“الدبابات قصفت البرلمان”.. بوتين يخشى غضبة الشعب، ولكن يستغل مشهداً مأساوياً لا ينساه الروس للبقاء بالكرملين

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2021/01/31 الساعة 16:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/31 الساعة 22:00 بتوقيت غرينتش
الرئيس الروسي فلاديمير يوتين/رويترز

كانت روسيا في التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بلداً متوحِّشاً وخطيراً. أقام رئيسٌ مدمنٌ على الكحول وهو بوريس يلتسين، محاكمةً في الكرملين، وكانت الحشود تتقاتل في الشوارع، وذات يومٍ أُطلِقَت قذيفةٌ من طريقٍ مزدحمٍ وانفجرت عبر جدارٍ في السفارة الأمريكية. 

شاهد كثيرون عاصمة دولة من القوى العظمى تنزلق ببساطة إلى الفوضى، حينما قصف الرئيس السابق بوريس يلتسين البرلمان في عام 1993 لطرد النواب الذين صوتوا لإقالته

لا يمكن نسيان مشهد الأوراق التي تناثرت في السماء حين صوَّبَت الدبابات ضربةً مباشرة في الطابق العلوي، وهذه المشاهد المأساوية هي أقوى أسلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للبقاء، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية. 

غالباً ما يستحضر فلاديمير بوتين، الضابط السابق في المخابرات السوفييتية، والمسؤول الرصين وشديد الكفاءة الذي خَلَفَ يلتسين في نهاية العقد وقاد بلاده من التعاون مع الغرب إلى مواجهته، فترة التسعينيات "الضائعة" كجزءٍ من استراتيجيته للبقاء. 

والرسالة هي: بدوني ستعود روسيا إلى الفوضى

أكبر موجة غضب 

ومع ذلك ربما حدثت بالفعل فوضى حقيقية، إذ اعتُقِلَ الناشط المعارض للفساد أليكسي نافالني بعد محاولةٍ فاشلةٍ لاغتياله، وأطلق ذلك أكبر موجةٍ من الغضب ضد بوتين خلال عقدين من حكمه. 

وفي تحدٍّ لحملة القمع المُكثَّفة ضد المعارضين، من المُتوقَّع أن يحتشد آلاف الأشخاص أمام مقر أمن الدولة في موسكو للمطالبة بإنهاء حكم بوتين الطويل وإطلاق سراح أشد معارضيه. 

يأتي ذلك في أعقاب انفجارٍ ضخمٍ للغضب ضد النظام يوم السبت 23 يناير/كانون الثاني، عندما واجَهَ عشرات الآلاف من المتظاهرين تهديداتٍ بالملاحقة القضائية، ودرجات حرارة دون الصفر، في أكثر من 100 مدينة، للمطالبة بالإفراج عن نافالني. 

يواجه بوتين الآن معضلةً: هل يجازف بتحويل نافالني إلى شهيد، أم يخاطر بأن يبدو ضعيفاً في أعين قواته الأمنية من خلال إطلاق سراح عدوه الأكبر؟ يبدو أنه استقرَّ على الخيار الأول. ولكن ربما لإضفاء جوٍ من الانفتاح، سُمِحَ لنافالني بالاستمرار في إدانة بوتين من داخل السجن. 

قال نافالني أمام محكمةٍ يوم الخميس 28 يناير/كانون الثاني عبر الفيديو: "لن تنجح في إخافة عشرات الملايين من الأشخاص الذين تسرقهم الحكومة. نعم، لديك الآن القوة لتقييد يدي، لكنها لن تدوم إلى الأبد". 

اشتهر نافالني، 44 عاماً، من خلال تحقيقاته بالفيديو عن الحياة الفاخرة للنخبة. ودار أحدث هذه التحقيقات حول قصر بوتين الذي تبلغ تكلفته مليار جنيه إسترليني على ساحل البحر الأسود، وحقَّقَ أكثر من 100 مليون مشاهدة. وأُطلِقَ التحقيق بعد اعتقال نافالني والزجِّ به في السجن قبل أسبوعين، بتهمة انتهاك شروط المراقبة. وقال نافالني إنه لم يكن بإمكانه مقابلة الرقابة لأنه كان يتعافى في مستشفى في برلين من محاولة اغتيالٍ بالتسمُّم ألقى اللوم فيها على عملاء الأمن الروس. ويواجه نافالني المحاكمة يوم الثلاثاء 2 فبراير/شباط، وربما السجن لفترةٍ طويلة. 

خلال الأيام القليلة الماضي اعتُقِلَ العديد من مناصريه، بما في ذلك شقيقه أوليغ. ونشرت الطبيبة أناستاسيا فاسيليفا مقطع فيديو لها وهي تعزف مقطوعةٍ موسيقية لبيتهوفن على البيانو، بينما جاءت الشرطة لاحتجازها. وما يدعو للاندهاش هو أنهما اتُّهِما بانتهاك قيود جائحة فيروس كورونا المُستجَد. 

بوتين قد  تغيَّر، ورهانه التخويف من العودة إلى عهد يلتسين

نجح بوتين في اجتياز العديد من الأزمات الدولية، لكن مع دخوله العقد الثالث من اعتلائه السلطة، يبدو أن مزاجه قد تغيَّر. 

قال مارك غالوتي، الأستاذ الفخري في كلية لندن الجامعية ومؤلِّف كتاب "تاريخ موجز لروسيا": "بوتين مُتعَب ويشعر بالملل. يودُّ التنحي إذا استطاع ذلك". لكن لا توجد وسيلةٌ لخلافته- لذا فهو مُحاصَر في السلطة بسبب الخوف العام من الفوضى التي ستنجم عن رحيله. 

وبالنسبة إلى تاتيانا ستانوفايا، المُحلِّلة السياسية في مركز كارنيغي في موسكو، فهذا إلى حدٍّ ما هو سر بقائه. قالت: "تغيَّرت أسباب دعم بوتين. قبل ذلك كانت الأسباب إيجابية، إذ شعر الناس بالفخر إزاء روسيا. لكنهم الآن يصوِّتون له خوفاً من أن يزداد الوضع سوءاً في ظلِّ حكم شخصٍ آخر. إنهم يخشون العودة إلى عهد يلتسين". 

والآن، رغم ذلك لدى الكرملين سببٌ للقلق بشدة. نادراً ما يتَّحد الكثير من المعارضين الحكوميين من مختلف أطياف اليمين واليسار، مثلما فعلوا الأسبوع الماضي حول نافالني، وضد القبول السلبي لبوتين. لطالما دقَّ الاحتجاج ناقوس الخطر خلف الجدران الحمراء الشاهقة في الكرملين، والتي تثير المخاوف من تكرار ثأرية روسيا من الثورات، بدءاً من استيلاء البلاشفة على السلطة إلى الآلام التي تسبَّبَت فيها الشيوعية. 

قال السير جون سويرز، رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني من 2009 إلى 2014: "في كلتا الحالتين، كانت للناس الغلبة على الدولة، وهذا هو أكبر مخاوف بوتين. إنه لا يخاف من الغرب، بل من شعبه". 

استعاد مجد روسيا جزئياً، ولكن أصدقاءه نهبوها

حين خَلَفَ بوتين يلتسين، لم يكن أحدٌ يتخيَّل أن ذلك البيروقراطي اللطيف ضئيل الجسم سيصبح أطول زعيمٌ مدةً في الحكم عرفه الروس منذ أن حكم جوزيف ستالين الاتحاد السوفييتي. بمساعدة الازدهار الاقتصادي في العقد الأول من القرن الجاري، استخدم بوتين بذكاءٍ رحلات الصيد التي يظهر فيها عاريَ الصدر في سيبيريا وغيرها من الأنشطة الرجولية الغريبة لصياغة صورة الرئيس كرجلٍ نشيط. وعلاوة على ذلك أظهر نفسه باعتباره قادراً على استعادة كرامة روسيا الوطنية ومكانتها في العالم بعد الإذلال الذي تعرَّضَت له بانهيار الاتحاد السوفييتي. 

في الوقت نفسه، زُعِمَ أنه ورفاقه- العديد منهم أصدقاء طفولته من سان بطرسبورغ- يجمعون ثرواتٍ هائلة. قال غالوتي: "كان بوتين الشاب عملياً، وكانت الفكرة هي السماح للجميع بالسرقة في الداخل والبنوك في الخارج". 

كان بوتين شيوعياً متعصِّباً في السابق، وقد حاول أن يكسي نظامه بعباءةٍ أيديولوجية مستوحاة من المفكِّر القومي الغامض إيفان إيلين، كمرشدٍ لنظامه. وجزءٌ آخر من ركائزه الأيديولوجية كان يتمثَّل في الكنيسة الأرثوذكسية. 

بالنسبة لبعض المراقبين لا يعدو كلُّ هذا إلا تزييناً لحكمٍ كليبتوقراطي عنيد يمتد في جميع أنحاء البلاد ويحافظ على الرئيس. قال غالوتي: "هناك تحالفٌ عريضٌ من الروس الأقوياء الذين يستفيدون من الوضع الراهن، وليس فقط القلة الحاكمة الأغنى. يمكن للكثيرين أن يستفيدوا من حكومةٍ كليبتوقراطية سخية وواسعة القاعدة فيها الكثير من الأشخاص الذين يرغبون في استمرار النظام". 

ومع ذلك أثبتت الصراعات أنها أقوى العوامل المساندة لبوتين. إنه سيد الدبلوماسية عالية المخاطر، ويحب التبختر على المسرح العالمي، وقد منح روسيا تأثيراً خبيثاً يتناسب مع جغرافيتها الشاسعة، لكنه لا يتناسب مع اقتصادها المتهالك الذي يعتمد على الموارد الطبيعية. 

تحميل المزيد