جاء توجه فرنسا لتأجيل سحب قواتها من منطقة الساحل الإفريقي، ليمثل خبراً جيداً لكثير من زعماء المنطقة، لأنه قد يقوي موقفهم في الحرب على الإرهاب، ولكنه في المقابل زاد المخاوف في باريس من أن حرب فرنسا في منطقة الساحل قد تتحول إلى حرب أبدية.
وبعد تلقيها وعوداً من الإدارة الأمريكية الجديدة لتعزيز التعاون الأطلسي بين البلدين، تتوجه باريس لتعديل استراتيجيتها الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، نحو مزيد من الانخراط في الحرب ضد الجماعات المسلحة بالمنطقة.
لماذا قرر ماكرون مواصلة حرب فرنسا في منطقة الساحل؟
وظهر التوجه الفرنسي الجديد في الحرب على الإرهاب بمنطقة الساحل جلياً من خلال القرارات التي خرجت بها قمة مجموعة الساحل الخمس، التي عقدت بالعاصمة التشادية نجامينا منتصف شهر فبراير/شباط 2021، بخلاف ما أعلنت عنه باريس نهاية 2020، قبل مغادرة الرئيس دونالد ترامب البيت الأبيض.
إذ قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال كلمته التي ألقاها عبر الفيديو في قمة مجموعة الساحل الخمس في 16 فبراير/شباط الجاري، إن "التسرع في الانسحاب الفرنسي (من الساحل) سيكون خطأ".
وأبرز تلك القرارات التي اتخذتها فرنسا هو تأجيل الانسحاب الفرنسي من المنطقة، ورفض الحوار مع المجموعات المسلحة "القبلية"، وإرسال 1200 جندي تشادي إلى منطقة الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بعد أن تأجل تنفيذ هذا القرار لأسباب مالية وتطورات أمنية في حوض بحيرة تشاد.
ويأتي تغيير استراتيجية ماكون بشأن حرب فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي، عقب إبداء إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، استعدادها لتعزيز تعاونها مع باريس في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو).
فخلال المكالمة الهاتفية الأولى من نوعها بين ماكرون، ونائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس، أعربت الأخيرة عن التزام واشنطن "بتنشيط التحالف عبر الأطلسي"، وناقشا "العديد من التحديات الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، والحاجة إلى معالجتها معاً".
ومع رحيل ترامب، تأمل فرنسا أن تدعم إدارة بايدن، وضع "القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل"، تحت البند السابع، على مستوى مجلس الأمن الدولي، ما يتيح لها تمويلاً دائماً، بعد أن كادت مشكلة التمويل أن تؤدي إلى تفكك مجموعة الساحل الخمس، التي تضم كلاً من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
وتراجع الاقتصاد الفرنسي بسبب وباء كورونا، واستنزاف الحرب على الإرهاب في الساحل لقدراتها العسكرية والمالية، يدفعان باريس للبحث عن "تدويل" النزاع من خلال إشراك أكبر عدد من الدول في القتال ضمن قوة "تاكوبا" التي تضم العشرات من القوات الخاصة الأوروبية، وتدريب الجيوش المحلية لتكون قادرة على مواجهة التنظيمات الجهادية، بهدف الانسحاب تدريجياً من مستنقع الساحل.
ويساهم الجيش الأمريكي بشكل فعال في الجانب الاستخباراتي بالساحل، وتأمل باريس توسيع واشنطن دعمها أكثر ليشمل الجانب المالي والميداني، ورفع عدد أفراد قوة "تاكوبا" لتصل إلى 2000 عنصر، بينهم 500 من فرنسا.
نفوذ فرنسا يهيمن على منطقة تعادل أربعة أضعاف مساحتها.. والشعوب تدفع الثمن
خلال السنوات الثماني الماضية، تزعمت فرنسا الحرب على الإرهاب في إفريقيا. وارتكز القتال بشكل أساسي على ثلاثة بلدان؛ وهي مالي، والنيجر، وبوركينافاسو، وامتد نفوذها على منطقة تزيد على مساحة فرنسا بأربعة أضعاف؛ من الكثبان الرملية الواقعة على الحافة الجنوبية للصحراء الكبرى وصولاً إلى أراضي أشجار الأكاسيا الشائكة بالساحل الإفريقي.
والحرب على الإرهاب تعد معركة وحشية. فخلال العام الماضي، أودى العنف المرتبط بالجهاديين بحياة نحو 6200 شخص. ونزح نحو مليوني شخص من ديارهم.
إن هذا النزاع ليس مأساوياً بالنسبة لأفقر بلدان العالم وأكثرها زيادة في عدد السكان فحسب. بل يهدد كذلك بنشر الفوضى في أرجاء البلدان الساحلية؛ مثل ساحل العاج، وغانا، وبنين وهي بلدان يمثل استقرارها ركيزة لأفق التقدّم الاقتصادي لهذا الجزء الهائل من قارة إفريقيا- إذا قُدِّر له التقدّم يوماً، حسبما ورد في تقرير لمجلة Economist البريطانية.
نجاحات تكتيكية ضد داعش ولكنْ طرف آخر استفاد
قبل عام وبمساعدة القادة في المنطقة، قاد إيمانويل ماكرون تصعيداً في الحرب على الإرهاب في محاولة لردع الجهاديين، إذ أرسل 600 جندي لتعزيز القوى الفرنسية في العملية المعروفة باسم عملية برخان، كي يبلغ قوامها 5100 فرد.
وبمساعدة الجيوش الوطنية في المنطقة، أحرزت القوات الفرنسية نجاحات تكتيكية كبيرة، بالأخص ضد تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى. وبتفجير معاقل التنظيم ومطاردة قوافلها المكونة من دراجات نارية وشاحنات صغيرة، زعزعت عملية برخان هذه المجموعة الجهادية.
ورغم تسديد الضربات للمسلحين على يد القوات الفرنسية، واصل آخرون ينتمون إلى تنظيم القاعدة أعمالهم. والحقيقة القاسية هي أن فرنسا تجد نفسها تقود حرباً ستكافح من أجل كسبها، ولا يشكر فضلها أحدٌ.
جيوش المنطقة قتلت من المدنيين أكثر مما فعل المسلحون
في الداخل الفرنسي تحظى عملية برخان بدعم الأحزاب المختلفة، ومع ذلك يرجّح استطلاع جديد أن أغلبية المصوّتين الفرنسيين معارضون حالياً للحرب.
وفي المنطقة التي شهدت دعم فرنسا لحكام مستبدّين أو غضت الطرف عن انقلابات في مستعمراتها السابقة، تواجه فرنسا معارضة مستمرة. يوم 16 فبراير/شباط، بعد قمة شملت زعماء بلدان الساحل الإفريقي، وعد ماكرون بأنه لن يسحب قواته على الفور، ولكنه قال أيضاً إن هذه "ليست حرباً أبدية".
وقد تحسنت أحوال جيوش المنطقة بشكل كبير منذ عام 2013، عندما اجتاح المتمردون والجهاديون شمال مالي وفي عاصمة البلاد باماكو. لكن تلك الجيوش ليست على استعداد لحشد جنودها وخوض معركة الحرب على الإرهاب دون دعم القوات الفرنسية، والقوة الجوية، والاستخبارات الأمريكية، وتدريب القوى الغربية.
فبالكاد تسيطر حكومة مالي على جزء كبير من شمال البلاد أو وسطها خارج أكبر مدنها، ويحدث ذلك بمساعدة قوة من الأمم المتحدة قوامها 15 ألف فرد.
وثمة حدود لقدرة الجنود الأجانب المدججين بالسلاح في الانتصار في الحرب على الإرهاب، حسبما تعلمت الجيوش الغربية في الصومال وأفغانستان. إذ إن الحكومات المحلية هي من يكسب الحرب أو يخسرها في نهاية المطاف. ومن ثمّ، فالأمر يعتمد على استعادة ثقة سكان الريف الذين أهملتهم الحكومة لفترة طويلة، والذين غالباً ما يرون الجهاديين أقل شراسة وفساداً من الدولة.
لذا يتعين على حكومات مالي والنيجر وبوركينا فاسو أن تبلي بلاءً أفضل مما تبليه حالياً من حيث توفير الخدمات؛ على غرار المياه النظيفة، والمدارس، والعيادات، فضلاً عن الحد من الكسب غير المشروع وانتهاكات حقوق الإنسان.
ففي العام الماضي، قُتل مدنيون في منطقة الساحل على أيدي جنود الحكومةخلال الحرب على الإرهاب يزيد عددهم عمن قتلوا على يد الجماعات المسلحة.
كيف يمكن الانتصار في الحرب على الإرهاب بهذه المنطقة؟
وإذا كانت فرنسا تريد من حكومات منطقة الساحل الإفريقي تحمّل المزيد من المسؤولية في الحرب على الإرهاب، فقد تضطر إلى قبول فكرة دخول قادة البلاد في محادثات سلام مع بعض الجهاديين الذين تقاتلهم، حسبما ورد في تقرير لمجلة Economist البريطانية.
لمح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إلى إمكانية التحاور مع بعض المجموعات الجهادية بالساحل، على غرار ما حدث بين واشنطن وطالبان في أفغانستان، وعبرت الجزائر عن تشجيعها لخطوة من هذا القبيل، لكن الرئيس الفرنسي رفض أي حوار مع هذه الأطراف.
والأطراف المقصودة بـ"الحوار"، ليست سوى إياد آغ غالي، زعيم تنظيم "أنصار الدين" من قبائل الطوارق بشمال مالي، ويقود حالياً تحالف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، المقربة من تنظيم القاعدة، وأيضاً أمادو كوفا، زعيم جماعة تحرير ماسينا، من قبيلة الفولاني وسط مالي، وهي جزء من هذا التحالف.
وتحاول عدة أطراف دولية عزل آغ غالي وكوفا، عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، وكتيبة المرابطين، وفتح باب للحوار والمصالحة، حسبما ورد في تقرير لوكالة "الأناضول".
لكن الرئيس الفرنسي الذي يشعر بأن موازين القوى بدأت تميل لصالحه بعد رحيل ترامب، أنهى حالة الجدل في هذا الشأن، قائلاً: "خلال الأسابيع الأخيرة عززنا التوافق مع محاورينا في دول الساحل، حول اعتبار أن إياد آغ غالي وأمادو كوفا عدوان، ولا يمكن أن يكونا بأي حال من الأحوال محاورين".
ويوضح موقع "صحراء ميديا" الموريتاني المتخصص في شؤون الساحل، أن الرفض الفرنسي جاء بعد أن قررت بوركينا فاسو الحوار مع تنظيمات فرعية في منطقة "دجيبو" في الشمال، كما سبق أن أعلنت مالي استعدادها للدخول في حوار مع بعض قادة القاعدة، وخاصة آغ غالي وكوفا.
وبينما تشترط باريس لقبول الحوار مع آغ غالي وكوفا، التخلي عن السلاح والتعهد بمحاربة بقية التنظيمات، تطالب جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بانسحاب القوات الفرنسية من المنطقة للجلوس على طاولة الحوار.
ويرفع كل طرف سقف شروطه قبل الإقدام على أي خطوة نحو الحوار، إلا أن فرنسا وحلفاءها سيعملون في المرحلة المقبلة على تحييد أو على الأقل تجميد نشاط جماعتي آغ غالي وكوفا، والتركيز على منطقة الحدود الثلاثة لتطهيرها بالكامل من تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" الذي يشكل أنشط فرع للتنظيم الجهادي بعد القضاء على مناطق سيطرته في العراق وسوريا وليبيا.
وبقدر رغبة ماكرون في إيجاد طريقة لإعادة القوات الفرنسية إلى الوطن، ثمة حاجة ماسة لوجود عدد كبير من أفرادها في منطقة الساحل لسنوات.
ومع ذلك من غير المعقول أن تتحمل فرنسا وحدها عبء القتال. فإذا انهارت دول الساحل الضعيفة بالفعل، ستتضرر المنطقة بأكملها، حسب مجلة Economist.
لذا فبإمكان البلدان ذات الجيوش الفعّالة مثل غانا، أن تفعل المزيد لحماية نفسها من خلال حماية جيرانها.
وقد قدم بعض حلفاء فرنسا في أوروبا يد العون عبر تزويدها بقوات كوماندوز صغيرة. وآخرون عليهم الوفاء بوعد الانضمام إلى تلك الجهود. لا أحد يريد أن يعلق في حرب أبدية. لكن ردع الجماعات المسلحة يحتاج القوات، والمال، والتعاون، وقبل كل شيء.. يحتاج الصبر.
ولكن رفضت الجزائر مؤخراً إرسال قوات للعمل تحت قيادة فرنسا في هذه المنطقة، إذ قالت وزارة الدفاع الجزائرية، الأحد 21 فبراير/شباط 2021، إن المعلومات المتداولة حول نيتها إرسال قوات للعمل تحت مظلة تحالف دولي، تقوده فرنسا، بمنطقة الساحل الإفريقي "مغلوطة"، وإن إقدام الجزائر على هذه الخطوة أمر غير وارد، وذلك بعد تداول معلومات عبر شبكات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الأخيرة، تفيد بوجود اتفاق بين فرنسا والجزائر حول إرسال الأخيرة جنوداً إلى الساحل الإفريقي في إطار قوة عسكرية تقودها باريس.