تمثل الضرائب أهم مصدر لدخل الحكومات، إذ تجمع نصف الدول أكثر من 80% من دخلها من الضرائب، وفي جميع الدول تقريباً لا تقل النسبة عن 50%، لكن يتفاوت تحصيل الضرائب والقوانين المنظِّمة لها، بدرجة كبيرة بين دولة وأخرى.
وبحسب أحدث تقارير المركز الدولي للضريبة والتنمية، يعتبر نمو الحكومات ومدى ما يمكنها جمعه من مواطنيها من ضرائب، أبرز السمات الاقتصادية على مدى القرنين الماضيين، كما تكشف البيانات على المدى الطويل، أن عملية التنمية شهدت قيام الدول برفع مستويات الضرائب، وفي الوقت نفسه تغيرت أنماط فرض الضرائب لتركز أكثر على قاعدةٍ أكبر من المواطنين مقابل تخفيضها للفئة الأصغر من الأغنياء وأصحاب الأعمال.
التهرب الضريبي في الدول النامية
ومن أبرز ما تكشفه تلك البيانات، الاختلافات الكبيرة في أنماط فرض وتحصيل الضرائب حول العالم، خصوصاً بين الدول المتقدمة من جهة والدول النامية من جهة أخرى. وبصورة أكثر تحديداً، تعتمد الدول المتقدمة حالياً على الضرائب كمصدر دخل رئيسي لها مقارنة بالدول النامية، والاختلاف الآخر يتمثل في أن الدول المتقدمة تعتمد أكثر على تحصيل الضرائب المفروضة على الدخل، بينما تعتمد الدول النامية بصورةٍ أكبر على الضرائب التجارية والضرائب التي تفرضها على السلع الاستهلاكية.
كما تُظهر البيانات أن الدول المتقدمة تحصّل إيرادات أعلى بكثير من الضرائب، مقارنة بما تحصله الدول النامية، على الرغم من أن القوانين والنظم الضريبية متشابهة بينهما.
وتُظهر هذه الأنماط الضريبية من حيث الإيرادات ونوعية الضرائب المفروضة، أن مدى قوة المؤسسات الحكومية وتماسكها ووجود أجهزة رقابية تطارد الفساد وتحاسب التهرب الضريبي بشكل صارم وعادل، يمثل حجر الزاوية ليس فقط في التنمية بجوانبها المتعددة ولكن أيضاً في مدى قدرة الدولة على مواجهة متطلبات الإنفاق، وبصفة خاصة في أوقات الأزمات مثل جائحة كورونا الحالية.
نقطة مهمة أخرى تُظهرها البيانات التاريخية للضرائب حول العالم وهي القفزة المطردة في نسبة دخل الضرائب من الدخل الإجمالي للدول بشكل عام منذ بداية القرن الماضي، فحتى عام 1910 كانت تلك النسبة أقل من 10%، لكن بعد الحرب العالمية الأولى، وفي الفترة من 1920 وحتى 1980 تضاعفت تلك النسبة مرات، وتزامن ذلك مع اضطلاع الحكومات بمسؤوليات أكبر، خصوصاً في مجالات توفير التعليم والرعاية الصحية.
ومنذ 1980 حتى اليوم، بدأ دخل الحكومات من الضرائب يستقر وإن كانت هناك اختلافات كبيرة وتفاوُت من دولة لأخرى، وتتوافر البيانات التفصيلية لبيانات الضرائب في الدول الغربية والولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات بصورة عامة، بينما تكون تفاصيل تلك البيانات أقل توافراً في الدول النامية.
الصين على سبيل المثال، من الدول التي ضاعفت ضريبة الدخل على الأفراد والمؤسسات في الفترة من 2000 حتى 2012، بينما تُظهر بيانات الضرائب بالولايات المتحدة انخفاضاً في الضرائب المفروضة على الأغنياء والشركات الكبرى بصورة مطردة خلال العقود الأربعة الأخيرة.
نتائج خفض الضرائب على الأغنياء
وهناك رؤيتان فيما يتعلق بقيمة الضرائب المفروضة على الأغنياء والشركات الكبرى: الرؤية الأولى تدفع بمنطق أن تخفيض ضريبة الدخل على تلك الشريحة يشجع على تقليل البطالة وتوفير فرص العمل؛ وبالتالي يستفيد منها الغالبية من المواطنين في البلد بشكل مباشر. أما الرؤية الثانية فتطالب بالعكس، أي زيادة الضرائب على الشركات والأغنياء مقابل تخفيضها عن غالبية المواطنين من أصحاب الدخول الصغيرة والمتوسطة، فأي الرؤيتين أنجح؟
الإجابة جاءت في صورة دراسة جديدة أجرتها كلية لندن للاقتصاد، تقول إن التخفيضات الضريبية على الأثرياء ساعدت بالفعل فئة واحدة وهي فئة الأثرياء أنفسهم.
وقد فحصت تلك الورقة البحثية 18 بلداً متقدماً، من أستراليا وصولاً إلى الولايات المتحدة، على مدى 50 عاماً بين عامي 1965 و2015، وأجرى هذه الدراسة ديفيد هاوب، المحاضر في الاقتصاد السياسي لدى كلية لندن للاقتصاد. وتقارن الدراسة بين البلاد التي مرَّرت خفضاً ضريبياً في سنة محددة، مثل الولايات المتحدة في عام 1982، عندما قلَّص الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان الضرائب على الأثرياء، والبلاد الأخرى التي لم تمرر أي خفض ضريبي، ثم فحص النتائج الاقتصادية لكلا النوعين.
ووجدت الدراسة أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات البطالة في البلاد التي قلصت الضرائب المستحقة على الأغنياء، كان متطابقاً تقريباً، بعد مرور خمس سنوات، مع البلاد الأخرى التي لم تفعل، بحسب تقرير لشبكة CBS الأمريكية.
لكن الدراسة التحليلية وجدت تغيراً رئيسياً: زادت دخول الأثرياء بصورة أسرع بكثير في البلاد التي كانت معدلاتها الضريبية مُخفَّضة، وبدلاً من أن تطل بثمارها على أبناء الطبقات الوسطى، فربما لم يحقق الخفض الضريبي شيئاً خلافاً لمساعدة الأثرياء على زيادة ثرواتهم وفاقم انعدام المساواة في الدخول.
وقال جوليان ليمبرج، المحاضر في السياسة العامة لدى كلية لندن للاقتصاد والذي ساعد في تأليف الدراسة: "استناداً إلى بحوثنا، نستطيع أن نقول إن المنطق الاقتصادي وراء إبقاء الضرائب على الأثرياء منخفضة، يبدو منطقاً ضعيفاً"، وذلك في رسالة بريد إلكتروني مُرسلة إلى موقع MoneyWatch التابع لشبكة CBS. وأضاف في رسالته: "في واقع الأمر، إذا نظرنا إلى ما سلف في التاريخ، فسنجد أن الحقبة التي شهدت أعلى مستوى ضرائب على الأغنياء -والتي تلت الحرب- هي كذلك الحقبة ذات النمو الاقتصادي المرتفع وذات مستوى البطالة المنخفض".
وتوقَّف التحليل في عام 2015، فلم يتضمن البحث الإصلاح الضريبي الكبير الذي وقّع على تمريره الرئيس السابق دونالد ترامب، بوصفه تشريعاً، في أواخر 2017، والذي قلَّص الضرائب على الأثرياء والشركات، وفي الوقت ذاته تضمَّن خفضاً ضريبياً بسيطاً على الطبقة المتوسطة.
لكنَّ تقريراً أصدره معهد دراسات السياسة، وهو أحد المعاهد البحثية ذات المصداقية العالية في واشنطن، بعنوان "بونانزا المليارديرات 2020: مكاسب الثروة ورفع الضرائب والمتربحين من الوباء"، أظهر بالأرقام كيف استفاد أصحاب الثروات من التخفيضات الضريبية التي تم إقرارها منذ 2017 والتي شملها تخفيض آخر بسبب جائحة كورونا، بينما ازداد المواطنون فقراً.
هل تخفيض ضرائب الأغنياء محرك لنمو اقتصادي أقوى؟
بحسب شبكة CBS، كان الاقتصاد بكل تأكيد يسير على ما يرام قبل أن تضرب الجائحة الولايات المتحدة، إذ وصلت معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها منذ نحو نصف قرن من الزمان. أشارت المراكز الفكرية، مثل معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة (AEI)، إلى الخفض الضريبي الذي أدخله ترامب، بوصفه محركاً لنمو اقتصادي أقوى.
ومع ذلك، واجهت ملايين من العائلات الأمريكية صعوبات في العثور على وظائف تدفع أجوراً تكفي نفقات المعيشة، في وقت ارتفعت فيه تكاليف الضروريات، مثل الرعاية الصحية والإسكان والتعليم، ارتفاعاً أسرع بكثير من الدخل المعتاد. وحتى قبل الجائحة، وصلت معدلات انعدام المساواة في الدخول إلى أعلى مستوى لها في 50 عاماً، وذلك بحسب بيانات مكتب تعداد الولايات المتحدة.
وفي عام 2020، فاقمت الجائحة من انعدام المساواة لمختلف الأطياف، على صعيد العِرق والنوع الاجتماعي والانقسامات التعليمية، وعندما تعرَّض الاقتصاد في الولايات المتحدة لحالة إغلاق في مارس/آذار، كان الأكثر تأثراً هم العمال غير القادرين على الانتقال للعمل عن بعد، وهم عادةً العمال أصحاب الأجور الأقل الذين يعملون في وظائف قطاع التجزئة والخدمات والضيافة.
وفي الوقت ذاته، كان الموظفون من أصحاب الياقات البيضاء أفضل حالاً؛ نظراً إلى أنهم كانوا أقرب إلى الإبقاء على وظائفهم عن طريق التحول إلى العمل عن بعد. استفاد المستثمرون كذلك، لأن أسواق الأسهم والسندات احتشدت وراء آمال حدوث تعافٍ اقتصادي، وهو تطور لا يساعد عمال الطبقات المتوسطة والطبقات الدنيا. وبحسب شبكة CBS، يستثمر في أسواق الأسهم والسندات نحو نصف الأمريكيين فقط، وذلك عن طريق مدخرات تقاعدهم. وحتى في ظل هذه النسبة، تؤول ملكية 80% من جميع الأسهم والسندات إلى الـ10% الأكثر ثراء في الولايات المتحدة.
وفي غضون ذلك، وقع 8 ملايين أمريكي في براثن الفقر منذ بداية الجائحة وحتى نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وذلك وفقاً لبيانات نشرتها جامعة شيكاغو وجامعة نوتردام.
وأوضح تقرير CBS، أن إعادة بناء الاقتصاد وثروات الأسر من الطبقات الدنيا والطبقات المتوسطة، تأتي ضمن الموضوعات التي تعترض طريق الرئيس جو بايدن، ويمكن أن توفر زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات تريليونات الدولارات من الموارد اللازمة لمساعدة تعافي الاقتصاد، حسبما أوضح جيبرييل زوكمان، الخبير الاقتصادي لدى جامعة كاليفورنيا بيركلي، في حديثه مع موقع MoneyWatch.
إذ قال زوكمان: "ليس هذا خياراً مجدياً وحسب، بل إنه خيارٌ عادلٌ كذلك، لأن بعض دافعي الضرائب الأثرياء استفادوا من الجائحة، ومن بينهم على سبيل المثال الشركات الكبرى مثل أمازون، وحاملو أسهم هذه الشركات. يمكن أن يُطلب من دافعي الضرائب هؤلاء طلباً معقولاً بأن يدفعوا (ضرائب) أكثر ليُعوِّضوا خسائر الجائحة".