حوض استحمام ساخن ودار سينما خاصة وغرفة نوم رئيسية محاطة بالمرايا وغيرها من معالم البذخ في الطائرة الخاصة لديكتاتور ليبيا الراحل معمر القذافي، فكيف أصبحت كماً مهملاً يعلوه التراب في مطار فرنسي؟
في أغسطس/آب 2011 وفي مطار طرابلس الدولي كان مشهد استيلاء قوات الثورة الليبية على الطائرة الخاصة للقذافي الذي حكم البلاد بالحديد والنار لأكثر من أربعين عاماً لحظة هامة، وتمت دعوة الصحفيين الأجانب للتجول داخل الطائرة التي عكست وسائل الرفاهية والبذخ فيها تناقضاً صارخاً مع أحوال البلاد.
وعلى الرغم من أن الزعيم الليبي المخلوع نفسه لم يُقتل إلا بعدها بأسابيع على أيدي قوات الثورة، فإن السيطرة على طائرته الخاصة كانت بمثابة السيطرة على أحد أكثر رموز السلطة بهرجةً وبذخاً. وكان الرصاص والشظايا قد تركت خروقات في جسم الطائرة من طراز "إيرباص إيه 340-200" Airbus A340-200 ذات المحركات الأربعة، لكنها كانت سليمة تماماً من الداخل.
ومع تجول الصحفيين داخل الطائرة وغرفها الداخلية بدأت أسرارها تتكشف؛ إذ رغم أنها تبدو من الخارج وكأنها طائرة ركاب أخرى تابعة لشركة الخطوط الجوية الليبية "الخطوط الجوية الإفريقية"، فإن طائرة القذافي كانت مجهزة بإعدادات فخمة كأنها قصر طائر خاص بالقذافي.
القذافي اشتراها بـ120 مليون دولار عام 2006
وقبل التطرق لرحلة الطائرة منذ سقوط القذافي وحتى اليوم، نسترجع قصتها منذ البداية، فقد سُلمت لأول مرة، في عام 1996، إلى الأمير جعفري بلقيه، الشقيق الأصغر لسلطان بروناي، ويقال إن الأمير أنفق 250 مليون دولار على تجهيزها قبل أن يقرر بيعها بعد أقل من 4 سنوات، على إثر تورطه في نزاع قضائي مع عائلته بشأن سوء استخدام أموال الدولة، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
وانتهز الأمير السعودي الوليد بن طلال الفرصة، فهو مولع بالطائرات الفاخرة الضخمة (ففي عام 2007، ورد أنه طلب طائرة خاصة من طراز "إيه 380″، وهي نسخة بمواصفات خاصة من طائرة الإيرباص العملاقة، لكن لم يتم بناؤها في النهاية).
لكن بعد فترة وجيزة، عادت الطائرة "إيه 340" لتطرح في سوق البيع والشراء مرة أخرى، وفي هذه المرحلة دخل القذافي على الخط، ليحصل الزعيم الليبي المخلوع عليها أخيراً في عام 2006 مقابل 120 مليون دولار.
ونتج عن صفقة البيع تلك مقاضاة سيدة أعمال أردنية تُدعى دعد شرعب للأمير الوليد في المملكة المتحدة، مدعيةً أن لها استحقاقات مالية مقابل دورها في التوسط في الصفقة، وفي عام 2013، أصدرت محكمة في لندن حكماً لصالحها، وأمرت الأمير السعودي بدفع 10 ملايين دولار إليها، بالإضافة إلى الفائدة.
وكانت هذه هي القضية الأولى من بين عدة قضايا قانونية لها علاقة بشخصيات بارزة كان مقدراً لها أن ترتبط بهذه الطائرة. ففي نفس العام الذي اشترى فيه القذافي طائرته الإيرباص، وقعت الحكومة الليبية اتفاقاً مع مجموعة شركات الخرافي الكويتية، لتطوير منتجع ساحلي في منطقة تاجوراء، الواقعة بالقرب من العاصمة الليبية طرابلس، غير أنه لم يمض وقت طويل قبل أن تتعثر الصفقة، وفي عام 2010، ألغاها الجانب الليبي.
ردَّت المجموعة الكويتية بمقاضاة ليبيا أمام محكمة تحكيم دولية في القاهرة، والتي منحت الشركة في عام 2013 حكماً يقضي بتعويضات بقيمة 930 مليون دولار، بناءً على تقديرات للعوائد المحتملة للمشروع، في حال استمراره.
ومع ذلك، لم يكن هذا سوى الفصل الأول من نزاع قانوني معقد وقع في ولايات قضائية متعددة ولا يزال مستمراً حتى اليوم، فقد وقعت طائرة القذافي، مرة أخرى، في مرمى النيران، لكن هذه المرة نيران النزاع القانوني وليس نيران الأسلحة.
إذ رفعت مجموعة الخرافي دعوى قضائية ضد الدولة الليبية في فرنسا أيضاً، ومن ثم عندما هبطت الطائرة في بربينيان الفرنسية، سعوا إلى مصادرتها.
من قصر طائر إلى مأزق لسلطة ما بعد القذافي
لكن ما الذي أوصل طائرة القذافي إلى فرنسا في المقام الأول؟ الإجابة تعود بالقصة إلى ما بعد مقتل القذافي نفسه وسقوط نظامه، إذ تحول الموقف من الطائرة الرئاسية الفاخرة إلى مأزق للسلطات الليبية الجديدة: فما الذي يمكن أن يُفعل مع طائرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتجاوزات الديكتاتور الراحل؟
وأحد الخيارات التي طرحت وقتها كان تجريدها من مقصورة كبار الشخصيات وتحويلها إلى طائرة ركاب عادية، أسوة بما حدث مع الطائرة الرئاسية من طراز "إيرباص إيه 340" الخاصة بالرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، الذي أطيح به أيضاً في موجة الثورات العربية في عام 2011. وقد بيعت الطائرة بعد ذلك لشرطة الخطوط الجوية التركية.
لكن ذلك لم يكن ما تقرَّر بشأن طائرة القذافي، فقد كانت حالة الطائرة تستدعي أن تتعرض لعملية تجديد مكثف وشامل قبل اتخاذ القرار النهائي بشأن مصيرها. ولهذا السبب، نُقلت الطائرة الرئاسية السابقة، المدرجة تحت رقم التسجيل 5A-ONE، إلى منشآت شركة EAS Industries (التي تحولت حالياً إلى شركة Sabena Technics)، وهي شركة صيانة وإصلاح للطائرات ومتعاقدة من الباطن مع شركة الخطوط الجوية الفرنسية (إير فرانس) Air France، ومقرها في مدينة بيربينيا، الواقعة في جنوب فرنسا.
وعلى خلاف الطائرات التي تعرضت لأضرار جسيمة في عمليات تبادل إطلاق النار التي وقعت عام 2011 في مطار طرابلس، فإن طائرة القذافي الرئاسية ظلت صالحة للطيران. ومع ذلك، فإن الأضرار التي لحقت بالطائرة أثناء معركة المطار كانت خطيرة لدرجة أن الرحلة التي يبلغ طولها نحو 1448 كيلومتراً إلى جنوب فرنسا كان يجب أن تتم في ثلث ارتفاع التحليق الطبيعي، كما أن عجلات هبوط الطائرة كانت غير قابلة للسحب على الإطلاق.
وبمجرد وصول الطائرة إلى فرنسا، تم إصلاحها وإعادة طلائها، وأُزيلت الكتابات القديمة للطائرة والأرقام "99-9-9″، التي كانت تشير إلى ذكرى إنشاء الاتحاد الإفريقي في 9 سبتمبر/أيلول 1999، وحل محلها أخرى جديدة تحمل العلم الليبي.
وبحلول عام 2013، كانت الطائرة جاهزة للتحليق مرة أخرى، لكن بدلاً من دخولها الخدمة التجارية، احتفظت الحكومة الليبية بها لاستخدامها الخاص. وبعد فترة قصيرة الأجل، ومع تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا، عادت الطائرة بحلول مارس/آذار 2014 إلى بربينيان مرة أخرى.
لكن هذه المرة، مع ذلك، كان وصول الطائرة إلى الأراضي الفرنسية إيذاناً بأزمة قضائية دولية تتعلق بها، لتبقى الطائرة على الأرض دون تحليق حتى يومنا هذا.
وقضت محكمة فرنسية محلية عام 2015 بأن الطائرة، التي قيل في ذلك الوقت إن قيمتها السوقية تبلغ نحو 60 مليون دولار، تنتمي إلى دولة ذات سيادة، ومن ثم فهي محصنةٌ ضد مطالبات المصادرة.
وبحلول عام 2016، كانت الطائرة تواجه مشكلات أخرى، فقد ارتفعت رسوم صيانة الطائرة وإصلاحها وتجديدها إلى ما يقرب من 3 ملايين دولار، ما جعل شركة الخطوط الجوية الفرنسية طرفاً في النزاع القضائي أيضاً، وأضاف درجة جديدة من التعقيد إلى القضية. وقد يكون المبلغ قد ارتفع أكثر منذ ذلك الحين، ويحدث هذا أيضاً في سياق تراجعت فيه القيمة السوقية للطائرات ذات المحركات الأربعة التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود، مثل الطائرة الليبية التي تبلغ من العمر الآن 25 عاماً.
ومع ذلك، يبدو أن الطائرة لا تزال قيد الصيانة والعناية. ففي أواخر عام 2020، رصد مراقبون محليون بدء عمليات تشغيل لمحركاتها، وهو إجراء تخضع له بانتظام الطائرات المخزنة على مدى طويل، لكنها لا تزال صالحة للطيران. وفي هذه المرحلة، يصعب معرفة ما يخبئه المستقبل للطائرة التي باتت مشهورة باسم "طائرة القذافي".