ذات يوم، قال زعيم الاتحاد السوفييتي السابق ستالين، إن موت إنسان واحد هو مأساة كبرى، وموت الملايين مجرد إحصائيات. اليوم عاد هذا المبدأ، الذي لطالما لازم المستبدين، ليطارد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
"زعيم دولة صديقة يداه ملطختان بالدماء"
تقول صحيفة The Times البريطانية، إنه بات مألوفاً أن يبقى زعماء العالم الآخرون على كراسي السلطة رغم ارتكابهم جرائم قتل جماعي بحق الشعوب، سعياً وراء المجد في بعض الأحيان، أو إعلاءً لنوع من المثالية الثورية في أحيان أخرى، لكن ذلك لا يمنع أن تياراً من القشعريرة ينتاب السياسيين، لاسيما سياسيي الديمقراطيات الغربية، إذا طُلب منهم مصافحة رجل ملطخة يداه بجريمة قتل مروعة.
والأدهى من ذلك أنه ليس زعيم دولة مارقة، أو قائد دولة معادية للغرب مثل سوريا أو كوريا الشمالية، بل هو زعيم لدولة صديقة وشريك أمني ومشترٍ بارز للأسلحة الغربية.
منذ بداية حملته الانتخابية، قال جو بايدن إنه سيتجنب التعامل مع ولي العهد السعودي. وعندما أصبح رئيساً قال إن الولايات المتحدة لن تدعم السعودية في الحرب الجارية في اليمن، وهو جانب مهم من سياسات الأمير السعودي بوصفه وزيراً للدفاع.
ما الذي يأمله بايدن من نشر هذا التقرير دون معاقبة محمد بن سلمان؟
ومع ذلك، فإن نشر تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وهو القرار الذي رفض ترامب اتخاذه من قبل، يظل أحد أشد السهام الشخصية حدةً مما قد يوجَّه إلى ولي العهد السعودي البالغ من العمر 35 عاماً.
غير أن ما يأمله بايدن من هذا القرار يظل نتيجة غير واضحة بدرجة كبيرة حتى الآن. ربما يكون الأمر أنه يريد فقط التأكد من إجبار ولي العهد على التراجع خطوة إلى الوراء والبقاء في موقف المدافع عن نفسه، وأن يصبح أكثر انصياعاً تجاه السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما ضمان موافقة السعودية إذا اقتضت الأمور وعادت الإدارة الأمريكية إلى الاتفاق النووي الإيراني.
وقررت إدارة بايدن، الجمعة 26 فبراير/شباط 2021، عدم معاقبة ولي العهد السعودي، في قضية اغتيال خاشقجي، رغم ما كشفه تقرير المخابرات الأمريكية بأن بن سلمان وافق على قتل خاشقجي، وأمر بذلك على الأرجح، وذلك وفقاً لما كشفته صحيفة "نيويورك تايمز".
إذ أكد مسؤولون رفيعو المستوى في إدارة بايدن أن ثمن تلك الخطوة (معاقبة بن سلمان) باهظ للغاية، حسب الصحيفة الأمريكية، التي لفتت إلى أن هذا الأمر سيخيب آمال مجتمع حقوق الإنسان وأعضاء الحزب الديمقراطي الذين اشتكوا من المعاملة المفضلة لولي العهد السعودي خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب.
إلا أن مساعدي بايدن أشاروا إلى أنه من الناحية العملية لن تتم دعوة ولي العهد السعودي إلى زيارة الولايات المتحدة في أي وقت قريب. بينما هناك توافق داخل البيت الأبيض على أن ثمن الإضرار بالعلاقات مع السعودية -التي تُعتبر من أهم حلفاء واشنطن في المنطقة- سيكون عالياً للغاية فيما يتعلق بالتعاون بشأن محاربة الإرهاب ومواجهة إيران.
وتضغط العديد من منظمات حقوق الإنسان على إدارة بايدن، من أجل فرض نفس عقوبات السفر -كحد أدنى- على ولي العهد، التي فرضتها إدارة ترامب على الآخرين المتورطين في جريمة قتل خاشقجي.
وترى "نيويورك تايمز" أن قرار بايدن يأتي بعد أسابيع من المناقشات مع فريقه الأمني، الذي توصل لاستنتاجٍ مفاده أنه ليس هناك أي طريق لمنع الأمير محمد بن سلمان من دخول الولايات المتحدة، أو توجيه تهم جنائية إليه دون إلحاق ضرر بالعلاقات مع السعودية.
بايدن على نهج أوباما في التعامل مع مشاكل الشرق الأوسط
في السياق، تذهب صحيفة "التايمز" إلى أن بايدن، مثله مثل الرئيس أوباما، يريد إخراج الولايات المتحدة من مستنقع سياسات الشرق الأوسط، الذي بدت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان عالقةً فيه. ولطالما اعتقد كلاهما أنه إذا تمكنت السعودية وإيران من تحقيق "نوع من التوازن" لمصالحهما في المنطقة، فسيجعل ذلك رؤساء الولايات المتحدة في المستقبل قادرين على تكريس أنفسهم للعمل على الشؤون الاقتصادية المحلية، والتعامل مع مستجدات التنافس مع روسيا والصين.
كما أن الوصول إلى توازن كهذا يعني أن السعودية ستضطلع بـ"دورٍ بنّاء" في تحقيق رؤية واشنطن للعالم، لكن على الجانب الآخر فإن سلوك ولي العهد العدواني واندفاعاته المتهورة، مثل قتل منتقديه على سبيل المثال، يضع هذا التعويل برمته في شك.
ماذا لو لم يوافق الأمير محمد ووالده الملك سلمان على هذه الخطة؟
أحد الاحتمالات أو وجهات النظر التي لا يُصَّرح بها في واشنطن حتى الآن هو السعي إلى عزل الأمير عن منصبه. ففي حين أن بعض "المكاسب" التي حققها بن سلمان في فترته الوجيزة في السلطة، لاسيما المتعلقة بحريات المرأة والانفتاح الاقتصادي يمكن البناء عليها بالنسبة لواشنطن، ولا شك أن زعيماً سعودياً أكثر تقليدية يمكن أن يكون خياراً أفضل لتولي زمام الأمور وتخليص الولايات المتحدة من هذا "الحليف المحرج".
وفي هذا السياق، أشار موقع Arab Digest، وهو نشرة إخبارية خاصة تُعنى بشؤون الشرق الأوسط ويعتمدها العديد من الدبلوماسيين السابقين، إلى احتمال أن يضغط بايدن من أجل إطلاق سراح اثنين من خصوم الأمير المعتقلين. والحديث هنا عن "انقلاب" قد يقوده لصالح بايدن الأمير أحمد، عم محمد بن سلمان، والأمير محمد بن نايف، ابن عمه الذي خلعه من منصب ولي العهد في عام 2017.
بطبيعة الحال، يبدو هذا الاحتمال مستبعداً من جانب معظم الخبراء في الشأن السعودي، ومن السعوديين أنفسهم، فسلطة الأمير محمد بن سلمان راسخة حالياً داخل المملكة، وقد تمكّن بالفعل من فرض سيطرته على كل أذرع الدولة، بحسب الصحيفة البريطانية.
ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن بايدن يحتاج في كل الأحوال إلى خطة "احتياطية". ففي الغرب يبدو أن مؤيدي التحالف الوثيق بين الولايات المتحدة والسعودية ومعارضي هذا التحالف، على حد سواء، يفترضون أن الرؤساء الأمريكيين بإمكانهم أن "يُملوا على الملوك والأمراء ما يجب عليهم فعله"، لكن الواقع أن الحكام الذين يملكون سلطة مطلقة على بلادهم لهم رأي آخر خلاف ذلك.