حتى اللحظة، بات من الواضح أن وسائل إنهاء جائحة فيروس كورونا ستصل إلى البلدان الفقيرة متأخرة بكثير عن البلدان الغنية. فنصف المعروض المخطط من اللقاحات الرائدة في 2021 ابتلعته بالفعل حفنة من الدول الغنية، من بينها أستراليا وكندا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
هذه الدول مجتمعة تمثل 14% فقط من سكان العالم. وخُمس سكان العالم على الأقل لن يحصلوا على لقاحات كورونا حتى عام 2022، والعديد من البلدان منخفضة الدخل ستنتظر حتى 2023 أو 2024 من أجل تلقيح سكانها بالكامل. وحذر تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، في 25 يناير/كانون الثاني، أن عدم توزيع اللقاحات بالتساوي سيكلف الاقتصاد العالمي 9.2 تريليون دولار.
ليس تكديس اللقاحات فقط.. بل الملكية الفكرية والتكنولوجيا أيضاً
وتقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية إن ضمان حصول مليارات الأشخاص على لقاحات كورونا من المتوقع أن يكون صعباً، خاصة مع تكديس الحكومات الوطنية للمعروض من اللقاح. لكن المهمة زادت صعوبة بفعل تكديس من نوعٍ آخر، وهو تكديس الملكية الفكرية والتكنولوجيا.
إذ يمكن أن توافق الحكومات الغربية وشركات الأدوية على تخفيف القيود على الملكية الفكرية أو تعطيلها مؤقتاً، ونقل التكنولوجيا إلى الشركات المصنعة في الدول النامية. وهذا سيسرع عملية إنتاج لقاحات أقل تكلفة وأكثر فاعلية لتوزيعها على نطاق أوسع. لكن الدول الغنية وشركات الأدوية العملاقة لم ترغب في اتخاذ هذه الخطوة، وتشبثت عوضاً عن ذلك بنظامٍ اقتصادي قديم شبه استعماري يضر بالدول الفقيرة ويهدد باستمرار الجائحة لمدة أطول، كما تقول المجلة.
الملكية الفكرية تعرقل الدول الفقيرة
10 من 13 لقاحاً مرشحاً لكوفيد-19 جرت أو تجري عملية تطويرها في شركات أدوية في الدول الغنية. هذه الشركات قصرت تصنيع اللقاح على شركاء ومصنعين في الغرب، تاركة عدداً من الجهات التي يمكن أن تنتج اللقاحات في الدول الفقيرة في عراء الجائحة.
يمكن أن تساعد مشاركة الملكية الفكرية والتكنولوجيا مع المنتجين في الدول النامية كثيراً في زيادة إنتاج اللقاحات وتقليل التوزيع غير المتساوي. لكن عدداً قليلاً من شركات الأدوية الغربية وافق على نقل التكنولوجيا، فشركة جونسون آند جونسون الأمريكية العملاقة منحت رخصة إنتاج لقاحها لشركة Aspen Pharmacare الجنوب إفريقية، في حين دخلت شركتا أسترازينيكا البريطانية السويدية ونوفافاكس الأمريكية في اتفاقات مع معهد المصل واللقاح في الهند.
وينبغي أن تُعقد المزيد والمزيد من هذه الاتفاقات، بما أن الدول الفقيرة لديها القدرة على زيادة إنتاجها. فقد كونت 40 جهة تصنيع مختلفة في 14 دولة نامية شبكة تصنِّع نحو 3.5 مليار جرعة من لقاحات مختلفة.
لكن في مايو/أيار الماضي، وصف المدير التنفيذي لشركة الأدوية فايزر جهود منظمة الصحة العالمية بأنها "هراء" و"خطيرة"، لأنها تهدف إلى تشجيع الشركات على مشاركة التكنولوجيا والملكية الفكرية طواعية، من أجل إتاحة المزيد من جرعات اللقاح والعلاجات والمنتجات الأخرى الضرورية لمحاربة كوفيد-19. ولم تقدم أي شركة أدوية كبرى حتى الآن أي إسهام في تجمع إتاحة التقنية الذي أنشأته منظمة الصحة العالمية لمحاربة الجائحة.
مقترحات تجميد الملكية الفكرية حتى انتهاء الجائحة
وهذا الموقف المؤسف أجبر الهند وجنوب إفريقيا، بدعمٍ من إسواتيني وكينيا وموزمبيق وباكستان، على دعم مقترح في أكتوبر/تشرين الأول يطلب من منظمة الصحة العالمية تجميد معاهدة الملكية الفكرية حتى انتهاء الجائحة، وحصل هذا المقترح على دعم نحو 100 دولة أخرى، أغلبها من الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل.
اتفاق جوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة، المعروف بـ "تريبس"، يُلزم 164 دولة عضوة بمنظمة الصحة العالمية بفرض أغلب إجراءات حماية الملكية الفكرية بخصوص اللقاحات والأسرار التجارية ومسحات التشخيص وأجهزة التنفس الصناعي، ومعدات طبية أخرى.
ويجادل داعمو المقترح بأن تجميد هذه الإجراءات سيسمح للشركات المصنعة في جميع أنحاء العالم بتلبية الاحتياج العالمي للقاحات بسرعة أكبر. وإن وافقت الدول الغنية على التجميد، لن تضطر أغلب الدول الفقيرة إلى الانتظار حتى عام 2023 أو 2024 لتلقيح أغلب سكانها. ويمكن أن يسهم التجميد أيضاً في ضمان أن العالم لديه احتياطي من الجرعات الفعالة في حال ثبتت عدم فاعلية اللقاحات المرشحة، وهذا احتمال قائم.
لكن المملكة المتحدة والولايات المتحدة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، البلدان التي يتصادف أنها تكدس إمدادات لقاحات كورونا والتكنولوجيا، عارضت الطلب، كما أعربت شركات الأدوية الكبرى عن اعتراضها، زاعمة أن الطلب واسع النطاق للغاية، وأنه لا يعترف بالافتقار المحتمل للقدرة التقنية أو المواد الخام في البلدان الفقيرة، وأن نظام الملكية الفكرية الحالي لمنظمة التجارة العالمية يوفر بالفعل مرونة كافية في حالة الطوارئ الصحية العامة.
استمرت هذه المقاومة رغم حقيقة أن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة يخوضان الآن نزاعاً على نقص إمدادات لقاح أسترازينيكا. ستجتمع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية مرة أخرى في أوائل فبراير/شباط لمناقشة الأمر قبل الاجتماع العام للهيئة التجارية في مارس/آذار، حيث من المرجح أن يتم رفض الاقتراح أو تقييده بشدة.
احتكار المعرفة
لمعارضة الاقتراح أمام منظمة التجارة العالمية، تعتمد الدول الغنية على نفس الحجج والادعاءات التي استخدمتها لإنشاء نظام الملكية الفكرية الدولي الحالي. في أكتوبر/تشرين الأول، جادلت الحكومة البريطانية بأن حماية الملكية الفكرية لن تمنع في الواقع الوصول إلى اللقاحات أو العلاجات أو التقنيات ذات الصلة.
لكن من الواضح أن هذا غير صحيح: فقد أدت هذه القواعد بشكل ثابت إلى ارتفاع أسعار الأدوية المهمة وجعلتها بعيدة عن متناول أفقر الناس في العالم. وعندما وصل وباء فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة المسبب لمرض الإيدز إلى ذروته في التسعينيات، مات الملايين من الناس في الدول النامية، ومن أسباب ذلك أن الأدوية الضرورية تكلف 10 آلاف دولار لكل شخص سنوياً. وبعد نحو عقد من الزمان، وبعد رفع الدعاوى القضائية من 39 شركة أدوية، تمكنت جنوب إفريقيا المتضررة بشدة من إزالة بعض حواجز براءات الاختراع. وحينها انخفضت أسعار الأدوية المضادة للفيروسات بشكل كبير، وتلقى المزيد من الناس العلاج.
ويزعم مؤيدو قيود اتفاقية تريبس، بما في ذلك الحكومات وشركات الأدوية وحتى هيئة تحرير صحيفة وول ستريت جورنال، أن الوضع الحالي يمكن تكييفه، مشيرين إلى المرونة في قواعد منظمة التجارة العالمية التي تسمح للدول الأعضاء بتجاوز براءات الاختراع عن طريق إصدار ما يعرف باسم "الترخيص الإجباري" في حالة الطوارئ الصحية العامة.
وهذا يسمح لمصنع في العالم النامي، على سبيل المثال، بإنتاج لقاح أو علاج حاصل على براءة اختراع من شركة في الغرب. لكن التراخيص الإجبارية، رغم كونها مفيدة، لا تساعد على المواقف التي تتطلب إجراءات سريعة. عملية الحصول على مثل هذا الترخيص عملية شاقة: في حالة لقاحات كورونا على سبيل المثال، سيتعين على الشركات المصنعة أولاً إثبات محاولتها التفاوض على ترخيص طوعي مع شركة الأدوية ذات الصلة، وإثبات هذا يصعب تحقيقه في جميع الحالات باستثناء حالات قليلة؛ لأن أصحاب البراءات يمكنهم ببساطة رفض العملية أو تأخيرها.