كانت ألمانيا من الدول القليلة التي تمكنت من التعامل بنجاح مع وباء كورونا منذ البداية، وانعكس ذلك بشكل واضح في انخفاض معدل الوفيات فيها مقارنة بباقي الدول الأوروبية، لكن انقلبت الأمور تماماً في سباق اللقاحات، فماذا حدث؟
ففي بداية انتشار الوباء خارج منشأه في الصين، كانت ألمانيا من أوائل دول أوروبا استعداداً لمواجهته وطبقت استراتيجية الرصد والتتبع والفحص بصورة كانت متكاملة ودقيقة عكست الصورة الذهنية المعروفة عالمياً عن دقة الألمان، ونالت المستشارة الألمانية استحسان مواطنيها وأصبحت مصدراً للإلهام لباقي العالم بسبب ذلك التعامل الناجح مع الوباء.
وعلى الرغم من أنه بنهاية مارس/آذار من العام الماضي، كانت ألمانيا قد سجَّلت أكثر من 60 ألف حالة إصابة مؤكدة بالفيروس لتصبح وقتها أعلى خامس دولة من حيث عدد الإصابات في العالم، إلا أن عدد الوفيات في البلاد كان أقل بشكل لافت من نظيرها في الدول الأخرى، إذ بلغ معدل الوفيات في ألمانيا 0.8% مقارنة بنسبة 4% في الصين، وما بين 6% و8% في فرنسا وإسبانيا، و11% في إيطاليا.
تأخر واضح في سباق اللقاحات
لكن ما أن بدأ سباق اللقاحات انقلبت الأمور تماماً ووجد الألمان أنفسهم متأخرين بشكل لافت عن بريطانيا، على سبيل المثال، وهو ما وضع ميركل وحكومتها في موقف حرج للغاية وتعرضت المستشارة لانتقادات عنيفة.
ومنذ أن بدأت ألمانيا حملة تطعيم مواطنيها بلقاحات كورونا في ديسمبر/تشرين الأول الماضي، لم يتلق الجرعات سوى نحو 6% فقط من إجمالي عدد السكان، حيث تلقى أقل من 5 ملايين ألماني الجرعة الأولى من اللقاح بينما تلقى 3 ملايين فقط الجرعة الثانية. وفي المقابل تلقى أكثر من 21 مليون بريطاني الجرعة الأولى من اللقاح بينهم أكثر من مليون تلقوا جرعة ثانية بالفعل.
وتسبب التأخر الألماني الواضح في سباقات اللقاحات مقارنة ببريطانيا في جدل كبير داخل ألمانيا وتعرضت ميركل لانتقادات عنيفة، والشهر الماضي صدر عدد من مجلة بيلد التابلويد الأكثر مبيعاً في البلاد بمانشيت رئيسي يقول "عزيزتي بريطانيا.. إننا نحسدك!".
وقال جوليان رايتشيلت مدير تحرير المجلة لشبكة CNN الأمريكية إن "ألمانيا هي مهندس الفشل الأوروبي، لأن ألمانيا وميركل كانوا وراء عملية التطعيم الأوروبية التي ثبت فشلها منذ البداية"، مضيفاً: "أرادت (ميركل) أن تكون العملية برمتها أوروبية وأن تكون هي الأوروبية العظيمة".
ولا يمكن بالطبع استبعاد الجانب السياسي من القصة، فالتنافس بين بريطانيا وألمانيا ليس مفاجئاً ولا جديداً وازدادت حدته خصوصاً بعد مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، وهو ما يستغله منتقدو المستشارة الألمانية والتيار اليميني الشعبوي في التأكيد على فشل الاتحاد الأوروبي في غالبية الملفات وأبرزها سباق لقاحات كورونا.
ما أسباب الفشل الألماني في سباق اللقاحات؟
لكن بعيداً عن الجانب السياسي في القصة، هناك أسباب وراء الفشل الألماني، وبالتبعية الأوروبي، في مسألة توفير لقاحات كورونا للمواطنين في تلك البلاد، منها ما هو متعلق بالتأخر في اعتماد اللقاحات نفسها من جانب هيئة الأدوية الأوروبية التي لا توفر خاصية "الموافقة الطارئة" لاعتماد اللقاحات، عكس بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي أعطت هيئات الأدوية فيها موافقة طارئة على اللقاحات.
ويرى الخبراء أن أحد أسباب مشكلة اللقاحات يتمثل في أن ألمانيا حددت أماكن بعينها لتوفير جرعات اللقاح لمواطنيها وليس في عيادات الأطباء المسجلين في أنحاء البلاد كما تفعل بريطانيا، حيث يقوم الأطباء بتطعيم مرضاهام المحليين منذ البداية، وقد اعترفت ميركل بالفعل قبل أيام بتلك المشكلة التي تسببت في تأخير عملية التطعيم وقالت الأربعاء 3 مارس/آذار أنه بنهاية الشهر الجاري سيكون اللقاح متاحاً لعيادات الأطباء لتقديمه لمرضاهم في أنحاء البلاد.
وقالت الطبيبة الألمانية سيبيل كاتسينستاين لـ"سي إن إن" إن هناك أكثر من 50 ألف عيادة للأطباء في أنحاء ألمانيا، مضيفة أن السماح لهم بتوفير خدمة التطعيم لمرضاهم سيكون نقلة هامة، لأن الوصول سيكون أسهل بكثير للمرضى، عكس النظام الحالي.
ويعتمد النظام الحالي على قيام المواطنين بالتسجيل لحجز دورهم في تلقي جرعات اللقاح من خلال أحد المراكز المخصصة وهي عملية معقدة وتختلف من مقاطعة لأخرى في المقاطعات الألمانية الستة عشر، كما أن تطبيق الإغلاق في البلاد يجعل الأمور أكثر تعقيداً خصوصاً بالنسبة لكبار السن غير المؤهلين للتعامل مع بيروقراطية النظام الإلكتروني.
التخبط.. لقاح أسترازينيكا نموذجاً
ومن الأسباب أيضاً حالة التخبط التي صاحبت لقاح أسترازينيكا البريطاني بالتحديد، إذ ارتفعت حدة الانتقادات الموجهة لميركل هذا الأسبوع وعادت المقارنات بين ألمانيا وبريطانيا، بعد إعلان المستشارة التراجع عن قرار سابق بعدم الترخيص بإعطاء لقاح أوكسفورد-أسترازينيكا البريطاني لمن هم أكبر من 65 عاماً.
وسبب الانتقادات هو أن لجنة اللقاحات الألمانية (STIKO) كانت قد قررت يوم 28 يناير/كانون الثاني الماضي منع الفئة العمرية من كبار السن فوق 65 عاماً من تلقي لقاح أسترازينيكا بسبب ما قالت إنه نقص في البيانات الكافية لتلك الفئة العمرية في التجارب السريرية الخاصة باللقاح.
وكانت المفوضية الصحية بالاتحاد الأوروبي قد وافقت على استخدام لقاح أوكسفورد- أسترازينيكا مطلع العام الجاري وذلك بالنسبة لكل الفئات العمرية، لكن بعض التشكيك واجه العقار بسبب قيام بعض البلدان مثل ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا، بحظر استخدامه للفئات العمرية الكبيرة خاصة من يتعدى سنهم 65 عاماً، بسبب ما اعتبر نقصاً في المعلومات الطبية والآثار الجانبية للقاح.
وبدأت عملية التشكيك قبل نحو شهرين حين قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن اللقاح قد لا يكون فعالاً بالنسبة لكبار السن وهو ما رفضته الحكومة البريطانية وقتها، خصوصاً أن الجدل جاء وسط مشاكل بين شركة أسترازينيكا المنتجة للعقار والمفوضية الصحية بالاتحاد الأوروبي حول إمداد دول الاتحاد بكميات كافية من اللقاح. وبالتالي تراكمت كميات من اللقاح في بعض دول الاتحاد بسبب عدم استخدامها، مما أدى لتعطيل حملة التلقيح فيها.
والأسبوع الماضي، حث مدير هيئة المناعة الطبية في ألمانيا كارستن واتزل الحكومة على تغيير موقفها من اللقاح، وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC توقع واتزل أن تغير بلاده موقفها من لقاح أوكسفورد -أسترازينيكا واقترح أن تقوم ميركل بتلقي اللقاح مباشرة على الهواء أمام مواطنيها لتطمئنهم.
لكن الجدل المتعلق بلقاح أسترازينيكا أوقع ضرراً يصعب التقليل منه بالفعل، خصوصاً فيما يتعلق بثقة المواطنين في اللقاح، وهذا ما عبر عنه الدكتور أوي جانسين رئيس هيئة الرعاية المركزة وطب الطوارئ الألماني بقوله لـ"سي إن إن": "قرار هيئة اللقاحات في ألمانيا بحظر إعطاء اللقاح لكبار السن كان خطأ بالفعل لأنه أدى إلى فقدان الثقة في اللقاح بشكل عام من غالبية المواطنين".
ويعتقد جانسين أن الجدل بشأن لقاح أسترازينيكا ليس السبب الوحيد وراء الفشل الألماني والأوروبي عموماً في سباق اللقاحات، موضحاً أن المشكلة تعود إلى البداية، "لأن طريقة التعاقد على شراء اللقاحات اتسمت بالبطء ولم يتعاقدوا على شراء جرعات تكفي جميع المواطنين".