تخطت العلاقات بين الصين وأمريكا مرحلة الحديث الدبلوماسي عن تعاون مزعوم إلى مرحلة التنافس المفتوح، فما احتمالات تحول ذلك إلى صراع عسكري خلال العقد الجاري؟
العلاقات الأمريكية-الصينية تؤثر ليس فقط على الشعب في كلا البلدين بل تمس حياة الشعوب جميعاً، نظراً للتأثير الاقتصادي والسياسي الذي أصبحت بكين تتمتع به حول العالم منذ تولي الرئيس الحالي شي جين بينغ مقاليد الأمور في الصين عام 2013، وتبني سياسة قائمة على أن بكين قوة عالمية لابد أن يُحسب لها حساب.
ومع تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن مقاليد الأمور في واشنطن وسعيه لاستعادة الدور القيادي لواشنطن على الساحة الدولية وإعلانه أن "أمريكا عادت"، من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تساؤلات بشأن قلقة بشأن طبيعة العلاقة بين قوة عظمى كانت تنفرد بالقرار وتحدد السياسات وتتحكم في المؤسسات الدولية حتى سنوات قليلة مضت وبين قوة عظمى أخرى تسعى ربما ليس فقط للمزاحمة ولكن للهيمنة، كما يقول محللون غربيون وحتى من داخل الصين نفسها.
وتناولت مجلة Foreign Affairs الأمريكية في تقرير لها الأوجه المتعددة لتلك العلاقة وسيناريوهاتها المعقدة على المدى القصير نسبياً، أي خلال فترة بايدن الرئاسية الأولى وحتى نهاية العقد الحالي، أي 2030، وهو المدى المتوسط الذي يرجح البعض أنه يمثل نهاية انتظار الرئيس شي كي يضم تايوان ويعيد توحيد الصين.
ثقة صينية متزايدة
يشعر الحزب الشيوعي الصيني حالياً بثقة متزايدة في أنه بحلول نهاية العقد الجاري، سيتخطى الاقتصاد الصيني أخيراً اقتصاد الولايات المتحدة، ليكون الأكبر في العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي في معدلات الصرف السوقية. وقد يتجاهل النخبة في الغرب أهمية بلوغ هذه المرحلة، ولكن ليس المكتب السياسي للحزب. إذ لطالما كان الحجم مهماً لدى الصين. واحتلال المرتبة الأولى سيزيد ثقة بكين وإصرارها وسيؤثر في صفقاتها مع واشنطن، كما أنه سيزيد من احتمالية أن يقوم البنك المركزي الصيني بتعويم اليوان وفتح حساباته الرأسمالية، وتحدي الدولار الأمريكي في كونه العملة الاحتياطية العالمية الأساسية.
لكن الصين في الوقت نفسه مستمرة في التقدم على جبهات أخرى كذلك؛ إذ تهدف الخطة السياسية الجديدة، المُعلنة في الخريف الماضي، إلى تمكين الصين من الهيمنة في جميع مجالات التكنولوجيا الجديدة – بما في ذلك الذكاء الاصطناعي- بحلول عام 2035. وتنتوي بكين إكمال برنامج التحديث العسكري الخاص بها بحلول 2027 (أي قبل سبعة أعوام من الجدول الزمني المُحدّد)، وهدفه الرئيسي هو منح الصين ميزة حاسمة في جميع التصورات المحتملة إذا ما حدث نزاع مع الولايات المتحدة على تايوان. وسيُتيح الانتصار في مثل هذا النزاع للرئيس شي جين بينغ الاضطلاع بإعادة توحيد تايوان باستخدام القوة قبل ترك منصبه، وهو إنجاز سيضعه في منزلة مكافئة لماو تسي تونغ داخل صفحات تاريخ الحزب الشيوعي الصيني.
هل تدفع أمريكا ثمن الغرور؟
على الجانب الآخر، لم ينتبه الكثيرون في الولايات المتحدة للدوافع السياسية والاقتصادية المحلية الكامنة خلف استراتيجية الصين الكبيرة، ولا محتوى هذه الاستراتيجية، ولا الطرق التي اتبعتها الصين لتنفيذها في العقود الأخيرة. واقتصرت المحادثات في واشنطن على ما ينبغي على الولايات المتحدة فعله، دون التفكير كثيراً في ما إذا كان أي تصرف من جانبها سيؤدي إلى تغيرات حقيقية في المسار الاستراتيجي للصين.
ومن الأمثلة الجلية على هذا النوع من قصر النظر في السياسة الخارجية، كلمة ألقاها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو في يوليو/تموز الماضي، ودعا فيها فعلياً إلى الإطاحة بالحزب الشيوعي الصيني، وقال: "علينا نحن الدول المحبة للحرية، أن نحث الصين على التغيير. وذلك بتمكين الشعب الصيني".
لكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجعل الصينيين يثورون على الحزب الحاكم هو غضبهم من أدائه المتواضع في تناول مشكلة البطالة، وسوء إدارته الفادح للكوارث الطبيعية (مثل الجائحة)، أو التوسع الهائل في القمع السياسي المشدد بالفعل. لكن التشجيع الخارجي على هذا الامتعاض، خاصة من جانب الولايات المتحدة، لن يساعد في الأرجح بل ربما يعرقل حدوث أي تغيير.
بالإضافة إلى أن حلفاء الولايات المتحدة لن يدعموا مثل هذا النهج على الإطلاق، فتغيير النظام لم يكن استراتيجية ناجحة تماماً في العقود الأخيرة الماضية. وأخيراً، فمردود البيانات المُنمقة مثل التي كان يُلقي بها بومبيو عكسي تماماً، لأنها تقوي قبضة شي في وطنه، وتسمح له بالإشارة إلى تهديد التخريب الأجنبي لتبرير زيادة تشديد التدابير الأمنية المحلية، ما سيُسهل عليه حشد نخبة الحزب المستائين للتضامن ضد التهديد الخارجي.
وفي الوقت نفسه شن الرئيس شي حملة قمعية هائلة على أقلية الإيغور المسلمة بإقليم شينغيانغ، وحملاتٍ قمعية في هونغ كونغ ومنغوليا الداخلية والتبت، وشدد الخناق على المعارضين من المفكرين والمحامين والفنانين والمنظمات الدينية في أنحاء الصين؛ إذ إنه صار يعتقد بأن الصين لا ينبغي أن تخاف بعد الآن أي عقوبات يمكن أن تفرضها الولايات المتحدة على البلد أو على المسؤولين الصينيين كأفراد، وذلك رداً على انتهاك حقوق الإنسان. وهو يرى أن الاقتصاد الصيني صار الآن قوياً كفاية لتحمل مثل تلك العقوبات، وأن الحزب كذلك في وسعه حماية المسؤولين من أي تداعيات، إضافة إلى أنه ليس من المرجح أن تلتزم الدول الأخرى بالعقوبات الأمريكية الأحادية، خوفاً من الرد الصيني.
تايوان لب الصراع ونقطة الخطر
ويمكن القول إن المنافسة بين البلدين ستدخل في مرحلة حاسمة في هذا العقد الذي بدأ عام 2020، إذ سيكون أهم ما يميز هذا العقد هو المخاطرة. وبغض النظر عن الاستراتيجيات التي ستتبعها كلا البلدين أو الأحداث التي ستتكشف، فسوف تحتدم التوترات وتشتد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين لا محالة. لكن الحرب من ناحية أخرى ليست أمراً حتمياً لأسباب تتعلق بهما معاً، وإن ظل هذا الاحتمال قائماً، والسبب هو مشكلة تايوان تحديداً.
وتعود قضية تايوان إلى عام 1949 عندما أعلن ماو تسي تونغ تأسيس جمهورية الصين الشعبية بعد هزيمته لقوات الحكومة القومية في بكين وفرار القوات المهزومة وزعيمها تشانغ كاي تشيك إلى تايوان، إذ لم تعترف واشنطن بجمهورية الصين الشعبية ودعمت حكومة تايوان، وهو ما جعل العلاقات بين الصين الشعبية والولايات المتحدة شبه مقطوعة وتتسم بالعداء التام.
واستمر ذلك حتى عام 1971 حينما قام وزير خارجية أمريكا وقتها، هنري كيسنجر، بزيارة سرية لبكين، كانت تمهيداً لاعتراف الأمم المتحدة بالصين الشعبية ومنحها مقعداً دائماً في مجلس الأمن الدولي، لكن حافظت واشنطن على علاقاتها مع تايوان وسط إصرار بكين على إعادة ضمها وتوحيد البلاد، وهذا هو الوضع القائم حالياً.
وفي ظل استبعاد خيار التوحيد السلمي مع تايوان، صارت استراتيجية شي الآن واضحة: رفع مستوى النفوذ العسكري الذي يمكن للصين ممارسته في مضيق تايوان، إلى الحد الذي يجعل الولايات المتحدة غير راغبة في الدخول في حرب ترى واشنطن نفسها أنها ستخسرها.
ويعتقد شي أنه دون دعم الولايات المتحدة، ستذعن تايوان أو ستحارب معتمدة على نفسها وتخسر الحرب. لكن هذا النهج، بحسب تقرير Foreign Affairs، يقلل من تأثير عوامل ثلاثة أولها صعوبة احتلال تايوان؛ لأنها جزيرة بحجم هولندا، وتضاريس النرويج، وتعداد سكاني مسلح بشكل جيد يبلغ 25 مليون نسمة، وثانيها هو الضرر الذي لا يمكن تداركه والذي سيلحق بالشرعية السياسية الدولية للصين بعد استخدامها قوة عسكرية غاشمة، والأخير هو انعدام القدرة على التنبؤ بالسياسات المحلية الأمريكية التي ستُحدد طبيعة رد الولايات المتحدة إذا ما وقعت كارثة كهذه.
وقد خلصت بكين، في إسقاطها لواقعيتها الاستراتيجية الشديدة على واشنطن، إلى أن الولايات المتحدة لن تخوض قط حرباً لا تستطيع الفوز بها، إذ سيكون ذلك نهاية للنفوذ والهيبة والمكانة العالمية لأمريكا، لكن الأمر الذي لم تضمه الصين إلى هذه الحسبة هو الاحتمال العكسي: أن فشل الولايات المتحدة في الدفاع عن ديمقراطية زميلة دعمتها طيلة فترة ما بعد الحرب سيكون بدوره كارثياً بالنسبة لواشنطن، وخاصة من حيث نظرة حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، الذين سيرون أن الضمانات الأمنية الأمريكية التي اعتمدوا عليها طويلاً هي بلا قيمة، وسيسعون على هذا الأساس إلى التوصل لاتفاقات خاصة مع الصين.
وفي هذا السياق أجرت حاملتا طائرات أمريكيتان تدريبات عسكرية في بحر الصيني الجنوبي خلال اليومين الماضيين، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، وهو ما قابلته الصين بالتنديد في تصريحات للمتحدث باسم وزارة الخارجية وانغ فينبين، الثلاثاء 9 فبراير/ شباط، إذ قال للصحفيين إن "الولايات المتحدة ترسل باستمرار سفنها وطائراتها لإظهار قوتها في بحر الصين الجنوبي"، معتبراً أن هذا التصرف "لا يساعد على السلام والاستقرار في المنطقة"، لافتاً إلى أن الصين "ستتخذ الخطوات اللازمة للدفاع بحزم عن سيادتها الوطنية وأمنها، وأنها ستعمل مع دول المنطقة للحفاظ على السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي".
قلق بكين من إدارة بايدن
الخلاصة هنا أن الصين تخشى احتمالية أن تشن واشنطن هجوماً على بكين في الأعوام التي تسبق تبدد النفوذ الأمريكي أخيراً. وما يخشاه شي ليس نزاعاً عسكرياً محتملاً فحسب، بل انفصالاً اقتصادياً سريعاً وجذرياً. والأهم أن المؤسسة الدبلوماسية في الحزب الشيوعي الصيني تخاف أن تشكل إدارة بايدن، بعد أن تدرك أن الولايات المتحدة ستعجز قريباً عن مجاراة القوة الصينية وحدها، تحالفاً قوياً يضم بلدان العالم الرأسمالي الديمقراطي ويهدف صراحة إلى التصدي للصين.
ويخشى قادة الحزب الشيوعي الصيني تحديداً، أن يكون اقتراح الرئيس جو بايدن لعقد قمة لكبرى ديمقراطيات العالم، خطوة أولى على هذا الطريق، لهذا أسرعت الصين في تأمين اتفاقيات تجارية واستثمارية جديدة في آسيا وأوروبا قبل صعود الإدارة الجديدة إلى السلطة.
وفي الوقت نفسه يسعى شي إلى العمل مع بايدن في مسألة التغير المناخي، مدركاً أن هذا في مصلحة الصين بسبب زيادة تأثر البلاد بالظواهر المناخية القاسية، وهو يدرك أيضاً أن بايدن سيحظى بفرصة لاكتساب مكانة دولية إذا تعاونت بكين مع واشنطن في هذه المسألة، نظراً لحجم التزامات بايدن بقضية تغير المناخ، وهو يعرف أن بايدن سيود أن يتمكن من القول بأن عمله مع بكين أدى إلى انخفاض الانبعاثات الكربونية في الصين. ومن منظور الصين، ستمنح هذه العوامل شي بعض النفوذ في صفقاته عامةً مع بايدن. وهو يأمل أن يساعد تعزيز التعاون في قضية المناخ، في استقرار العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بشكل عام.
هذه العوامل المتداخلة، إضافة إلى التكلفة غير المتصورة لمواجهة عسكرية بين قوتين نوويتين يراها البعض "نهاية العالم"، على الأرجح سيغلب سيناريو قيام بكين وواشنطن بوضع حواجز تقي وقوع كارثة، والأقرب وهو إطار عمل مشترك يسميه المراقبون "المنافسة الاستراتيجية المنظمة"، التي ستنجح في تقليل خطر تصاعد حدة المنافسة وتحولها إلى نزاع مفتوح.