مبالغ مالية ضخمة وعمل مع حكومة حليفة لمحاربة "الإرهاب" هي الدوافع التي استخدمتها الإمارات لتوظيف محللين سابقين تابعين لوكالة الأمن القومي الأمريكي في شبكة تجسس ضد قطر ومسؤولين في فيفا وغيرهم، فما قصة تلك الشبكة؟
شبكة التجسس الإماراتية كشف عنها تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية من خلال أحد الأعضاء السابقين في تلك الشبكة والذي قال للصحيفة إنه "فوجئ بإيميلات تخص ميشيل أوباما زوجة الرئيس الأسبق باراك أوباما ومحادثاتها الهاتفية مع الشيخة موزة والدة أمير قطر الشيخ تميم"، مما جعله يشكك في طبيعة العمل الذي تم توظيفه ليقوم به، حسب روايته للصحيفة.
ومن المهم هنا التوقف عند نقطة هامة تتعلق بتقرير الصحيفة الذي جاء تحت عنوان "كيف خسرت أمريكا أمام المخترقين"، فالتقرير تناول كيف تحولت الحرب السيبرانية إلى نقطة ضعف ملحوظة تتعرض الولايات المتحدة من خلالها لهجمات متكررة على أيدي نفس المخترقين أو محترفي التجسس الإلكتروني الذين كانوا يعملون لديها.
ويمكن القول هنا إن الكشف عن شبكة التجسس الإماراتية قد جاء بالصدفة، إذ إن تاريخ تأسيس تلك الشبكة يرجع إلى عام 2014، أي قبل فرض الحصار على قطر بنحو 3 سنوات، وهو ما يثير التساؤلات بشأن كيفية تجنيد أبوظبي محللين أمريكيين يعملون في وكالة الأمن القومي لترك وظائفهم والعمل لديها.
وبحسب ما كشف عنه تقرير نيويورك تايمز، فإن "خلطة الدوافع والمغريات" تمثلت في رواتب تصل لأربعة أضعاف ما يحصلون عليه، إضافة إلى امتيازات أخرى تتمثل في إقامة فاخرة في أبوظبي دون دفع ضرائب، وطبيعة العمل نفسها ليست مختلفة، بمعنى أن الهدف من العمل هو "محاربة الإرهاب" لكن بدلاً من القيام بذلك ضمن وكالة الأمن القومي الأمريكية يقومون به لصالح دولة "حليفة" لواشنطن وشريك في الحرب على الإرهاب.
التجسس على قطر
تكشف التفاصيل التي أدلى بها المصدر الذي قالت الصحيفة الأمريكية إن اسمه إيفندين كيف بدأ العمل من خلال شركة CyberPoint لتعقب ومراقبة أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام 2014، حتى كلفه رؤساؤه بعد فترة بمشروع جديد وهو البحث عن دليل لقيام قطر بدعم جماعة الإخوان المسلمين، وكانت الوسيلة هي التجسس على قطر ومسؤوليها.
وهنا شعر إيفندين، بحسب ما قاله للصحيفة الأمريكية، ببعض عدم الراحة كون قطر دولة حليفة لواشنطن، لكن ما أزعجه أكثر لاحقاً هو أن مهمته الجديدة توسعت للتجسس على جميع "أعداء أبوظبي سواء كانوا حقيقيين أو مفترضين" حول العالم، لتشمل القائمة مسؤولين في الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) ومنتقدي حكام الإمارات على تويتر، وبصفة خاصة حسابات أفراد الأسرة الحاكمة في قطر. وأراد رؤساء إيفندين أن يعرفوا مواعيد سفر المستهدفين ومن يقابلون وماذا يقولون، وأخبره رؤساؤه أن تلك المهام مطلوبة من القيادة العليا في أبوظبي.
وفي إطار "الحرب على الإرهاب" وسوق الأسلحة الإلكترونية يمكن تبرير أي شيء، بحسب رواية إيفندين للصحيفة. واستمر عمله في التجسس حتى يوم ما في عام 2015 حينما وجد نفسه وزملاءه يتجسسون على مكالمات ومراسلات ميشيل أوباما زوجة الرئيس الأسبق باراك أوباما، إذ كان وقتها يتم الترتيب لزيارة السيدة الأولى في البيت الأبيض للدوحة، تلبية لدعوة الشيخة موزة بنت ناصر لحضور مؤتمر خاص بتعليم الفتيات، وهنا سقطت مبررات الحرب على الإرهاب بالنسبة لإيفندين، بحسب ما قاله للصحيفة: "لا يجب أن نستهدف هؤلاء الناس".
وبعد ذلك بفترة قصيرة عاد إيفندين وأسرته وعدد من زملائه إلى الولايات المتحدة وأبلغوا مكتب التحقيقات الفيدرالية بشكوكهم، ورغم أن المكتب لا يعلق على أي تحقيقات جارية، إلا أنه وبحسب نيويورك تايمز تخضع شركة CyberPoint للفحص. وكانت رويترز قد نشرت قبل عدة أشهر شهادات تفصيلية أخرى لعملاء أمريكيين في نفس شبكة التجسس الإماراتية، مما يشير إلى أن التحقيقات ربما تكون جارية بالفعل.
الإمارات والتجسس وإدارة ترامب
يعيد تقرير نيويورك تايمز تسليط الضوء على ما تمتعت به أبوظبي من حرية مطلقة ودعم من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، رغم تورطها في معظم بؤر الصراع في الشرق الأوسط وإفريقيا، إذ كان ثلاثة مسؤولين سابقين في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد قالوا لرويترز إن الوكالة لا تتجسس على حكومة الإمارات فيما وصفه بعض المنتقدين ببقعة مظلمة خطرة في عالم المخابرات الأمريكية.
وهذا الموقف من جانب وكالة المخابرات المركزية ليس بالجديد، بحسب تقرير رويترز، إنما ما تغير هو طبيعة تدخل تلك الدولة الصغيرة التي تتمتع بنفوذ كبير والعضو في منظمة أوبك في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا، فهي تخوض حروباً وتدير عمليات سرية وتستخدم قوتها المالية في إعادة تشكيل المسرح السياسي الإقليمي بأشكال تتعارض في كثير من الأحيان مع المصالح الأمريكية، حسب ما تقوله المصادر وخبراء السياسة الخارجية.
وقال مسؤول رابع كان يعمل سابقاً في وكالة المخابرات المركزية إن إخفاق الوكالة في التكيف مع الطموحات العسكرية والسياسية المتنامية لدولة الإمارات يرقى إلى مستوى "التفريط في الواجب".
غير أن أجهزة المخابرات الأمريكية لا تتجاهل الإمارات كلياً. فقد قال مصدران على علم بعمليات وكالة الأمن القومي الأمريكية لرويترز إن الوكالة تنفذ عمليات مراقبة إلكترونية داخل الإمارات، وهذه العمليات الإلكترونية نوع من أنواع جمع المعلومات ينطوي على مخاطر أقل وعائد أقل.
كما أن وكالة المخابرات المركزية تعمل مع جهاز المخابرات في الإمارات من خلال علاقة تعاون تشمل تبادل المعلومات عن الخصوم المشتركين مثل إيران أو تنظيم القاعدة. إلا أن وكالة المخابرات المركزية لا تجمع معلومات باستخدام العنصر البشري من مخبرين في الإمارات عن حكومتها حسبما قال المسؤولون الثلاثة السابقون بالوكالة لرويترز. وهذا النوع من الاستخبارات هو الأكثر قيمة والأصعب في جمع المعلومات.
وقال مسؤولو المخابرات السابقون إن عدم وجود نشاط استخباراتي لوكالة المخابرات المركزية في الإمارات، وهو الأمر الذي لم يسبق نشر شيء عنه في وسائل الإعلام، يجعل تلك الدولة ضمن قائمة قصيرة من الدول الأخرى التي تنتهج فيها الوكالة نهجاً مماثلاً. وتضم هذه القائمة الدول الأخرى الأعضاء في تحالف استخباراتي يسمى "العيون الخمس" وهي أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا وكندا.
وقال أربعة مسؤولين سابقين بوكالة المخابرات المركزية إن جواسيس الوكالة يجمعون معلومات باستخدام العنصر البشري تقريباً عن كل دولة أخرى للولايات المتحدة مصالح كبيرة فيها بما في ذلك بعض الحلفاء الرئيسيين. وربما تكون السعودية أقرب دولة تمثل النقيض للإمارات، فهي حليف آخر من حلفاء الولايات المتحدة يتمتع بنفوذ كبير في الشرق الأوسط ومنتج رئيسي للنفط، كما أنها تشتري السلاح الأمريكي.
ويقول مسؤولان سابقان في وكالة المخابرات المركزية وضابط سابق بمخابرات دولة خليجية إن الوكالة كثيراً ما تستهدف السعودية على النقيض من الإمارات. وقالت المصادر إن ضباط المخابرات السعودية ضبطوا عدداً من عملاء وكالة المخابرات المركزية وهم يحاولون تجنيد مسؤولين سعوديين للعمل كمخبرين.
وقال ضابط المخابرات السابق بإحدى الدول الخليجية إن أجهزة المخابرات السعودية لا تشكو علناً من محاولات التجسس التي تبذلها وكالة المخابرات المركزية لكنها تجري اتصالات غير معلنة بمسؤول الوكالة في الرياض لكي تطلب منه إبعاد ضباط المخابرات المركزية في هدوء عن البلاد.
ووصف ضابط المخابرات المركزية السابق روبرت باير، وهو مؤلف معروف، غياب العنصر البشري في جمع الاستخبارات عن الإمارات بأنه "فشل"، وذلك عندما أطلعته رويترز على الأمر، وقال إن صانع القرار الأمريكي يحتاج أفضل المعلومات المتاحة عن السياسات الداخلية والصراعات الأسرية في نظم الحكم الملكية في الشرق الأوسط. وأضاف: "إذا كنت تفتخر بكونك جهازاً عالمياً فهذا يعتبر فشلاً. العائلات المالكة ذات أهمية شديدة".
وتحدث مسؤول سابق بإدارة ترامب عن أن غياب جمع المعلومات في الإمارات أمر مزعج لأن تلك الإمارة تعمل الآن "كدولة مارقة" في دول استراتيجية مثل ليبيا وقطر، بل أبعد من ذلك في القارة الإفريقية كما أقامت قواعد عسكرية في إريتريا وجمهورية أرض الصومال. وقال المسؤول السابق في إدارة ترامب: "إذا ما قلبت أي حجر في القرن الإفريقي فستجد الإمارات هناك".
وقالت سارة ليا ويتسن المديرة التنفيذية لشعبة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش لرويترز إن الإمارات عملت على تأكيد ذاتها كقوة مالية وعسكرية في مناطق "أبعد من الجوار المباشر". وأضافت: "سواء في الصومال أو في إريتريا أو جيبوتي أو اليمن، لا تطلب الإمارات الإذن".