تتعرض مدينة بابل أكبر وأعظم مدن العالم القديم إلى خطر جسيم، بعد أن توالي عليها الغزاة والكوارث والأزمات.
وعلى الرغم من انشغال العراقيين بالوضع الأمني الهشّ في البلاد والمشاكل السياسية والمالية الملحة، لا يزالون يشعرون بارتباط عميق بتلك المدينة، حسبما ورد في تقرير نشرته صحيفة The Independent البريطانية، بتصريح من صحيفة The New York Times الأمريكية.
بابل أكبر مدينة في العالم القديم
أَسَّس شعب ناطق باللغة الأكادية في جنوب بلاد ما بين النهرين المدينة حوالي عام 2300 قبل الميلاد، وأطلقوا عليها اسم بابل، وتعني في اللغة الأكادية "بوابة الإله".
ويعتقد أن بابل التي كانت عاصمة للإمبراطورية التي تحمل اسمها كانت أكبر مدينة في العالم في الفترة بين عامي 1770 إلى 1670 قبل الميلاد، ومرة أخرى من بين عامي 612 و320 قبل الميلاد، وربما كانت أول مدينة في العالم وصل عدد سكانها إلى أكثر من 200 ألف نسمة.
يقول عالم الآثار العراقي عمار الطائي، البالغ من العمر 29 عاماً عن المدينة: "هذا تراث العراق ويتعيَّن علينا إنقاذه".
يعمل الطائي، من ضمن جيل جديد من علماء الآثار، لصالح الحكومة العراقية مع الصندوق العالمي لحماية الآثار والتراث في مشروع يهدف إلى الحد من الأضرار التي تلحق بأحد أشهر المواقع الأثرية في العالم.
كانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) قد أدرجت مدينة بابل الأثرية -بعد سنوات من الجهود العراقية- ضمن قائمة مواقع التراث العالمي في يوليو/تموز 2019، اعترافاً بالقيمة الثقافية العالمية الاستثنائية لتلك المدينة التاريخية التي كانت تُعتبر أكثر المدن المبهرة في العالم القديم.
وكانت المدينة ضمن المواقع المرشحة للانضمام لقائمة التراث العالمي منذ عام 1985، ولكن استبعدتها اليونسكو من القائمة، بسبب التلاعب بمعالم المدينة الأثرية، وتغيير بعضها عبر إعادة بناء بعض الأجزاء دون الالتزام بالأسلوب العلمي؛ برغم محاولات العراق المستمرة منذ 35 عاماً لضمها للمؤسسة التراثية.
ومنذ 1983، قدَّمت السلطات العراقية جهوداً كبيرة لإعادة الموقع إلى القائمة مرة أخرى، وطرحت الملف خمس مرات، حتى كُللت تلك الجهود بالنجاح في النهاية.
باتت في حالة يرثى لها ولكن قلوب العراقيين معلقة بها
أصبحت بابل الآن، مثل العديد من المواقع الأثرية في العراق، في حالة يرثى لها. تسبّبت أعمال البناء والإنشاءات وحفر خطوط أنابيب النفط في تداعي الجدران، فضلاً عن كونها تهدد مناطق شاسعة من المدينة الضخمة غير المكتشفة إلى حدٍّ كبير.
بدأ الشباب العراقي، الذين لم يروا معظم تراث بلادهم، يأتون لزيارة المدينة الأثرية بعد سنوات من الصراع العنيف الذي مزّق وطنهم.
في عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة، توقف أحمد جواد وأصدقاؤه من كلية الفنون الجميلة لالتقاط صور شخصية "سيلفي" أثناء التجوّل في شارع الموكب البابلي، حيث استعرض الملوك البابليون تماثيل لآلهتهم.
يشعر جواد، مثل الكثير من العراقيين، بأنَّ ماضي المدينة ليس مجرد تاريخ عراقي قديم بل جزء من تاريخه شخصياً. يقول جواد (23 عاماً): "الآثار جميلة. رؤيتها تسعد روحي".
عانت هذه المدينة العريقة على مدار مئات السنين حتى منتصف القرن العشرين من ممارسات سكان القرى المحيطة، حيث كانوا يفكّكون جدرانها لاستخدام الطوب القديم في مشاريع بناء خاصة بهم.
وعلى الرغم من أنَّ بعض جدران المدينة لا تزال قائمة بنقوشها الطينية للتنانين والثيران المرتبطة بالآلهة، يعزز ارتفاع منسوب المياه الجوفية خطر انهيار الجدران بأكملها. يُقدّر المتخصصون في مجال الحفاظ على المواقع الأثرية وترميمها أنَّ تركيب نظام لمنع تسرب المياه أمر سيبلغ تكلفته عشرات الملايين من الدولارات.
يقول جيف ألين، الخبير في مجال الحفاظ على الآثار الذي قاد مشروع الصندوق العالمي للآثار والتراث في العراق منذ عام 2009: "يتعرّض الطوب في هذه المنطقة للمياه والجفاف وارتفاع نسبة الأملاح، الأمر الذي يؤدي تآكله وانهياره حتى بمجرد اللمس".
المشكلة في أفعال البشر
ومع ذلك، تبقى أكبر الأخطار المُهدّدة لهذه المنطقة الأثرية الهشة من أفعال الإنسان، كما كان الحال غالباً بالنسبة لبابل على مر السنين.
تبني وزارة النفط العراقية داخل أسوار مدينة بابل الخارجية محطة قياس لواحد من خطوط الأنابيب الثلاثة التي بنيت في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى أنَّ تشييد المنازل الخاصة يتزايد داخل محيط الموقع.
بينما بذل المسؤولون العراقيون قصارى جهدهم لحماية بابل أثناء فترة التنافس لتلبية شروط منظمة اليونسكو من أجل تصنيفها موقعاً للتراث العالمي، يبدو أنَّ هذه الجهود قد تراجعت منذ ذلك الحين.
يقول جيف ألين: "استطاعت الهيئة العامة للآثار والتراث في العراق جعل الناس يتصرفون على نحوٍ أفضل من أجل إدراج بابل على لائحة التراث العالمي. لكن بات واضحاً الآن عجز الحكومة عن إيقاف حتى عمليات البناء غير القانونية".
الأمريكان بنوا قاعدة عسكرية داخلها
بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بنى مقاولون عسكريون أمريكيون قاعدة داخل المدينة الأثرية، الأمر الذي تطلب حفر خنادق وقيادة عربات مدرعة في شوارعها الهشة. وقد أفاد تقرير صادر عن المتحف البريطاني بأنَّ كل هذه الأعمال ألحقت أضراراً كبيرة ببابل.
تجدر الإشارة إلى أنَّ ذلك لم يكن التعدي الأول على المدينة.
أنشأ البريطانيون، في عشرينيات القرن الماضي، سككاً حديدية عبر هذا الموقع الأثري في جزء من خط سكة حديد من بغداد إلى البصرة. وكانت الحكومة العراقية قد بنت في وقتٍ لاحق طريقاً سريعاً مجاوراً.
صدام حسين أراد إنقاذها فأضرّها
في ثمانينيات القرن الماضي، أمر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي كان يرى نفسه خليفة للملك البابلي نبوخذ نصر، ببناء قصر ضخم يطل على أطلال مدينة بابل. في الوقت نفسه، أمر بإعادة تشييد أجزاء من تلك المدينة التاريخية الأثرية، وهو ما أدَّى إلى معظم المشاكل الحالية المعرقلة لجهود الحفاظ على المدينة.
خلال عملية إعادة تشييد أجزاء من مدينة بابل، جرى تثبيت طوب جديد أثقل وزناً فوق الطوب الأصلي القديم الأقل وزناً. وتسبّبت الأرضيات الإسمنتية في احتجاز المياه في حين أدى تثبيت سقف إسمنتي على أحد المعابد القديمة إلى هبوط هيكل المعبد بأكمله نحو الأسفل.
تقول جوزفين ديلاريو، متخصصة إيطالية في العمارة الطينية تعمل في الموقع: "كان معتاداً خلال فترة السبعينيات والثمانينيات استخدام الإسمنت، لكننا اكتشفنا الآن أنَّه يلحق الضرر بالمعالم الأثرية".
عاد فريق الصندوق العالمي للآثار والتراث إلى بابل ليقرر في إطار مشروع "مستقبل بابل" أفضل السبل لمعالجة بعض هذه الأضرار التي لحقت بالمدينة، وذلك بعد تأخير دام عاماً بسبب جائحة فيروس كورونا.
عمل مشروع "مستقبل بابل" التابع للصندوق العالمي للآثار والتراث، والمموّل جزئياً من وزارة الخارجية الأمريكية، على تدعيم الجدران المعرضة لخطر الانهيار وثبّت تمثال "أسد بابل" الأيقوني. قدَّم المشروع أيضاً تدريباً للفنيين العراقيين العاملين في مجال ترميم الآثار وأسدى نصائح بشأن كيفية إدارة هذا الموقع الأثري.
وقبل آلاف السنين، دمرها الفرس
كانت مدينة بابل، التي يبلغ عمرها 4000 عام وورد ذكرها مئات المرات في الكتاب المقدس، عاصمة الإمبراطورية البابلية القديمة واُعتبرت أكبر مدينة في العالم القديم.
سقطت الإمبراطورية البابلية في عام 539 قبل الميلاد على يد الإمبراطورية الفارسية، وكان هذا نهاية مجد المدينة.
تحايل كورش الكبير، ملك بلاد فارس على جدران بابل المنيعة.
كان الطريق الوحيد إلى المدينة عبر إحدى بواباتها العديدة أو عبر نهر الفرات، ولكن البابليين كانوا قد احتاطوا لاحتمال الدخول عبر النهر عبر تركيب شبكات معدنية تحت الماء، ما يسمح للنهر بالتدفق عبر أسوار المدينة مع منع التسلل الأعداء.
ولكن ابتكر الفرس خطة لدخول المدينة عبر النهر، فخلال عيد وطني بابلي، حولت قوات كورش نهر الفرات، ما سمح للجنود الفرس بدخول المدينة من خلال المياه المنخفضة. احتل الجيش الفارسي المناطق النائية للمدينة بينما كان غالبية البابليين في وسط المدينة غير مدركين لهذا الاختراق، حسب ما ورد في رواية المؤرخ الإغريقي هيرودوت.
ثم بعد قرنين من الزمان، وقعت المدينة تحت سيطرة الإسكندر الأكبر الذي توفي هناك وهُجرت بابل في نهاية المطاف بعد انهيار إمبراطوريته.
بالنسبة لمدينة حظت بشهرة كبيرة ومكانة بارزة في مخيلة العالم، لا تزال الكثير من المعلومات غائبة. على سبيل المثال، لم يكشف أي دليل أثري عن حدائق بابل المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم.
يقول أولوف بيدرسن، أستاذ فخري في علم الآشوريات بجامعة "أوبسالا" السويدية ومستشار الصندوق العالمي للآثار والتراث: "لا نعرف الكثير عن معظم المدينة، ثمة طبقات كاملة من المدينة تحت الأرض وتحت الماء؛ لأنَّ الملك نبوخذ نصر كان يبني القصور والمعابد فوق سابقاتها".
وأضاف: "لا يسعنا سوى تخمين مدى العمق الذي كانت عليه، أما فيما يتعلق بحجم الكنوز التي قد تكون مدفونة، لا أحد يعرف شيئاً في هذا الصدد".