عشر سنوات انقضت منذ ثورة الليبيين على نظام معمر القذافي، واليوم تعاني البلاد من انقسام سياسي وانهيار اقتصادي، فهل يؤدي الاتفاق الحالي إلى بداية جديدة لليبيا الغنية بالنفط بينما يعاني معظم شعبها من الفقر؟
بعد أن اندلعت الثورة ضد نظام القذافي، في فبراير/شباط 2011، واستخدام نظامه للقوة الغاشمة لقمع الثوار، تدخلت قوات عسكرية دولية بقيادة حلف الناتو لتستمر حالة الحرب في البلاد، من مارس/آذار، وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2011، حينما قتل القذافي قرب مسقط رأسه في سرت.
وخلال تلك الأعوام العشرة، عانت البلاد من الحروب وسيطرة الميليشيات والانقسام السياسي الذي خلّف بنية تحتية مدمرة، وشعباً تتمتع بلاده بوفرة في الموارد، وخصوصاً النفط، لكن أغلبه يعاني من الفقر.
ما حالة اقتصاد ليبيا الآن؟
حوّلت عشر سنوات من الحرب ليبيا التي تملك أكبر احتياطات نفطية في إفريقيا، من بلد ينعم بالوفرة إلى اقتصاد منهار تحوّل سكانه إلى فقراء ومعدومين، واليوم تنتشر في أنحاء البلاد رافعات ضخمة غطاها الصدأ قرب مبانٍ تهالكت قبل أن يكتمل بناؤها، وقد غزتها الأعشاب البرية، فتسمرت لتشهد على اقتصاد أصابه الجمود، بحسب تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية.
وتنتشر مئات المشاريع المهملة المقدرة بعدة مليارات من الدولارات التي أطلقتها في مطلع الألفية شركات عالمية عملاقة، قبل أن يحول انعدام الاستقرار دون المضي بها قدماً، فالنشاط الاقتصادي في ليبيا اليوم رهينة الانقسامات السياسية العميقة بين سلطتين متنافستين تتنازعان السيطرة على "الهلال النفطي"، الواقع في منتصف الطريق بين طرابلس العاصمة ومقر حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، وبنغازي في الشمال الشرقي التي تسيطر عليها قوات المشير خليفة حفتر.
مهندس النفط المهدي عمر لخص مشكلة الاقتصاد الليبي المنهار بقوله لوكالة الأنباء الفرنسية إن "كل ما يخص ليبيا له علاقة بالنفط دون أدنى شك".
وفي العام الماضي، بعد فشل هجوم ميليشيات حفتر على العاصمة طرابلس، بعد انقلابه على الحكومة الشرعية، أغلقت ميليشيات تابعة له منشآت إنتاج النفط الرئيسية للمطالبة بتوزيع أفضل للإيرادات التي تديرها طرابلس، لكن الضغوط الدولية بعد فشل مغامرة الجنرال العسكرية دفعتهم إلى التخلي عن هذا الابتزاز.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، عاد إنتاج النفط في ليبيا إلى مستويات مرتفعه ليبلغ 1,3 مليون برميل يومياً، أي عشرة أضعاف ما كان عليه في الربع الثالث من عام 2020، لكنه لم يصل بعد إلى 1,6 مليون برميل كما كان قبل عشر سنوات.
في ذلك الوقت، وبعد أن ظل نظام القذافي لفترة طويلة منبوذاً من المجتمع الدولي، تحسنت علاقة النظام بالعديد من الدول، وتقاطرت الشركات الروسية والصينية والفرنسية والكورية والإماراتية والتركية والإيطالية إلى ليبيا، لنيل نصيبها من المشاريع الجديدة، لكن كل شيء توقف في عام 2011.
وهجر المستثمرون البلاد التي احتلت المرتبة 186 من أصل 190 في تصنيف "ممارسة الأعمال التجارية"، وخسرت الشركات مبالغ طائلة، وكذلك الدولة، التي كان عليها تعويض المجموعات المتضررة بعد أن لجأت إلى مقاضاتها.
وكان العام الماضي الأصعب على الإطلاق، بعد أن تسبب هجوم ميليشيات حفتر على طرابلس والحصار النفطي "بأخطر الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية في ليبيا منذ عام 2011″، وفقاً للبنك الدولي.
وقال الباحث في الشؤون الاقتصادية كمال المنصوري إن "ليبيا تمر بتراجع اقتصادي غير مسبوق، خاصة مع الأضرار التي لحقت ولا تزال بقطاع النفط، وهو المورد الوحيد للبلاد، جراء الإغلاقات المتكررة التي أثرت سلباً على إيرادات الحكومة من النفط".
ويُضاف إلى كل ذلك أزمة نقدية كبيرة بوجود مصرفين مركزيين: مصرف ليبيا المركزي في طرابلس ومصرف آخر موازٍ له في الشرق، الأمر الذي يعيق السيطرة على سياسة البلد النقدية بينما ينهار الدينار، وهكذا يعجز الليبيون عن تصريف أمورهم الحياتية اليومية، في ظل نقص حاد في السيولة والبنزين والكهرباء والتضخم المتسارع.
وتحدثت سليمة يونس (57 عاماً) التي عملت "لأكثر من 20 عاماً مع شركات نفط أجنبية"، وكانت تحصل على "أجر مجزٍ" لوكالة فرانس برس، قائلة إن تلك الشركات "غادرت جميعها البلاد ولم تعد قط"، وأضافت "صعب عليّ أن أبدأ من جديد في مثل عمري. لقد وجدت للتو وظيفة سكرتيرة بدوام جزئي… لمجرد تغطية احتياجاتي الأساسية. الناس غاضبون تماماً… كثيرون يعيشون في فقر متزايد، في بلد غني، ليس من العدل أن نرى كل هذا الهدر".
وبحسب وزارة الاقتصاد في حكومة الوفاق الوطني فقد ارتفعت أسعار غالبية الضروريات الأساسية بأكثر من 50% في عام 2020، ويُعزى الأمر إلى القيود التي فرضها المصرف المركزي في طرابلس، وكذلك جائحة كوفيد-19 التي أدت إلى تفاقم الأزمة.
قال كمال المنصوري إن "الخطة الاقتصادية التي طبقت أولى مراحلها مؤخراً بتعديل سعر الصرف، لم تغير الكثير من أحوال المواطنين المعيشية، إذ لا يزال غلاء الأسعار مستمراً، والمصارف خالية من السيولة النقدية، إلى جانب استمرار الفجوة في سعر صرف الدولار في السوق السوداء".
من جانبه، حذَّر الخبير الاقتصادي نوري الحامي من أنه "في ظل استمرار التراجع الاقتصادي الحاد ستتجه ليبيا باعتقادي في نهاية المطاف للاقتراض الدولي، وفي حال الوصول إلى هذه المرحلة ستواجه البلاد أزمات مضاعفة، وربما نشهد أرقاماً مفزعة لليبيين الذين يعيشون تحت خط الفقر للمرة الأولى في تاريخ البلاد الحديث".
وكانت الأمم المتحدة قد وضعت الأصول والاستثمارات الليبية الأجنبية التي تديرها هيئة الاستثمار الليبية تحت الحراسة القضائية في عام 2011، لمنع حالات الاختلاس.
هل انتهى الانقسام السياسي فعلياً؟
أثمرت المحادثات بين الليبيين برعاية الأمم المتحدة أخيراً عن التوصل لاتفاق حول تنظيم انتخابات في نهاية العام الجاري، ويفترض أن تشرف الهيئة التنفيذية التي انتخبت أخيراً وأبرز أركانها رئيس الحكومة المكلف عبدالحميد محمد دبيبة، ومحمد يونس المنفي رئيساً للمجلس الرئاسي، على المرحلة الانتقالية التي يفترض أن تقود إلى انتخابات ديمقراطية.
وقد رفعت هذه التطورات من حجم الأمل في أن تكون سنوات الألم والمعاناة بالنسبة لليبيين قد أوشكت على الانتهاء، لكن البعض لا يرى أن الصورة الكاملة تخلو من مصادر القلق التي لا تزال قائمة، "فمجموعة الأزمات الدولية" ترى أن ما تحقق لا يعدو أن يكون "مكاسب هشّة"، لأنه "لا يزال هناك العديد من الخطوات التي يتعين اتخاذها قبل تشكيل حكومة الوحدة المؤقتة".
ويرى الخبير في منظمة "المبادرة العالمة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية"، عماد الدين بادي، أن الوضع استقر ظاهرياً، "لكن الزخم الدبلوماسي نتيجة تحفظ مؤقت عن القتال وليس نتاج رغبة صادقة للتوصل إلى حلّ"، ويضيف "بعد عشر سنوات على الثورة، ليبيا دولة مشوهة أكثر مما كانت في عهد القذافي".
ويؤكد الباحث جلال حرشاوي لفرانس برس أن الوضع يبقى هشّاً، فقد "تراجع عدد القتلى الليبيين، لكن هل تحقق تقدم على المستوى السياسي؟ هل زال الخطر؟ على الإطلاق". ويضيف حرشاوي أن الليبيين "مستاؤون للغاية، ويعانون كثيراً من كوفيد-19، النخب لا تبالي بمعاناة الشعب".
ففي طرابلس، ما زال الليبيون يعانون من نقص السيولة النقدية وضعف الإمداد بالوقود والكهرباء والتضخم المالي. وفي بنغازي توجه اتهامات إلى قوات حفتر بتركيز سلطة مستبدة في شرق البلاد، وفي هذا الصدد، يعتبر عماد الدين بادي أن الليبيين "يفقّرون تدريجياً"، يرى أن ما جرى أشبه بوضع "ضمادات" على الجراح بدل علاجها، إذ تعاني البنى التحتية في قطاع الطاقة من ضعف الصيانة.
ومن مصادر القلق الأخرى تحول ليبيا إلى مركز لتجارة البشر في القارة السمراء، إذ صار عشرات آلاف المهاجرين تحت رحمة المهربين المحليين، يعيشون مأساة إنسانية رهيبة، ويتعرضون إلى انتهاكات جسيمة بينما يموت عدد كبير منهم أثناء محاولتهم العبور نحو الضفة الشمالية للمتوسط، رغم جهود المنظمات غير الحكومية.
ما مصير عائلة القذافي؟
بعد أن حكم القذافي ليبيا لأكثر من ثلاثة عقود، كيف أثرت الإطاحة به على مصير عائلته التي لعبت أدواراً مهمة خلال حكمه؟ قتل أبناؤه الثلاثة معتصم وسيف العرب وخميس خلال الثورة. وكان خميس لعب دوراً مهماً في قمع المنتفضين في مدينة بنغازي، مهد الثورة.
لجأ محمد، الابن الوحيد من زواج معمر القذافي الأول، إلى الجزائر عام 2011، قبل أن يحصل على اللجوء في سلطنة عمان إلى جانب أخته عائشة، وهذه الأخيرة محامية شاركت في هيئة الدفاع عن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
أما هنيبعل، وهو شخصية غريبة الأطوار، وكانت لديه نزاعات قانونية في فرنسا وسويسرا في بداية الألفية، فقد لجأ إلى الجزائر قبل أن يذهب إلى لبنان ليلتحق بزوجته، وهي عارضة أزياء لبنانية. وأوقف في لبنان عام 2015، ولا يزال مسجوناً هناك. أما زوجته، فذكرت تقارير إعلامية أنها لجات إلى سوريا.
ويظل مصير سيف الإسلام الذي كان يعتبر خليفة لوالده غامضاً، فقد قبضت عليه مجموعة مسلحة في مدينة الزنتان (جنوب غرب طرابلس)، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وحكم عليه بالإعدام في محاكمة قصيرة، لكن المجموعة المسلحة رفضت تسليمه إلى سلطات طرابلس أو المحكمة الجنائية الدولية، التي تتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال الثورة.
واختفى ابن القذافي الذي كان الأكثر ظهوراً خلال حكم والده، بعد أن أعلنت المجموعة التي تحتجزه الإفراج عنه في يونيو/حزيران 2017، وقالت المحكمة الجنائية الدولية نهاية 2019 إنه لا يزال في الزنتان.
أما الساعدي معمر القذافي، الذي كان لاعب كرة قدم سابقاً فقد خاض مسيرة احترافية فاشلة في إيطاليا، قبل أن ينتقل لقيادة كتيبة نخبة في الجيش الليبي، فقد لجأ بعد الثورة إلى النيجر، التي رحّلته عام 2014 إلى ليبيا، حيث لا يزال مسجوناً. ولجأت زوجة القذافي الثانية صفية إلى سلطنة عمان، وقد طلبت مرات عدة العودة إلى بلادها، لكن نداءاتها بقيت دون جواب رغم نفوذ قبيلتها في شرق ليبيا.
يمتد حضور قبيلة القذاذفة بين سرت وجنوب غرب البلاد، وتشرح أستاذة القانون الليبي أماني الهجرسي لموقع رؤية نيوز أنها "كانت واحدة من القبائل التي عانت من نظام ابنها العقيد معمر، بل زج بكثير من أبنائها المعارضين له في السجون" قبل الثورة.
وكان للقذافي أنصار يتجمعون ضمن "اللجان الثورية"، وهي تنظيم شبه عسكري تأسس لحماية النظام، لجأ عدد منهم إلى تونس ومصر خشية تعرضهم لأعمال انتقامية، ولا يُخفي بعضهم أمله في العودة إلى ليبيا، وأعاد بعض قادة "اللجان الثورية" الذين استقروا في القاهرة إطلاق تلفزيون "الجماهيرية" الذي كان أبرز وسائل الإعلام زمن القذافي.
وهناك مسؤولون سابقون من التكنوقراط الذين لم يتورطوا في التجاوزات زمن حكم القذافي، غادروا ليبيا في مرحلة أولى، قبل أن يخاطروا بالعودة إلى بلادهم، وتستبعد الهجرسي أن يلعب المقربون من القذافي مستقبلاً دوراً سياسياً في ليبيا، لأن "معظم الليبيين يعتقدون أن النظام السابق كان سبباً في تدمير المنظومة السياسية لليبيا وإفسادها (…)، وبالتالي لا فرصة حقيقية أمام هذا النظام أو عائلة العقيد القذافي للعودة إلى الواجهة السياسية، على الأقل خلال الأمد القصير".