كان 2020 هو عام وباء كورونا والعام الجاري 2021 هو عام اللقاحات. ورغم دفعة الأمل الكبيرة التي اجتاحت العالم بتولي جو بايدن رئاسة أمريكا وعودة واشنطن إلى منظمة الصحة العالمية والانضمام للمبادرة العالمية لتوزيع اللقاحات، تظل قضية وصول تلك اللقاحات إلى جميع الدول بطريقة عادلة ومتساوية حلماً بعيد المنال.
ولا يزال وباء كورونا يواصل تفشيه المقلق وحصد الأرواح على مستوى العالم بصورة أسرع مما كان عليه قبل عام، حيث اقترب عدد المصابين بالفيروس من 100 مليون شخص تعافى منهم نحو 72 مليوناً وفقد أكثر من 2 مليون و140 ألفاً حياتهم، بحسب إحصاءات موقع وورلدميترز كورونا اليوم الإثنين 25 يناير/كانون الثاني.
مع بدء الدول الغنية في حملة تطعيم مواطنيها باللقاحات المتعددة وأبرزها فايزر/ بايونتيك وموديرنا الأمريكيين وأسترازينكا البريطاني وساينوفارم الصيني وسبوتنيك الروسي، بدأت تظهر مؤشرات على مدى تعقيد الأمر والتحديات الهائلة التي تواجه عملية إنتاج وتوصيل اللقاح بالسرعة المطلوبة.
وحتى تتضح لنا مدى ما تواجهه حرب اللقاح من صعوبات، قال وزير الخارجية الإيطالي لويغي دي مايو أمس الأحد إن "بلاده ستتخذ إجراءات قانونية بحق شركات إنتاج لقاحات فايزر/بيونتيك وأسترازينيكا، على خلفية التأخير في موعد تسليم جرعات اللقاحات المضادة لفيروس كورونا".
دي مايو أضاف لإذاعة "راي" الإيطالية أن "الهدف هو تأمين جرعات اللقاح التي أبرمت روما عقوداً لتسلمها"، مشيراً إلى أن بلاده تعمل حتى لا يطرأ تغيير على برنامج التطعيم، المقرر البدء به أواخر يناير/ كانون ثاني الجاري، وأوضح الوزير الإيطالي أن "السلطات تسعى عبر المفوضية الأوروبية، وجميع القنوات المتاحة لجعل تلك الشركات تحترم عقودها".
تصريحات وزير خارجية إيطاليا سبقها بساعات إعلان رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي شارل ميشيل عن خطة لاستخدام الأدوات القانونية المتاحة لضمان التزام شركات الأدوية بالعقود المبرمة حول تسليم اللقاحات المضادة للفيروس.
وتحدث ميشيل خلال تصريحات لإذاعة "Europe 1" عن حالات تأخير شهدتها البلدان الأوروبية خلال الفترة الأخيرة فيما يخص تسليم اللقاحات المضادة لكورونا. وقال: "نخطط لاستخدام الأدوات القانونية المتاحة لدينا لضمان التزام شركات الأدوية بعقود اللقاحات التي وقعت عليها".
وتعكس هذه التصريحات من الاتحاد الأوروبي حقيقة بسيطة وهي أن الدول الغنية تسعى لأن تؤمن جرعات كافية من اللقاحات لتطعيم مواطنيها، وهذا أمر مفهوم، لكن وفي الوقت نفسه يثير الأمر تساؤلات أخرى بشأن مدى قدرة الدول الفقيرة على تأمين جرعات اللقاح لمواطنيها هي الأخرى، وماذا قد تكون نتيجة تلقيح الدول الغنية لمواطنيها جميعا أولاً قبل أن يأتي الدور على مواطني الدول الفقيرة؟
صحيفة New York Times الأمريكية نشرت الإجابة في صورة نتائج دراسة أكاديمية تم نشرها اليوم الإثنين 25 يناير/كانون الثاني وهي دراسة تعاقدت عليها غرفة التجارة الدولية مع فريق من الباحثين في جامعة كوج التركية و جامعتي هارفارد وميريلاند الأمريكيتين، لبحث التداعيات الاقتصادية التي قد تنجم عن هذا التوزيع غير العادل للقاحات كورونا.
احتكار الدول الغنية للقاحات كورونا
خلصت الدراسة إلى نتيجة قد تبدو بديهية مفادها "إن لم يصل اللقاح إلى الدول الفقيرة.. لن تخرج الدول الغنية سالمة"، إذ باحتكارها المعروض من لقاحات كوفيد-19، ستتسبب الدول الغنية فيما هو أكثر من الكارثة الإنسانية: الدمار الاقتصادي الناتج سيضرب الدول الغنية بقسوة مثلما سيضرب الدول النامية.
وتنطلق الدراسة من افتراض السيناريو الأكثر تطرفاً وهو أن يتم تلقيح الدول الغنية بالكامل بينما تظل نسب التلقيح في الدول الفقيرة شبه منعدمة، سيتسبب في خسائر للاقتصاد العالمي تتجاوز 9 تريليونات دولار، ونصف هذه الخسائر تقريباً ستتحمله الدول الغنية مثل الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا.
وفي السيناريو الذي يرجِّح الباحثون حدوثه، تتمكن الدول النامية من تلقيح نصف سكانها بحلول نهاية العام، لكن الاقتصاد سيتعرض برغم ذلك لضربة تتراوح بين 1.8 تريليون و3.8 تريليون دولار أمريكي، يتركز أكثر من نصفها في البلدان الغنية.
وتخلص الدراسة إلى أن التوزيع المتساوي للقاحات يصب في المصلحة الاقتصادية لكل البلدان، خاصة المعتمدة على التجارة، وهذا يخالف الفكرة الشائعة التي تقول إن مشاركة اللقاحات مع الدول الفقيرة مجرد عمل خيري.
وقالت سيلفا دميرالب، الخبيرة الاقتصادية بجامعة كوج في إسطنبول، التي عملت سابقاً في الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن، وأحد مؤلفي الدراسة: "من الواضح أن جميع الاقتصادات مرتبطة، ولن يتعافى أي اقتصاد بالكامل ما لم تتعاف الاقتصادات الأخرى".
وأشارت دميرالب إلى أن مبادرة خيرية عالمية تُعرف باسم ACT Accelerator، تهدف إلى توفير موارد لمواجهة الجائحة إلى البلدان النامية، قد ضمنت التزامات بأقل من 11 مليار دولار بينما تستهدف الوصول إلى 38 مليار دولار. وتحدد الدراسة الأساس المنطقي الاقتصادي لسد الفجوة. قد يبدو المبلغ المتبقي البالغ 27 مليار دولار في ظاهره وكأنه مبلغ هائل، لكنه مبلغ زهيد مقارنة بتكاليف السماح للجائحة بالاستمرار.
الوباء غير عادل إصابة وتلقيحاً
الفكرة الشائعة بأن الوباء لا يحترم الحدود ولا الانقسامات العرقية والطبقية روج لها الرؤساء التنفيذيون والنقاد، ولكن كذبت هذا المفهوم المريح في ظاهره حقيقة أن كوفيد-19 قد تفنن في الفتك وتدمير سبل العيش بعمال الخدمات ذوي الأجور المنخفضة، وخاصة الأقليات العرقية، في حين أن الموظفين ذوي الياقات البيضاء تمكنوا إلى حد كبير من العمل بأمان من المنزل، وأثرياء العالم يمكنهم أن يتغلبوا على الجائحة في اليخوت والجزر الخاصة.
لكن في مجال التجارة الدولية، لا مخبأ من فيروس كورونا. بدلاً من ذلك هناك سلاسل إمداد عالمية تنتج قطع الغيار اللازمة للصناعات، وسيتعطل ذلك طالما الفيروس نشط. وقد فحص فريق من الاقتصاديين المنتسبين إلى جامعة كوج وجامعة هارفارد وجامعة ماريلاند البيانات التجارية عبر 35 صناعة في 65 دولة، مما أدى إلى استكشاف مكثف للآثار الاقتصادية للتوزيع غير المتكافئ للقاحات.
إذا ظل الناس في البلدان النامية عاطلين عن العمل بسبب عمليات الإغلاق المطلوبة لوقف انتشار الفيروس، فسيكون لديهم أموال أقل لإنفاقها، مما يقلل من مبيعات المصدرين في أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا. وستكافح الشركات متعددة الجنسيات في الدول المتقدمة أيضاً لتأمين الأجزاء والمكونات والسلع المطلوبة.
وفي قلب القصة حقيقة أن معظم التجارة الدولية لا تتضمن سلعاً مكتملة ولكن أجزاء يتم شحنها من بلد إلى آخر لتحويلها إلى منتجات. من بين 18 تريليون دولار من السلع التجارية العام الماضي، مثلت ما يسمى بالسلع الوسيطة 11 تريليون دولار، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
تأثيرات اقتصادية تتحملها الدول الغنية
وتوصلت الدراسة إلى أن استمرار انتشار الوباء في البلدان الفقيرة من المرجح أن يكون أسوأ بالنسبة للصناعات التي تعتمد بشكل خاص على الموردين في جميع أنحاء العالم، من بينها السيارات والمنسوجات والإنشاءات والبيع بالتجزئة، حيث يمكن أن تنخفض المبيعات بأكثر من 5%.
وتضيف النتائج طبقة معقدة إلى الافتراض الأساسي بأن الوباء سيترك الاقتصاد العالمي أكثر تفاوتاً من أي وقت مضى. في حين أن هذا يبدو صحيحاً، فإن أحد الأشكال الصارخة لعدم المساواة- الوصول إلى اللقاحات- يمكن أن يسبب مشاكل عالمية.
وفي شهادة غير عادية على القدرات الابتكارية لأمهر العلماء في العالم، أنتجت بعض شركات الأدوية الرائدة لقاحات منقذة للحياة في وقتٍ صغير، لكن أغنى البلدان في أمريكا الشمالية وأوروبا طلبت معظم المعروض، بما يكفي لتطعيم سكانها مرتين وثلاث مرات، تاركة البلدان الفقيرة تتدافع لتأمين حصتها.
ومن المرجح أن تضطر العديد من البلدان النامية، من بنغلاديش إلى تنزانيا إلى بيرو، إلى الانتظار حتى عام 2024 قبل تطعيم سكانها بالكامل. وقد اكتسبت مبادرة تزويد الدول الفقيرة بموارد إضافية دفعة مع تولي الرئيس بايدن منصبه. لم تُسهم إدارة ترامب في القضية. لكن كبير المسؤولين الطبيين عن الجائحة في إدارة بايدن، الدكتور أنتوني فاوتشي، قال على الفور إن الولايات المتحدة ستنضم إلى حملة مشاركة اللقاحات.
وعلى عكس تريليونات الدولارات التي أنفقتها الحكومات في الدول الغنية لإنقاذ الشركات والعاملين المتضررين من حالة الطوارئ الصحية والانكماش الاقتصادي المؤلم، كافحت البلدان النامية للاستجابة للجائحة.
ونظراً لأن العمال المهاجرين من البلدان الفقيرة فقدوا وظائفهم أثناء الجائحة، لم يتمكنوا من إرسال نفس القدر من الأموال إلى أوطانهم، مما وجه ضربة كبيرة للبلدان التي تعتمد على هذه الحوالات مثل الفلبين وباكستان وبنغلاديش.
وأدى الركود العالمي إلى خفض الطلب على السلع الأساسية، مما أدى إلى تدمير منتجي النحاس مثل زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والبلدان التي تعتمد على النفط مثل أنغولا ونيجيريا. ومع زيادة حالات كوفيد -19، أدى ذلك إلى ركود السياحة، وخسارة الوظائف والإيرادات في تايلاند وإندونيسيا والمغرب.