كما كان متوقعاً فشل مجلس الشيوخ الأمريكي في إدانة الرئيس السابق دونالد ترامب بتهمة تحريض أنصاره على اقتحام الكونغرس، فمَن ربح ومَن خسر من تبرئة الرجل المثير للجدل للمرة الثانية؟
قبل التوقف عند قائمة الرابحين والخاسرين في تلك المحاكمة التاريخية للرئيس السابق وهي الثانية له، من المهم التوقف عما حدث في الساعات التي سبقت صدور الحكم مساء السبت 13 فبراير/شباط في كواليس قاعة المحاكمة وبصفة خاصة في قضية استدعاء شهود للإدلاء بشهادتهم أمام أمام هيئة المحلفين المؤلفة من أعضاء مجلس الشيوخ وعددهم 100 بالتمام والكمال.
فوضى استدعاء الشهود في آخر لحظة
شهد اليوم الأخير من محاكمة ترامب ارتباكاً كبيراً في قضية استدعاء شهود، إذ أراد رئيس فريق المدعين النائب الديمقراطي جيم راسكين استدعاء النائبة الجمهورية جيمي هيريرا بوتلر لتدلي بشهادتها أمام مجلس الشيوخ رسمياً، وصوّت المجلس بالفعل صباح السبت لصالح استدعاء شهود (بأغلبية 55 مقابل رفض 45 سيناتوراً)، وهو ما كان يعني أن المحاكمة سوف تمتد لأيام وربما أسابيع أخرى.
لكن بمجرد التصويت على قرار استدعاء شهود، اختلفت أجواء المحاكمة وتحول الموقف كله إلى مناقشات خلف الأبواب المغلقة نتج عنها التراجع من جانب راسكين وفريقه (ممثلو الادعاء في المحاكمة) عن استدعاء الشاهدة مقابل موافقة فريق الدفاع عن ترامب إدراج شهادتها في السجل الرسمي للمحاكمة، وهكذا انتهت المحاكمة بالتصويت على القرار، والذي جاء لصالح تبرئة ترامب بعد أن صوت 43 سيناتوراً جمهورياً ضد إدانته، مقابل تصويت 57 لصالح الإدانة (50 ديمقراطياً + 7 جمهوريين).
شهادة النائبة الجمهورية تخصّ مكالمة أجراها زعيم الجمهوريين في مجلس النواب كيفين مكارثي يوم 6 يناير/كانون الثاني أثناء اقتحام أنصار ترامب للكونغرس، حيث طالب مكارثي ترامب (وكان الرئيس وقتها) بمطالبة أنصاره بالتوقف فوراً ومغادرة الكونغرس، لكن ترامب رفض وكانت المكالمة ساخنة وشهدت صياحاً وتبادلاً للاتهامات بين الرجلين، بحسب ما قاله مكارثي للنائبة الجمهورية في ذلك اليوم.
وكان يريد راسكين استدعاء بوتلر لتدلي بتلك الشهادة؛ لأن هناك فارقاً ضخماً بين الشهادة الحية والشهادة المكتوبة في أوراق القضية، لكن فريق الدفاع عن ترامب هدد باستدعاء عشرات الشهود ومنهم نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب وغيرها، بحسب ما نقلته وسائل الإعلام المحلية عما دار في الكواليس بين الطرفين الجمهوري والديمقراطي، وهو ما أدى في النهاية لتراجع راسكين وفريقه عن استدعاء شهود وهكذا تم إنهاء المحاكمة وتبرئة ترامب رغم اقتناع الغالبية بأنه مسؤول عن التحريض على اقتحام الكونغرس بالفعل، بحسب تصريحات زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل نفسه.
ترامب الرابح الوحيد
تبرئة ترامب شهدت رابحاً وحيداً، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي ووسائل إعلام أمريكية أخرى، وهو بالطبع ترامب نفسه، وانعكس ذلك بشكل واضح في ظهوره أخيراً بتصريحات المنتصر بعد أن كان مختفياً تماماً عن الأضواء منذ مغادرته البيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي.
وقالت ترامب: "أريد أن أشكر فريقي من المحامين المخلصين وآخرين أيضاً لجهودهم الدؤوبة للحفاظ على العدالة والدفاع عن الحقيقة. وأوجه شكري العميق لأعضاء مجلس الشيوخ والنواب الذين وقفوا بفخر في جانب الدستور الذي نجلّه جميعاً ونشروا المبادئ القانونية المقدسة في قلب بلدنا.
"لم يكن هذا (محاكمته) سوى فصل جديد في أعظم مطاردة في تاريخ بلدنا، إذ لم يتعرض رئيس لأي شيء كهذا أبداً وهذه المطاردة مستمرة لأن معارضينا لا يمكنهم أن ينسوا أن نحو 75 مليون شخص، أعلى رقم على الإطلاق يصوت لإعادة انتخاب رئيس لفترة ثانية، صوتوا لصالحي في الأشهر القليلة الماضية (انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني التي فاز بها جو بايدن بفارق أكثر من 7 ملايين صوت عن ترامب)".
تصريحات ترامب هي الأولى منذ بدأت المحاكمة، وحرص فيها على الحديث عن مستقبله السياسي عندما قال: "لقد بدأت للتو حركتنا التاريخية الوطنية الجميلة لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. وفي الشهور المقبلة سيكون لديّ الكثير لأشاركه معكم وأتطلع لمواصلة رحلتنا المذهلة معا لتحقيق عظمة أمريكا لكل الناس. لم يكن هناك أبداً أي شيء مثل حركتنا!"، بحسب شبكة Fox اليمينية المفضلة لترامب.
الحزب الجمهوري أبرز الخاسرين
لكن ما كشف عنه اليوم الأخير من محاكمة ترامب وتبرئته يكشف عن مدى الانقسام الذي يعاني منه الحزب الجمهوري، ويرى البعض أن الحزب قد يكون خاسراً من تبرئة ترامب. إذ على الرغم من تصويت 43 سيناتوراً جمهورياً لصالح تبرئة ترامب، جاءت تصريحات زعيمهم ماكونيل لتكشف عن ذلك الانقسام.
ماكونيل قال أمام مجلس الشيوخ: "إن أفعال الرئيس السابق ترامب قبل الشغب (اقتحام الكونغرس) كانت تخلياً مخزياً عن واجباته كرئيس. وأي شخص ينتقد سلوكه البشع يتهم بأنه يهين ملايين الناخبين وهذا تحريف عبثي للحقيقة. لم يقتحم الكونغرس 74 مليون أمريكي بل اقتحمه مئات من المشاغبين. ولم يقف وراء حملة التضليل والغضب الناتج عنها 74 مليون أمريكي بل شخص واحد فقط هو من فعل هذا".
ورسالة ماكونيل واضحة، بحسب تحليل لشبكة CNN اليسارية المنتقدة لترامب بشدة، وهي أن ترامب لا يمكن أن يمثل مستقبل الحزب الجمهوري، لكن مدى شعبيته بين قواعد الحزب وكم من المشرعين الجمهوريين أمثال ليندسي غراهام (أبرز داعم لترامب) سيواصلون دعمهم لترامب في مواجهة ماكونيل في الأيام والشهور القادمة حتى انتخابات الكونغرس في العام المقبل 2022 ستكشف عن مدى الانقسام داخل صفوف الحزب ومدى قدرة أي من التيارين على حسم الأمور لصالحه.
الحزب الديمقراطي أيضاً من الخاسرين
لكن الواضح أن الحزب الجمهوري ليس الخاسر الوحيد، ففشل الحزب الديمقراطي في إدانة ترامب للمرة الثانية يمثل خسارة للحزب أيضاً قد تتسبب في اتساع الفجوة بين جناحي الحزب الحاليين من جناح وسط اليسار المحافظ الذي يمثله بايدن وتيار اليسار الاشتراكي الذي يمثله بيرني ساندرز. وبعيداً عن قمة الحزب، فإن القواعد تشعر بالإحباط بسبب التراجع عن استدعاء الشهود ومواصلة محاكمة ترامب حتى إقناع العدد اللازم من الجمهوريين بالتصويت لإدانته، بحسب تقرير لموقع Vox حول الرابحين والخاسرين من تبرئة ترامب.
لكن قائمة الخاسرين مما حدث في محاكمة ترامب الثانية وتبرئته من تهمة التحريض على العصيان رغم توفر كماً هائلاً من الأدلة لا تقتصر فقط على الحزبين الكبيرين في واشنطن، بل تمتد لتشمل الديمقراطية الأمريكية ذاتها والدستور ومجلس الشيوخ.
وقد عبر بايدن نفسه عن "مدى هشاشة" الديمقراطية الأمريكية في معرض تعليقه على تبرئة سلفه، إذ قال في بيان صدر بعد ساعات من صدور حكم البراءة: "هذا الفصل المحزن في تاريخنا يذكرنا بأن الديمقراطية هشة"، مضيفاً: "رغم أن التصويت النهائي لم يؤدِّ إلى إدانة، فإن مضمون التهمة ليس موضع خلاف"، مستشهداً بما قاله ماكونيل.
وانصبت تعليقات المحللين على نقطة هامة تتعلق بمدى قدرة النظام الأمريكي على محاسبة الرئيس الذي يتصرف وكأنه فوق القانون ومدى ما يمثله ذلك من نقطة ضعف خطيرة تحتاج للتعديل، لكن هذا التعديل الدستوري في حد ذاته لا توجد وسيلة أخرى لإقراره سوى توافق بين الحزبين وهو ما ليس متوفراً ولا يبدو أنه يمكن أن يتوفر في ظل النظام الحالي وتلك هي المعضلة الكبرى.