لن تعود حياتنا إلى طبيعتها قبل وباء كورونا ما لم تنتصر البشرية في تلك الحرب، والوسيلة الوحيدة هي توفير اللقاحات لغالبية البشر في وقت متزامن، فهل توجد طريقة لمواجهة تحدي هكذا اختيار؟
المقصود بعودة الحياة إلى طبيعتها قبل انتشار الفيروس القاتل أواخر عام 2019 هو عدم الحاجة لارتداء كمامة، على سبيل المثال، أو تبادل السلام بالأيدي أو حتى الأحضان بين أفراد العائلة والأصدقاء، لكن بالطبع تمثل عودة عودة الأنشطة الاقتصادية إلى ما كانت عليه والسفر دون خوف وغيرها من الأمور التي كانت بديهية قبل تفشي الجائحة أصبح حلماً للجميع.
ومع التوصل للقاحات متعددة لوباء كورونا في زمن قياسي، ازداد الأمل في أن تكون نهاية الحرب ضد الوباء قد أوشكت على نهايتها بالقضاء عليه، إذ إن نسبة فعالية اللقاحات المرتفعة تعني أنه ما أن يتم توفيرها لغالبية السكان تتحقق مناعة القطيع بمعناها العلمي، ومن ثم نبدأ في العودة التدريجية للحياة الطبيعية.
عقبات تواجه التطعيم ضد كورونا
لكن توفير اللقاحات شهدت حتى الآن تفاوتاً لافتاً بين الدول الغنية وتلك المتوسطة الدخل أو الفقيرة، إذ بحلول 25 فبراير/شباط، كانت دول العالم قد استخدمت ما مجموعه 221.7 مليون جرعة من لقاحات فيروس كورونا، أكثر من ثلث هذه الجرعات الممنوحة جرى في بلدين فقط هما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وكانت دراسة أجريت في منتصف نوفمبر/تشرين الماضي بشأن الالتزامات والعقود الموقعة لشراء نحو 7.84 مليار جرعة من لقاحات فيروس كورونا، ووجدت الدراسة أن أكثر من نصف هذه الجرعات بقليل سيذهب إلى نحو 14% فقط من سكان العالم الذين يعيشون في البلدان ذات الدخل المرتفع.
وتشير التقديرات إلى أن معظم الدول ذات الدخل المرتفع ستحقق مستويات تطعيم واسعة النطاق لسكانها بحلول نهاية عام 2021، فيما لن تحقق معظم البلدان متوسطة الدخل تلك المستويات حتى منتصف إلى أواخر عام 2022، أما أفقر دول العالم، ومنها كل دول إفريقيا تقريباً وبعض دول منطقة آسيا – المحيط الهادئ، فسوف تضطر إلى الانتظار حتى عام 2023، بحسب تقرير لموقع The Conversation الأسترالي.
وبالطبع لا يمثل هذا التفاوت الرهيب انتهاكاً أخلاقياً وحسب، لكنه أيضاً سيؤدي إلى جعل الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية المدمرة للوباء على العالم بأسره أمراً أبدياً لا نهاية له لأسباب عديدة.
لماذا المساواة في توفير اللقاح مفيد للجميع؟
هناك عديد من الأسباب التي تجعل من الأحرى بالدول الغنية أن تفعل كل ما في وسعها لضمان المساواة العالمية في توفير اللقاحات، والمقصود توزيع لقاحات كورونا بطريقة عادلة على مجموعات سكانية مختلفة، وأن يشمل ذلك الأشخاص من مختلف الأصول والطبقات الاجتماعية.
أولاً، هناك الدافع الأخلاقي. فإذا فرضنا أن اللقاحات موجودة بالفعل، فإن كل يوم يمر دون توفيرها يؤدي إلى وفيات كان بإمكاننا منعها.
ثانياً، كلما استغرق القضاء على الفيروس وقتاً أطول على مستوى العالم، زاد تحوره، ما يقلل من فاعلية اللقاحات، وهذا أمر سيمتد تأثيره للجميع، وهو ما يعني ببساطة أن الأغنياء لن يكونوا في مأمن من الوباء.
ثالثاً، ما دام الفيروس موجوداً، يستمر تعطل التدفقات التجارية وتضرر سلاسل التوريد العالمية بشدة. وتجنب هذا أيضاً من مصلحة الجميع إذا أرادوا عودة السياح الأجانب إلى الشواطئ والمعالم السياحية وعودة الطلاب إلى مدارسهم في كل مكان.
وفيما يتعلق بذلك، وجدت دراسة حديثة أن البلدان ذات الدخل المرتفع قد تتحمل 13-49% من الخسائر العالمية -والتي قد تصل إلى 9 تريليونات دولار أمريكي- الناشئة عن التوزيع غير العادل للقاحات في عام 2021.
أخيراً، قد يؤدي التفشي طويل الأمد للجائحة إلى مزيد من الفقر، وزعزعة استقرار سبل العيش الهشة بالفعل لملايين الفقراء في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وهذا بدوره يمكن أن يفضي إلى نشوب صراع يقوّض الاستقرار السياسي العالمي.
مبادرة "كوفاكس" COVAX
بدأ عدد من البلدان متوسطة الدخل وذات العدد الكبير من السكان في تنفيذ برامج التطعيم، ويشمل ذلك دولاً مثل الهند والبرازيل والمكسيك وتشيلي ومصر وجنوب إفريقيا وإندونيسيا. ولم يبدأ إلا عدد قليل فقط من البلدان الإفريقية في برامج التطعيم، وبينهم دولة واحدة فقط من الدول ذات الدخل المنخفض، وهي زيمبابوي.
ومن المفترض أن بعض البلدان ذات الدخل المتوسط ومعظم البلدان منخفضة الدخل ستعتمد على آلية "كوفاكس" التي تديرها منظمة الصحة العالمية وترمي إلى العمل مع مصنعي اللقاحات على تمكين البلدان في مختلف أنحاء العالم من الحصول على لقاحات مأمونة وفعالة على نحو عادل، بمجرد ترخيصها واعتمادها. وتهدف المبادرة إلى توفير ملياري جرعة لقاح، مع إعطاء الأولوية للعاملين في مجال الرعاية الصحية، في البلدان الفقيرة بحلول نهاية عام 2021.
ومع ذلك، فإن جرعات "كوفاكس" من المتوقع أن تغطي فقط 20% فقط من سكان كل بلد. كما أن وصول إمدادات "كوفاكس" قد يكون بطيئاً، خاصةً إذا أدى التأخير في عمليات الإنتاج والتسليم إلى الدول الغنية إلى تأخير مواعيد التسليم للدول الفقيرة.
على سبيل المثال، دولة غانا، وهي أول دولة من بين 92 دولة من المفترض أن تتلقى اللقاحات عبر تلك المبادرة، تلقت 600 ألف جرعة مخصصة لها فقط الأسبوع الماضي.
وتعليقاً على ذلك، قال تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، إن نهج الدول الغنية تجاه الشركات المصنعة لتأمين مزيد من جرعات اللقاح لنفسها يقوّض جهود "كوفاكس" لتحقيق هدفها المتمثل في شراء ملياري جرعة لقاح وإتاحتها خلال عام 2021.
يمكن للبلدان أن تنتج كميات خاصة بها من اللقاح
يمكن للبلدان منخفضة أو متوسطة الدخل أيضاً أن تنتج لقاحات كورونا بنفسها، وهو خيار تتخذه دول مثل الهند وتايلاند وفيتنام وكوبا.
وفي هذا السياق، يعد "معهد سيروم الهندي" للمصل واللقاح أحد أبرز مصنّعي لقاحات كورونا في العالم، ولديه ترخيص لإنتاج لقاح "أسترا زينيكا" AstraZeneca، الذي أقرّت منظمة الصحة العالمية الاستخدام الطارئ له.
وأعلن المعهد الهندي مؤخراً أنه سيعمل على تصنيع لقاحات للهند قبل الجرعات المخصصة لبقية العالم، وهي خطوة قد تؤخر شحنات اللقاح لعشرات الدول وتعوّق خطط المعهد لتقاسم إمدادات اللقاحات. ويذكر أن الهند تعمل أيضاً على تطوير لقاح خاص بها، من شركة "بهارات بيوتيك" Bharat Biotech، الذي أقرته السلطات الصحية الهندية.
وعلى النحو نفسه، فإن كوبا لديها 4 لقاحات قيد التطوير. وبحسب التجارب المبكرة لتلك اللقاحات، فإن أكثر التجارب الواعدة هي تلك الخاصة بلقاح "سوبيرانا 2" Soberana 2 الكوبي، الذي من المقرر أن يبدأ المرحلة الثالثة من التجارب الإكلينيكية قريباً. وفي حالة نجاحه، يخطط معهد "فينلاي" Finlay الكوبي لإنتاج ما يصل إلى 100 مليون جرعة لقاح بحلول نهاية عام 2021.
وفي تايلاند، هناك لقاحان قيد التطوير في جامعتي شولالونغكورن وماهيدول. وكلا اللقاحين على وشك البدء في مرحلة التجارب البشرية. وفي فيتنام كذلك، تلقت شركة "نانوجين" للأدوية Nanogen Pharmaceutical الضوءَ الأخضر من الحكومة لبدء التجارب السريرية للقاح "نانوكوفاكس" Nanocovax. وتستطيع الشركة إنتاج مليوني جرعة في السنة، لكنها تخطط لزيادة ذلك إلى 30 مليون جرعة في الأشهر الستة المقبلة.
يمكن للدول الغنية التبرع باللقاحات الاحتياطية لديها
تملك الدول الغنية التبرع بكميات من اللقاح للبلدان الفقيرة. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الدول الأكثر ثراءً عليها إرسال ما يصل إلى 5% من إمداداتها الحالية من اللقاحات إلى الدول الفقيرة، ومع ذلك، لا يبدو أن كثيراً من الدول قد حذت حذو فرنسا.
لكن دولاً كبرى أخرى، مثل روسيا والصين، قدمت لقاحات أنتجتها -"سبوتنيك في" الروسي و"سينوفارم" الصيني- لعدد من البلدان منخفضة الدخل في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.
وفي الختام، هذا ليس وقت تأميم اللقاح محلياً والاستسلام لهذه الدعوات وما تنطوي عليه من قصر نظر. كما أن التأخير المتوقع لمدة عامين بين تطعيم الأغنياء والفقراء في العالم أمرٌ غير مقبول أخلاقياً، علاوةً على أنه أكبر عائق أمام التعافي الصحي والاقتصادي في العالم.