أنهى الانقلاب العسكري الذي وقع يوم الإثنين في ميانمار (بورما سابقاً)، تجربة البلاد قصيرة الأمد مع الديمقراطية، والتي بدأت في عام 2011، عندما نفذ جيش ميانمار، المعروف باسم "تاتماداو" الذي كان في السلطة منذ عام 1962، انتخابات برلمانية وإصلاحات أخرى، لم تدم طويلاً.
وبينما يحتفظ الجيش بقدر ضئيل من الشرعية في ميانمار باعتباره "المؤسسة التي حررت الأمة من الاضطهاد الاستعماري البريطاني"، فقد أدين دولياً لارتكابه جرائم ضد الإنسانية ضد الروهينغا والأقليات العرقية الأخرى خلال السنوات الأخيرة. وبعد انقلاب يوم الإثنين، تعرض الجيش لإدانات واسعة من قبل الدول والمؤسسات الدولية بسرعة كبيرة، مطالبين جيش ميانمار بالإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين واحترام نتائج الانتخابات.
لكن بنظرة سريعة على هذه الدول التي وجهت الإدانات لانقلاب ميانمار، لم تكن الصين الجارة إحداها، فلقد كانت بكين أحد البلدان القليلة المعنية بميانمار التي لم تدن الانقلاب، واكتفت بحثّ جميع الأطراف في ميانمار على حل الخلافات. فما طبيعة العلاقات بين الصين وميانمار، وبالتحديد مع مؤسستها العسكرية التي تحكم البلاد منذ عقود طويلة؟ وكيف ستستفيد الصين من الانقلاب الأخير؟
العلاقات الاستراتيجية بين ميانمار والصين
تقع ميانمار على حدود الصين، وتحظى بكين بنفوذ كبير وقديم في البلاد، حيث تربط البلدين علاقات ثنائية نشطة وقديمة، إذ كانت بورما أول دولة غير شيوعية تعترف بجمهورية الصين الشعبية بقيادة الحزب الشيوعي بعد تأسيسها في عام 1949.
وأقامت بورما وجمهورية الصين الشعبية علاقات دبلوماسية رسمية في مطلع الخمسينيات بعدما استقلت بورما عن الاستعمار البريطاني، ووقعت الصين وبورما معاهدة صداقة وعدم اعتداء متبادلين، وأسست الدولتين علاقاتهما بشكل رسمي على مبادئ التعايش السلمي، قبل أن تؤدي أعمال الشغب المعادية للصين في عام 1967 وطرد الجاليات الصينية من بورما إلى نشوب عداء بين البلدين، تجاوزته الجارتان في العقد اللاحق، لكنه يظل يثار من حين لآخر.
وفي نهاية الثمانينيات، وقعت الصين وبورما اتفاقيات تجارية شرّعت التجارة عبر الحدود، وبدأت بكين في تقديم مساعدات عسكرية كبيرة لجيش بورما، مما أدى إلى نمو نفوذ الصين بسرعة في بورما -أو ميانمار لاحقاً- وذلك بعد تخلي المجتمع الدولي عن بورما التي حكمها الجيش بالحديد والنار واضطهد أقلياتها.
كيف تعتمد ميانمار على الصين داخلياً وخارجياً؟
وتواجه العلاقة بين الصين وميانمار، التي تُعد أقرب من العلاقة مع البلد المجاور للصين في جنوب شرق آسيا، فيتنام، صعوبات بسبب تأثيرات فخاخ الديون التي تقدمها الصين، والمسلحين الذين تدعمهم بكين في أقاليم ميانمار الشمالية.
ومنذ عام 2018، رصدت تقارير ارتفاعاً مذهلاً في عدد المشاريع الصينية في ميانمار، والتي تتسبب في وقوع ميانمار بـ"فخاخ الديون"، بنفس الطريقة التي وضعت الصين بها سريلانكا. وواصلت حكومة ميانمار التعامل مع القروض والبرامج الصينية على الرغم من هذه التقارير، مما تسبب في ارتهان البلاد لبكين.
وفي ضوء وضع ميانمار شبه المنبوذ على الساحة الدولية في أعقاب أزمة ولاية أراكان، اعتمدت رئيس الحكومة، أونغ سان سوتشي، بشكل متزايد على بكين للحصول على الدعم الدبلوماسي في الأمم المتحدة. كما اعتمدت حكومتها أيضاً على الاستثمارات الصينية لإكمال مشاريع البنية التحتية الكبرى في البلاد.
وبعد إنهاء تجربة ميانمار القصيرة مع الديمقراطية، سيحتاج قادة الجيش بلا شك إلى درجة عالية من الدعم الدولي للاحتفاظ بالسلطة، ولن يكون هناك غير الصين على استعداد لتولي دور الحامي للجيش الميانماري أو "التاتماداو"، على الرغم من الانتقادات والشكوك في نوايا الصين حول ميانمار، التي يوجهها بين الحين والآخر بعض القادة العسكريين البورميين، وذلك بسبب تأثير بكين على الجماعات العرقية المسلحة في شمال البلاد، فضلاً عن الآثار الجيواستراتيجية لمشاريع الموانئ الصينية على سيادة ميانمار.
وكان وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، قد زار ميانمار قبل أسابيع فقط من الانقلاب وعقد اجتماعاً مع الجنرال هلاينغ أثناء وجوده في البلاد، ودفع هذا الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كانت بكين قد تلقت إشعاراً مسبقاً بخطة الجيش للاستيلاء على السلطة.
وفي بيان عقب ذلك الاجتماع، صرحت وزارة الخارجية الصينية بأن "الصين ستواصل دعم ميانمار في حماية سيادتها وكرامتها الوطنية وحقوقها ومصالحها المشروعة". ويمكن قراءة ذلك على أنه إيماءة غير مباشرة للموافقة على خطط الجيش الانقلابية.
وفي حين أنه قد يعرف أبداً ما إذا كانت الصين على دراية كاملة بمكائد الجيش التي أدت إلى انقلاب يوم الإثنين، فقد أشارت بكين بالفعل إلى أنها لن تدين تصرفات "تاتماداو"، واصفة الاستيلاء على السلطة بأنه "تعديل وزاري كبير"، وقالت الخارجية الصينية: "الصين جارة صديقة لميانمار، نأمل أن تتمكن جميع الأطراف في ميانمار من التعامل بشكل مناسب مع خلافاتهم بموجب الدستور والإطار القانوني وحماية الاستقرار السياسي والاجتماعي".
بكين مستفيدة من انقلاب جيش ميانمار على حساب واشنطن
تمتلك بكين علاقات قوية مع القادة العسكريين في ميانمار، ومن الواضح أنها لا تعارض الانقلاب الأخير، حتى إنها قد تكون مؤيدة له. وبحسب تحليل لمجلة فورين بوليسي الأمريكية، فقد يكون اللاعب الأكثر أهمية في الانقلاب الأخير هو الصين، وربما كان الاجتماع الذي عقد الشهر الماضي بين كبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، والجنرال مين أونغ هلاينغ، قائد الانقلاب العسكري في ميانمار، هي النقطة المحورية في الانقلاب، وقد تكون طريقة تعامل كل من الصين والولايات المتحدة مع الأزمة علامة مهمة لعلاقتهما.
ودأب الجيش على دفع رواية التزوير الانتخابي منذ تشرين الثاني/نوفمبر، لكن القيادة كانت ستتردد في اتخاذ إجراء ما لم تكن لديها ثقة في أنها يمكن أن تعتمد على بكين لحمايتها من العواقب الحتمية في الأمم المتحدة، وربما أيضاً تعويضها من خلال توسيع العلاقات الاقتصادية بين الجارتين، ويبدو أن شيئاً ما بشأن هذا الاجتماع قد دفع القائد العسكري إلى الاعتقاد بأن الصين ستكون على استعداد للتصعيد من أجل جارتها.
وربما لم يمنح الصينيون أي إذن صريح للجنرال بالمضي قدماً في خططه، لكن القيادة العسكرية اعتقدت أنه بإمكانهم دفع بكين للدفاع عنهم على أي حال، والقضية هنا هي أن الصين نادراً ما تفوت فرصة لتوسيع نفوذها في آسيا على حساب الولايات المتحدة، لذلك عندما تأتي واشنطن وحلفاؤها لفرض عواقب على ميانمار، سيظل المسؤولون الصينيون يجدونها في مصلحتهم الخاصة، ويتدخلون نيابة عن القيادة هناك.
وهذا هو أول اختبار رئيسي للسياسة الخارجية لفريق الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن. وفي سياق ذلك، رفضت إدارة بايدن الإشارة إلى أحداث يوم الإثنين في ميانمار على أنها "انقلاب" في بيانها الرسمي، ويرجع ذلك على الأرجح إلى خوفها من فقدان نفوذها مع ميانمار، التي تريد ترسيخها في منافستها الجيوسياسية مع بكين. ودفع هذا الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي قد تفشل مرة أخرى في محاسبة ميانمار على أفعالها غير الديمقراطية.
ومع ذلك، هدد البيت الأبيض باتخاذ "الإجراء المناسب"، قائلاً إن "عكس الجيش للتقدم الديمقراطي في ميانمار سوف يستلزم مراجعة فورية لقوانين وسلطات العقوبات الخاصة بنا". من المحتمل أن تفكر إدارة بايدن في توسيع العقوبات الأمريكية ضد كبار أعضاء الجيش، وعائلاتهم المباشرة، والكيانات التجارية المملوكة للجيش مثل MEHL (مؤسسة ميانمار الاقتصادية) ومع ذلك، يمكن أن تهدف إلى استخدام هذه التهديدات كوسيلة ضغط في أي مفاوضات تحدث مع القادة العسكريين في ميانمار.
وبحسب فورين بوليسي، قد يفتح ذلك لصفقة ما، ويمكن للولايات المتحدة أن تعترف بالمصالح التجارية لبكين في تطورات مبادرة الحزام والطريق في ميانمار، مقابل دعم الصين لإجبار ميانمار على حل أزمة الروهينغا بشكل إنساني في المناطق الحدودية، وترسيخ قوة القوى الديمقراطية في البلاد، وستكون هذه نتيجة متفائلة، ليس فقط لميانمار ولكن أيضاً لآفاق التعاون الأمريكي الصيني عندما يمكن العثور على مصالح مشتركة حقيقية.
لكن في الوقت الحالي، تشير جميع الدلائل إلى أنه من غير المرجح أن يسمح جيش ميانمار بالعودة إلى الديمقراطية في أي وقت قريب. وتعهد الجيش بإجراء انتخابات جديدة في غضون عام وقال إنه سيحترم نتائج تلك الانتخابات وسينقل السلطة إلى الفائز. لكن هذا الجدول الزمني لسنة واحدة يبدو تعسفياً ويترك الباب مفتوحاً أمام احتمال أن يؤجل الجيش الانتخابات مرة أخرى ويحتفظ بالسلطة لفترة أطول.
ومع استمرار دعم الصين، والصد المحدود من الولايات المتحدة والأعضاء البارزين الآخرين في المجتمع الدولي، ليس لدى جيش ميانمار سبب وجيه للتراجع ونقل السلطة إلى حكومة مدنية ستعمل بلا شك على الحد من سلطاته.