تبدو دبلوماسية العقوبات سمة رئيسية للعلاقات بين الصين وأمريكا، خاصة في نهاية عهد ترامب الذي شهد إعلان الصين في 20 يناير/كانون الثاني 2021 فرض عقوبات على 28 مواطناً أمريكياً، من ضمنهم وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو ومسؤولون آخرون في إدارة دونالد ترامب.
توَّجت هذه الخطوة الانتقامية عاماً من العقوبات المتصاعدة من كلا الجانبين الأمريكي والصيني، وهو سلاح دبلوماسي بات يستخدم بشكل كبير بين البلدين، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Diplomat الأمريكية.
ولكن هل يواصل البلدان التصعيد في دبلوماسية العقوبات أم المسار سينعكس نحو التهدئة بعد وصول بايدن للحكم؟
دبلوماسية العقوبات بدأت من قبل أمريكا
كانت الولايات المتحدة قد فرضت في وقتٍ سابق عقوبات على عدد من كبار المسؤولين الصينيين بموجب قانون حقوق الإنسان الخاص بالإيغور الذي أقرَّته واشنطن في يوليو/تموز 2020، بالإضافة إلى الأمر التنفيذي الذي وقّعه الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب في أغسطس/آب 2020 بشأن الاستقلال السياسي لهونغ كونغ. رفضت بكين بشدة المزاعم الأمريكية وفرضت عقوبات تستهدف أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي، من بينهم السيناتور تيد كروز وماركو روبيو.
تُشكّل تلك العلاقة الثنائية المشحونة بين أكبر اقتصادين في العالم نموذجاً لنوع جديد من الدبلوماسية، ألا وهو "دبلوماسية العقوبات"، التي ينبغي تعريفها باعتبارها أداة دبلوماسية رمزية باتت تستخدمها الدول في كثير من الأحيان بالاقتران مع التصريحات العدائية العلنية لتأكيد نوايا تكبيد خصومهم تكاليف اقتصادية. على هذا النحو، تختلف دبلوماسية العقوبات عن الدبلوماسية القسرية التي تكون فيها العقوبات جزءاً من خطة هيكلية موسعة تستهدف إحداث تغييرات قسرية في النظام. باتت الدول، بدلاً من ذلك، تفضل نهج تطبيق عقوبات مُحدَّدة الأهداف بدلاً من الحصار الاقتصادي أو التصعيد العسكري الأكثر خطورة.
سلاح ذو تأثير رمزي
وفقاً للتفسير التقليدي للعقوبات باعتبارها وسيلة لفرض مثبطات اقتصادية وردع سلوكيات معينة تتعارض ظاهرياً مع المعايير الدولية، فشلت الموجات الأخيرة للعقوبات من كلا الجانبين في تحقيق أي تأثير جوهري، باستثناء قطع العلاقات الهشة بالفعل بين أعضاء النخبة الحاكمة في بكين وواشنطن.
حتى الآن، يبدو أنَّ المغزى الحقيقي لموجة العقوبات الأخيرة لم يكن يتعلق قط بالمسؤولين المستهدفين، بل برمزية فرض العقوبات. بالنسبة لإدارة ترامب السابقة، كانت العقوبات المفروضة على الصين بمثابة أداة تشتد الحاجة إليها لتحويل الانتباه عن الاضطرابات المحلية ودعم إرثها السياسي. استخدم ترامب أيضاً العقوبات ضد الصين لتأكيد استراتيجية الاحتواء الأوسع نطاقاً، حيث رأت إدارة ترامب في السياسات الداخلية للصين فرصة مناسبة لاستعادة مكانتها الأخلاقية. هذا يُفسّر أيضاً الخطاب الأمريكي المُحمّل بالقيم جنباً إلى جنب مع العقوبات، والذي سعى إلى تعيين الصين دولة منبوذة على غرار روسيا وإيران وغيرهما من الخصوم الرئيسيين للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
على الجانب الآخر، رأت بكين في عقوباتها ضد سياسيين أمريكيين وسيلة مناسبة لطمأنة سكانها المحليين على القوة السياسية للنظام، وكذلك إبراز التزامها الراسخ بالدفاع عن البلاد من "التدخل الأجنبي"، وهي عبارة مجازية سياسية تُستخدم للإشارة إلى ما تعتبرهم الصين رموزاً للشرور، بدايةً من الاستعمار الجديد الغربي إلى الإمبريالية الأمريكية.
في الوقت نفسه، تعتمد واشنطن وبكين على العقوبات لإعادة تأكيد مواقفهما بشأن القضايا الجوهرية المتنازع عليها من الناحية المعيارية، بدءاً من هونغ كونغ والسياسات المحلية الصينية في إقليم شينغيانغ والتبت إلى الحروب التجارية والتقنية.
تُمثّل العقوبات وسيلة أخرى لممارسة ضغوط أخلاقية على الحلفاء للانضمام، من خلال الدعم الضمني أو التأييد الصريح، إلى أحد جانبي الصراع. تساهم العقوبات أيضاً في تمكين القادة من تحويل مسار الانتقادات في الداخل والتأكيد على تعهدهم بدعم المصالح الوطنية، وذلك من خلال تعزيز الرأي القائل بأنَّ البلاد تتعرض للهجوم من عدو أو تهديد أجنبي.
وكما أشار تي وانغ في مقال نُشر عام 2011، يلجأ القادة الأمريكيون في كثير من الأحيان إلى دبلوماسية العقوبات أيضاً لحشد الدعم المحلي وتعزيز صورة وجود قيادة سياسية قوية في مواجهة الأزمات الدولية. لذا، كان استهداف المسؤولين الصينيين يهدف إلى تهدئة القلق العام المتزايد بشأن قوة الصين الصاعدة التي باتت تُمثّل حالياً نظاماً أيديولوجياً سياسياً منافساً يمكن أن يحل محل الولايات المتحدة.
العقوبات تمنع تدهور الأمور
ربما لم يكن مبدأ حسن النوايا الدبلوماسية واضحاً، إن كان موجوداً بالأساس، طوال سنوات التوتر المستمر بين الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، بدا واضحاً أنَّ أياً من الطرفين حريص على عدم تصعيد العقوبات الانتقامية المتبادلة إلى نقطة تحول يضطر عندها أي منهما للجوء إلى مواجهة مباشرة ساخنة أو شبه ساخنة من أجل الحفاظ على صورته بأنَّه يمتلك اليد العليا.
كانت العقوبات تقليدياً بمثابة عازل استراتيجي -فهي تعطي الطرف الذي يفرضها مُتنفّساً في مواجهة ضغوط الحلفاء والمعارضين السياسيين المحليين في الوقت الذي يعمل فيه على تقييم خياراته وردود الفعل المحتملة من الطرف الآخر. تجعل العقوبات أيضاً مسؤولية التوقف والامتناع عن الاستفزازات والأنشطة غير المشروعة تقع في الغالب على عاتق الطرف المعارض وتنذر جدّياً باحتمالية فرض عقوبات أكثر صرامة في حال عدم الامتثال.
ثمة إجماع على أنَّ "دبلوماسية العقوبات" قد تكون أداة منخفضة التكلفة نسبياً داخل ترسانة الإجراءات الدولية للدول. على عكس النزاعات العسكرية المُطوّلة -حتى تلك المنخفضة الحدة– لا تُعتبر دبلوماسية العقوبات مُكلّفة ويمكن تطبيقها والرد عليها بسهولة من خلال إجراءات انتقامية مماثلة (مثل فرض مزيد من العقوبات). تختلف أيضاً أداة العقوبات عن الرسوم الجمركية والحصار الاقتصادي، لأنَّ تطبيقها لا يحتاج حشداً كبيراً للدعم المتعدد الأطراف وتحويل مجرى تدفقات التجارة. والأهم من كل ذلك، تفصل "دبلوماسية العقوبات" الأنظمة عن السياسيين والهياكل المؤسسية عن الأفراد من خلال استهداف أفراد أو كيانات مُحدّدة بشكل فردي، ومن ثمَّ توفر خياراً منخفض التكلفة نسبياً لكلا جانبي النزاع دون أن يحتاجا إلى المواجهة المباشرة أو المساومة على مصالحهما الأساسية.
كانت الصين، حتى وقت قريب، غالباً ما تستهدف المشرعين الأمريكيين (معظمهم جمهوريون) والجماعات الحقوقية والناشطين في مجال حقوق الإنسان، وهو ما أبقى كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية خارج تلك المعادلة. وبالمثل، على الرغم من كل الجعجعة الأمريكية، بدت واشنطن مُقيّدة إلى حد كبير فيما يتعلق باختيار أهدافها. بينما قد سبق لإدارة ترامب فرض عقوبات بالفعل على أحد أعضاء المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، أحجم البيت الأبيض عن استهداف كبار مسؤولي القيادة الصينية ، مما يترك المجال مفتوحاً أمام استئناف المشاركة الدبلوماسية.
يمكن النظر إلى عقوبات بكين الأخيرة ضد مسؤولي إدارة ترامب على أنَّها حلقة أخيرة في سلسلة العلاقات المتدهورة مع تلك الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها، وفي الوقت نفسه، مبادرة تصالحية تقدمها الصين لإدارة جو بايدن لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع الولايات المتحدة.
قد تأتي العقوبات بنتائج عكسية
ومع ذلك، لا يزال هناك خطران قائمان؛ أولاً، يتجاهل الافتراض المبني على أساس إمكانية التحكّم في العقوبات البعد السياسي النخبوي لعملية صنع السياسات الخارجية وتأثير العقوبات على توجهات هذه النخب. قد تخلق العقوبات استجابات غير متناسبة بحكم الضرورة الواقعية في إطار التنافس بين الفصائل المحلية لتعزيز فرص الفوز بالقيادة السياسية.
بالإضافة إلى ذلك، قد تأتي العقوبات بنتائج عكسية؛ إذ تنظر الأطراف الخاضعة للعقوبات إلى المشاركة الدبلوماسية باعتبارها قضية خاسرة، وأنَّ الابتعاد تماماً عن الطرف الذي يفرض العقوبات هو ضرورة حتمية. يوضح مثال فنزويلا وإيران هذا الأمر. لم تفعل العقوبات الأمريكية شيئاً يذكر في تقويض قبضة الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، على السلطة. في غضون ذلك، عزَّزت طهران سلوكها العدواني في المنطقة لكسب الدعم المحلي في مواجهة التدهور الاقتصادي. ومع ذلك، لا يمكن مقارنة إيران أو فنزويلا بالصين التي تمتلك إمكانات تجعلها تتفوق اقتصادياً على الولايات المتحدة بحلول نهاية العقد الحالي. في ضوء ذلك، يتعيَّن على السياسة الأمريكية تجاه أي بلد إدراك الفروق الدقيقة في السياسات المحلية التي غالباً ما يجري تجاهلها لصالح التصريحات العدائية الرنانة.
يُرجح أن يختار الرئيس جو بايدن ونظيره الصيني، شي جين بينغ، تعليق دورة العقوبات في الوقت الحالي. تحرص بكين على تقييم ما إذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة لديها استعداد للتخفيف من حدة خطابها العدائي وما تعتبره القيادة الصينية إهانة أساسية لسيادتها الوطنية، لاسيما في قضايا مثل هونغ كونغ وإقليم شينجيانغ. من جانبها، أعلنت إدارة بايدن مؤخراً أنَّها ستعتمد سياسة "الصبر الاستراتيجي" تجاه الصين. قد تكون الدولتان في طريقهما لتحقيق تقارب مؤقت على الرغم من أنَّه لم يتضح بعد إلى أي مدى سيدوم هذا التقارب ومدى مساهمته في تفكيك القضايا الخلافية التي تؤرق العلاقات بين البلدين.
سيكون الوضع مثالياً إذا انتهى التصعيد الأمريكي-الصيني وتلاشت احتمالات المواجهة المسلحة، لكن هذا الوضع غير محتمل. يُشكّل صعود الصين تحدياً أساسياً للقيادة الأمريكية في نظام عالمي اعتادت واشنطن الهيمنة عليه منذ فترة طويلة. قد تصبح الولايات المتحدة في عهد جو بايدن منافساً مدعوماً وثابتاً ومتماسكاً في مواجهة بكين، وذلك مع عودة بايدن إلى التعددية. وبالمثل، تختلف القيادة الصينية لعام 2021 اختلافاً كبيراً عن نظيرتها قبل عقدين من الزمن. لا يسع العالم سوى الانتظار ليرى كيف ستبدو العلاقات الأمريكية الصينية في عام 2040، وكيف يمكن لكلا جانبي المحيط الهادئ التكيُّف مع نظام عالمي جديد قد لا يكون فيه فائز واحد واضح. لكن دعونا لا ننسى ما قاله الكاتب الأمريكي، إرنست همنغواي، في روايته الرائعة "وداعاً للسلاح" إنَّه "لا يوجد شيء سيئ في هذه الحياة يضاهي الحرب".