تحل الذكرى العاشرة لثورة الليبيين التي أطاحت بنظام معمر القذافي، وسط ميلاد أمل جديد في ابتعاد البلد الغني بالنفط عن المسار الخطأ الذي سارت فيه، لكن لا يزال الحذر هو السمة الأبرز للميلاد الجديد في ليبيا.
ففي مثل هذا اليوم عام 2011 خرجت مظاهرات شعبية ضد نظام القذافي الذي حكم ليبيا بالحديد والنار لأكثر من ثلاثة عقود، ومنذ اللحظة الأولى لخروج تلك المظاهرات كان القمع الوحشي هو الرد الوحيد من جانب النظام، ما أدى للتدخلات الأجنبية وصدور قرار من مجلس الأمن الدولي لتوفير الحماية للمدنيين، وانتهت الأمور بسقوط النظام ومقتل القذافي بالقرب من مسقط رأسه في سرت.
ومنذ ذلك الوقت فشل الليبيبون في توحيد أنفسهم حتى تم التوصل لاتفاق الصخيرات وتشكيل حكومة الوفاق عام 2015، التي انقلب عليها الجنرال خليفة حفتر وبدأ عدوانه على العاصمة طرابلس مطلع أبريل/نيسان 2019، وهو ما قسم البلاد على الأرض بين الشرق والغرب. لكن هزيمة ميليشيات حفتر وطردها من الغرب وإفشال طموح حفتر في فرض ديكتاتورية جديدة في البلاد فتح الباب مرة أخرى على العودة إلى المسار السياسي.
الذكرى العاشرة للثورة
ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبدء المفاوضات السياسية برعاية الأمم المتحدة، بدا أن غالبية الأطراف قد اقتنعت أخيراً بأن مسار الحرب لن يؤدي إلى تحقيق أي نتيجة لصالح أي من تلك الأطراف، وهكذا صمد وقف إطلاق النار، باستثناء خروقات متناثرة من وقت لآخر من جانب حفتر، في محاولة منه لتذكير الجميع بقدرته على إفشال الجهود السياسية مرة أخرى.
وهكذا تزامن حلول الذكرى العاشرة للثورة مع اختيار سلطة انتقالية موحدة تقود البلاد إلى إجراء انتخابات جديدة، في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وتم اختيار محمد يونس المنفي، وهو دبلوماسي ليبي لرئاسة المجلس الرئاسي، ورجل الأعمال عبدالحميد محمد الدبيبة لمنصب رئيس الوزراء، فهل تعني هذه التطورات أنه يمكن لشرق وغرب ليبيا أخيراً الاحتفال معاً بذكرى الثورة؟
طارق المجريسي، محلل الشؤون الليبية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أجاب عن السؤال لإذاعة Deutsche Welle الألمانية: "آمل ذلك. ففي أنحاء الدولة يرغب الناس في الاحتفال بيوم الثورة".
لكن المجريسي لفت أيضاً إلى أنَّ الليبيين من الشرق والغرب جمعهم شيءٌ مشترك بالفعل خلال الذكريات السنوية الماضية للثورة، "فقد كانت تُفبرَك محاولات الاحتفال في طرابلس، ويُقمَع أي شكل من أشكال الاحتفال في بنغازي لنفس السبب السياسي".
ففي طرابلس، تقدم السلطات نفسها على أنها "حراس الثورة" الذين تخلصوا من القذافي، ودافعوا عن المدينة ضد هجمات خليفة حفتر من الشرق، بحسب المجريسي، الذي أضاف: "حتى لو اتهمهم الناس بأنهم أنفسهم طغاة صغار".
بينما في بنغازي، الرسالة التي تسعى السلطات الشرقية -التي تُثبِط الاحتفالات- لإيصالها هي أنَّ الثورة فتحت الباب للتطرف الإسلامي، ولو كان الليبيون سيحتفلون بأي شيء فحكومة الشرق هي الأجدر بهذا الاحتفال، لأنها هي من حمت شرق ليبيا من هذا التهديد المفترض.
تحديات أمام سلطة ليبيا الجديدة
لكن بعيداً عن الاحتفال بذكرى الثورة من عدمه، تواجه السلطة الموحدة الجديدة تحديات كبيرة تجعل الأمل في قدرتها على إحداث تغيير حقيقي يريده الليبيون محل شك من البعض. وشكك تحليل لمعهد كارنيغي في قدرة السلطة التنفيذية الجديدة على مواجهة الانقسامات داخل المؤسسات الليبية أو الصراع المحتدم داخل التيارات المختلفة في تلك السلطة.
إذ تعرض المجلس الرئاسي الجديد لانتقادات بعد تشكيله، ففي تحليل كارنيغي الذي كتبه ولفرام لاتشر من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، وعماد الدين بديع من برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، قالا فيه إن المنتدى الذي انتخب المجلس الرئاسي "يُنظَر إليه على نطاق واسع على أنه مجموعة من السياسيين الانتهازيين والجشعين مع القليل من الشرعية أو التأثير".
وقال بديع لإذاعة Deutsche Welle: "من الصعب أن تكون إيجابياً. إذ يخلط الكثيرون بين توق الليبيين لتحقيق تغيير إيجابي -وهي من نواح كثيرة نتيجة ثانوية للإرهاق الناجم عن الصراع- مع النظرة الإيجابية للسلطة التنفيذية الجديدة.
وقال طارق المجريسي في السياق نفسه: "حقيقة أننا في نفس المكان بالضبط -مع فقدان المزيد من عشرات الآلاف من الأرواح، وتدمير حياة بضعة ملايين آخرين، وحالة الدولة التي يرثى لها- ليس سبباً يستدعي الاحتفال". وأضاف أنَّ ليبيا تبدو أحياناً وكأنها تدور في حلقات مفرغة، معرباً عن اعتقاده بأنَّ الليبيين أنفسهم يشعرون بالعجز واستسلموا لقدرهم.
وفي هذا السياق، تؤكد آسيا الجعفري، الصحفية التي تراقب الشبكات الاجتماعية لصالح المركز الليبي لحرية الصحافة، أنَّ "الناس في الشارع يشعرون بالسلبية، لكن كل منهم لأسباب مختلفة: من لم يؤيدوا الثورة يقارنون الوضع اليوم بما كان عليه عندما كان القذافي في السلطة، ويقولون إنَّ الثورة فشلت؛ ومن دعموها متشائمون لما حدث بعد ذلك، لأنه كان أسوأ من توقعاتهم".
وتابع المجريسي قائلاً، في إشارة إلى الحكومة الجديدة المقترحة: "لكنها الفرصة التي تمنحني والآخرين الأمل". وأضاف: "طالما استمرت الفرص في تكرار نفسها، فعلى الأقل لدينا خيار التغيير. لأول مرة منذ 50 عاماً، [بعد القذافي]، كان الليبيون أحراراً في رسم طريقهم بأنفسهم. وحقيقة أنهم رسموا الطريق الذي أدى مباشرة إلى الحرب ليست النتيجة الأكثر إيجابية. ومع ذلك فإنَّ حقيقة وجود الحرية وبقاء الأمل… هي الهدية الحقيقية للثورة".
التدخلات الخارجية في ليبيا
ويعتقد فريق من المحللين أن الأطراف الخارجية الفاعلة في ليبيا تظل أبرز التحديات أمام خروج ليبيا من الدائرة المفرغة التي تدور فيها طوال العقد الماضي. وهذا ما عبر عنه أرتورو فارفيللي، رئيس مكتب روما التابع للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، الذي يُجري أبحاثاً في السياسة الليبية منذ عام 2002.
ففي تصريح لإذاعة Deutsche Welle، قال فارفيللي: "أصبحت الأزمة الليبية شكلاً من الحرب بالوكالة. وأعتقد أنَّ هذه هي أكبر مشكلة تواجه ليبيا حالياً: محاولة احتواء الفاعلين من المنطقة، الذين يتبنى الكثير منهم وجهات نظر مختلفة عن ليبيا".
وأعرب فارفيللي عن اعتقاده بأنَّ العديد من القوى الأجنبية مثل تركيا التي تدعم حكومة الوفاق المعترف بها دولياً في طرابلس، وروسيا التي لديها "جنود على الأرض"، والتي تدعم حفتر مع مصر والإمارات، تخطط للبقاء، قائلاً: "لسوء الحظ أخشى أنه من غير المحتمل أن يغادروا بعد دعوة بسيطة من الأمم المتحدة، أو بسبب حكومة الوحدة الوطنية الجديدة".