في خطوة مفاجئة تغيرت نبرة الإمارت تجاه تركيا وبدا وكأنها تسعى إلى استعادة علاقاتها مع أنقرة بعدما شهدت هذه العلاقات حالة من الصراع السري والعلني استمرت على مدى السنوات الماضية، وكانت هناك العديد من الدوافع التي أججت الصراع بين البلدين، وعلى الرغم من عدم وقوع تغير جوهري في هذه الدوافع، فإنه من الواضح أن دولة الإمارات بات لديها دوافعها الخاصة لاتخاذ خطوة التقارب والتي تبدو أنها من جانبها فقط ـ حتى الآن على الأقل ـ خصوصاً أن الموقف التركي فيما يبدو أنه متحفظ ومتشكك في هذه الخطوة ويريد لها أن تكون أكثر رسمية وجدية من ذلك، وأن تصدر على مستوى أعلى من أنور قرقاش، الذي أطلق خلال الأسبوع الأخير تصريحين على التوالي يستجدي فيهما التقارب التركي.
دوافع الخلاف:
كانت السنوات الأخيرة قد شهدت تدهور العلاقات الإماراتية التركية على خلفية دعم الإمارات والسعودية إطاحة الجيش بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي واستمرار الرفض التركي للإدارة المصرية حتى بعد إجراء دورتين للانتخابات الرئاسية، كما تصاعدت الخلافات بين البلدين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا منتصف عام 2016 واتهام الإمارات بالوقوف خلفها، واستمر تدهور العلاقات بينهما خصوصاً مع الدعم التركي غير المسبوق لقطر والحيلولة دون إسقاط الإمارة الخليجية في براثن الإمارات والسعودية، ناهيك عن الملفات الإقليمية في ليبيا والصومال والسودان واليمن، وصولاً إلى التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، خصوصاً بعد الدور الذي تحاول أن تلعبه الإمارات باعتبارها الدولة القائد في النظام الإقليمي العربي، بل في بعض الأحيان تعتبر نفسها باتت قوة دولية مؤثرة في الإقليم وخارجه.
وقد تبادل المسؤولون في البلدين الاتهامات والانتقادات وتم اتخاذ إجراءات تعكس حالة العداء بين البلدين ومستوى تدهورها بإلقاء تركيا القبض على مواطنين إماراتيين بتهم التجسس، واحتجاز الإمارات لرجل أعمال تركي بتهمة الإرهاب، ولكن لاحقاً وبعد العديد من التطورات في الإقليم اتخذت الإمارات خطوة للتقارب مع تركيا.
الخطوة الإماراتية:
قال وزير الشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش، في مقابلة أجراها مساء الأحد 10/1/2021 ، مع فضائية "سكاي نيوز عربية"، التي تبث من الإمارات، إن بلاده ترغب في تطبيع العلاقات مع تركيا، فيما أعرب عن تطلعه لتحسين العلاقات بين أنقرة والقاهرة، موضحاً: "نقول لتركيا بأننا نريد علاقات طبيعية تحترم السيادة (..) لا يوجد لدينا أي سبب لكي نختلف مع تركيا، فلا توجد مشكلة، ونرى اليوم أن المؤشرات التركية الأخيرة مثل الانفتاح مع أوروبا مشجعة"، وأضاف: "أي مؤشر إيجابي من تركيا تجاه مصر سنرحب به، لأن مصلحة تركيا هي علاقات عربية سوية"، وفيما يبدو أنها الشروط الأساسية للتقارب، أكد: "نريد لأنقرة ألا تكون الداعم الأساسي للإخوان المسلمين، نريد لأنقرة أن تعيد البوصلة في علاقاتها العربية".
كانت هذه التصريحات هي الثانية للمسؤول الإماراتي في أقل من ثلاثة أيام، حيث سبق أن صرح يوم الخميس 7/1/2021 لوكالة "بلومبرغ" الأمريكية قائلاً: "إنّ أبوظبي هي الشريك التجاري الأول لأنقرة في الشرق الأوسط"، مشيراً إلى أن بلاده لا تعتز بخلافاتها مع تركيا، وأن هذه الخلافات تكمن في سعي أنقرة ـ على حد وصفه ـ إلى "توسيع دورها على حساب الدول العربية"، وقد وصفت وكالة الأناضول هذه التصريحات بأنها بمثابة تقليل من شأن الخلاف بين بلاده وتركيا.
رد الفعل التركي:
فيما يبدو أن تركيا لا تقتنع بأن مصالحتها مع الإمارات يمكن أن تمر من بوابة قرقاش ولكنها تريد بوابة أكثر ثقة وجدية، وترهن ركوبها قطار المصالحة بعد أن يعلن مسؤول برتبة أمير اتخاذ خطوات جادة في هذه المصالحة، خصوصا أن الإمارات في السنوات الأخيرة باتت تعتمد العديد من الآليات لجس النبض ومحاولة تسريب بعض الأخبار على لسان مسؤولين ومقربين منها، وفي الوقت نفسه قد تتراجع في أي وقت تريده، إضافة إلى أن التقارب الإماراتي من تركيا يبدو أنه جاء مفاجئاً للظروف الطارئة في الإقليم وأبرزها المصالحة الخليجية، وتدهور علاقاتها مع مصر، والتطبيع الإماراتي الإسرائيلي، خصوصاً أن الموقف التركي من التطبيع صارخ في انتقاد الإمارات ولا يمكن لتركيا قبول التزلف الإماراتي المفاجئ بدون أن تكون متأكدة من صدق هذا التوجه أو على أقل تقدير جديته.
ولذلك فقد وصف مسؤولٌ تركي كبير دعوة الإمارات لتحسين العلاقات مع تركيا بأنها خطوةٌ "إيجابية"، لكنه قال لموقع Middle East Eye البريطاني إن أنقرة لا تعتقد أنها إشارةٌ لتقاربٍ وشيك، وقال المسؤول، الذي كان يرد على تصريحات وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الأحدث، التي تشير إلى إمكانية "إعادة ضبط" العلاقات بين الخصمين، إن تركيا لم تحاول قط تقويض الحكومة الإماراتية، ويتعامل المسؤولون في أنقرة بحذرٍ من الإيجابية النسبية لتصريحات الوزير الإماراتي، ويعتقدون أنها لا تكفي للتأكيد على أن أبوظبي قد غيَّرت موقفها في سياساتها الإقليمية، الأمر الذي وضع الحكومتين في خلافٍ حول قضايا مُتعدِّدة، بما في ذلك في سوريا وليبيا والصومال، كما قال المسؤول التركي إن الإمارات اتَّخَذت مؤخَّراً بعض الخطوات الإيجابية الأخرى التي لم يُكشَف عنها أو تُناقَش علناً.
توقيت التقارب ودوافعه:
فيما يبدو أن الإمارات تحاول أن تستعيد إحكام ـ من وجهة نظرها ـ قبضتها على الإقليم وأن تكون في الصدارة ولا يسبقها أي من مصر أو السعودية ولهذا تسعى بخطوات متسارعة ألا يفوتها قطار المصالحات في المنطقة، خصوصاً أنه فيما يبدو أن المصالحة الخليجية لم تكن على هواها أو على أقل تقدير لم تكن بتوقيتها، وأن السعودية اتخذت خطوة المصالحة بصورة منفردة، وهناك العديد من الدلائل على ذلك ـ وإن لم يكن هنا مجال استعراضها ـ أبرزها أن وضوح الموقف الإماراتي من المصالحة لم يكن واضحاً إلا عقب القمة بما يقرب من خمسة أيام عندما أعلن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، بتاريخ 11/1/2021، أن بلاده طوت صفحة الخلاف مع قطر، لكن توجد حاجة إلى "خطوات بناء ثقة في المرحلة القادمة"، مضيفاً في تصريحات لقناة "سكاي نيوز عربية": "انتهينا من الخلاف. والإمارات من خلال إعلان العُلا (الصادر عن القمة الخليجية 7/1/2021 ) ومن خلال الثقة في قيادة السعودية لهذا الملف، أنهت هذا الخلاف".
ومن جانب آخر، فإن التقارب أو على أقل تقدير التنسيق الأمني بين مصر وتركيا خصوصاً في الملف الليبي بات واضحاً للعيان، حتى إن مسؤولاً مصرياً أكد في تصريحات نشرها موقع مصري بتاريخ 28 /12/2020 أن مصر تستبق تحركاً إماراتياً لإشعال حرب أهلية في ليبيا، وأن وفداً أمنياً مصرياً رفيع المستوى زار طرابلس للمرة الأولى منذ عام 2014، وفيما يبدو أن التقارب المصري التركي في الملف الليبي جاء لأكثر من هدف، أبرزها استعادة مصر دورها في الإقليم أو على أقل تقدير الحفاظ على عدم استبعادها من الملف الليبي، ومن ناحية أخرى رداً على التغول الإماراتي في المنطقة على حساب مصر سواء بالتطبيع مع إسرائيل أو التحرك الإماراتي في ليبيا، وفي غيرها من الدول الإفريقية ضد المصالح المصرية.
وفي هذا الاتجاه فقد رصدت العديد من التقارير الإعلامية تنامي الخلافات بين مصر والإمارات واتساع الهوة وتدهور التنسيق بينهما، وهناك دلائل متعددة على أن هناك مساعي مصرية تركية مشتركة لنزع الإمارات من العلاقات بين البلدين والسعي لبحث علاقاتهما ـ بغض النظر عن التعاون أو الصراع ـ بصورة مباشرة دون وسطاء أو وصاية من أطراف ثالثة، وهو ما أكده ياسين أقطاي، مستشار رئيس حزب "العدالة والتنمية" الرئيس رجب طيب أردوغان، في تصريحات صحفية في ديسمبر/كانون الأول الماضي بضرورة أن يكون هناك تواصل بين مصر وتركيا، بغض النظر عن أي خلافات سياسية قائمة، بل واتهم مباشرة الإمارات بالتحريض على إشعال الصراع بين مصر وتركيا بقوله: "هناك مَن يُحرّض الجيش المصري على معاداة ومحاربة الجيش التركي، ونعلم أن دولة الإمارات، وربما فرنسا، تريدان أن يقوم الجيش المصري بمحاربة تركيا، لكنّ هذا شيء مستحيل، ولن يحدث".
ترامب ليس الخاسر الوحيد في الانتخابات الأمريكية:
كان مشهد متابعة الانتخابات الأمريكية في العالم العربي لافتاً، فقد كان الاهتمام بها مشابهاً للاهتمام الأمريكي ويفوق الاهتمام بالانتخابات المحلية، وذلك نظراً لتأثير الرئيس الأمريكي الجديد في ملفات المنطقة، ولم تكذب هذه التوقعات، فما إن أعلن فوز بايدن ـ والذي تأخر عن المعتاد في الانتخابات الأمريكية السابقة ـ حتى تسارعت ملفات المنطقة بإعادة الترتيب والتنسيق، وقد كانت بعض الدول العربية هي الخاسرة أكثر من غيرها من بين دول العالم وخصوصاً السعودية ومصر والإمارات، وهناك من يفسر التغيرات التي حدثت في المنطقة خصوصاً فيما يتعلق بالمصالحة الخليجية وما تبعها من مساعٍ للمصالحات في الملفات الأخرى، ومن بينها الملف التركي بتأثير نتيجة الانتخابات الأمريكية.
السيناريوهات المتوقعة:
- مصالحة عربية تركية:
أمام الدول العربية الثلاث (مصر السعودية الإمارات) فرصة كبيرة لأن تعيد ضبط علاقاتها مع تركيا على محددات وأطر مناسبة للجميع، وقد تكون تلميحات الإمارات التي وردت في تصريحات قرقاش بأن "أي مؤشر إيجابي من تركيا تجاه مصر سنرحب به، لأن مصلحة تركيا هي علاقات عربية سوية"، سعياً منها لتحقيق هذه الغاية، ولكن ذلك في الوقت نفسه قد يكون مرفوضاً من جانب مصر والسعودية خصوصاً أن هناك فيما يبدو رفضاً من جانبهما للانطواء تحت جناح الإمارات من جديد، ومن ثم فإن ما فشلت فيه الإمارات بالصراع تريد تحقيقه بالتعاون والسلام، ومن ثم يبدو هذا السيناريو بعيداً عن الواقع، وإن كانت المصالحة بين تركيا وأي من الدول الثلاث ستجر خلفها المصالحات مع الدولتين الأخريين.
إلا أن تنفيذ هذا السيناريو على هذا النحو قد يكون مبالغاً فيه، وإن كان من الممكن أن يكون من بين المزايا التي تعرض الإمارات تقديمها لتركيا أن تكون وسيطاً في تحسين العلاقات السعودية التركية، والعلاقات التركية المصرية، وإن كان ذلك لم يعد يجد صدى داخل تركيا، خصوصاً بعدما باتت هناك قنوات أمنية مفتوحة بين أنقرة والقاهرة، ولم يعد هناك حاجة لحامل رسائل بينهما في إطار قدرتهما على التواصل المباشر بينهما.
- فشل الخطوة:
لا يمكن توقع نجاح هذه الجهود في ظل مستواها الحالي، خصوصاً أن تركيا نفسها تجد أن المصالحة على هذا النحو قد لا تكون جادة، ومن جانبها قد تجد الإمارات أن الجانب التركي يستغل الفرصة ويغالي في طلباته ويسعى لإحراجها، وهو أمر قد ترفضه الإمارات وتعدل عن هذه التحركات، خصوصاً أن هناك تقارير إماراتية تروج لوجود أزمات بين الإدارة الأمريكية الجديدة والرئيس التركي الحالي "يرى معظم أعضاء الفريق المحتمل في إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن أن الولايات المتحدة وتركيا تسيران على طريق تصادمي"، مما قد يعني أن الإمارات ترى أن الإدارة الأمريكية الجديدة لن تكون معنية بدعم مثل هذه المصالحة، ومن ثم قد تتوقف عن مخاطبة ود تركيا وتعدل عن قرارها بالمصالحة.
- تهدئة وليس مصالحة:
قد تمسك تركيا بتلابيب الفرصة وتبني عليها وتدفع الإمارات دفعاً لأن ترفع من مستوى القائل بالمصالحة خصوصاً أن هناك توجهات سياسية تركية على أعلى مستوى نحو استعادة علاقاتها الخارجية وتصفير المشاكل من جديد، وقد يجد التحرك الإماراتي قبولاً تركياً، وإن كان رد الفعل الحالي مجرد ضغوط على الإمارات لإثبات جديتها ورفع مستوى التمثيل، وهذا السيناريو قد يلاقي ترحيباً من الجانبين التركي والإماراتي، خصوصاً أن الإدارة الأمريكية الجديدة تسعى لإعادة ترتيب ما أفسده ترامب في محاولة منها لرأب صدع العلاقات الأمريكية مع الأطراف الدولية، ومن بينها دول منطقة الشرق الأوسط، بغض النظر عن موقفها من هذه الدول فرادى، وقد يجبر ذلك دول المنطقة على إعادة تهدئة الأوضاع دون استعادة نمط العلاقات التعاونية، ولكن على أقل تقدير وقف تصاعد الصراعات، ومن الممكن أن يكون هذا هو السيناريو الأقرب للتحقق بين تركيا الإمارت، وقد يؤدي ذلك في النهاية إلى المصالحة، وليست الأزمة الخليجية ببعيدة، فقد كانت الأمور متأزمة، ومع ذلك وبصورة مفاجئة تم توقيع المصالحة بين البلدان الأربعة وقطر، ويدعم أيضاً هذا السيناريو الدور الإقليمي المتزايد لتركيا وعلاقتها المتنامية في القضايا الإقليمية التي تتقاطع فيها الإمارات وغيرها من الدول العربية.
متى تدخل تركيا على خط المصالحة مع الدول العربية؟
هناك عدة مؤشرات يمكن من خلالها التعرف على الموقف التركي من تلميحات المصالحة القادمة من الخليج العربي والإمارات بشكل خاص، وتتمثل أهم هذه المؤشرات فيما يلي:
– استعداد قطر لأن تقوم بدور لتحسين العلاقات الخليجية التركية، فالمصالحة التركية الخليجية قد تكون متوقفة على إمكانية أن تقوم قطر بدور لتقريب وجهات النظر والوساطة بين الدول الخليجية وتركيا في ظل العلاقات الاستراتيجية والوثيقة التي تربطها بتركيا، وفي إطار التوثيق للمصالحة الخليجية.
– قابليات الدول الخليجية نفسها لاستعادة علاقاتها الاقتصادية مع تركيا، ومن المتوقع إذا ما بدأت هذه العلاقات في النمو وتراجع خطاب المقاطعة والتهديدات أن تنشط العلاقات السياسية، فالاقتصاد الخليجي قد يكون الحصان الأسود في تحقيق المصالحة الخليجية التركية .
– البيئة النفسية التي يمكن أن تخلقها المصالحة الخليجية في تقريب وجهات النظر وتحقيق المصالحة التركية الخليجية، خصوصاً أنه على الرغم من أن قطع العلاقات وإبعاد القواعد العسكرية التركية كان من بين شروط هذه المصالحة إلا أن إتمام المصالحة بدونها قد يكون مؤشراً على قبول خليجي بدور تركي في المنطقة له أبعاد سياسية واستراتيجية، خاصة أن تركيا باتت مؤثرة في العديد من البؤر والقضايا الإقليمية المهمة، خصوصاً أنه مطروح من قبل سؤال رئيسي في المنطقة لماذا السعودية لا تدخل المحور الاستراتيجي التركي القطري الأمر الذي سينعكس بالتأكيد على دول الخليج بصفة خاصة والدول العربية بصفة عامة.