكثر.