حقق السودان مكاسب من تحركه على الحدود مع إثيوبيا، منها "استعادة" أراضٍ وتوحيد القوى السياسية خلف الجيش والسلطة.
لكن احتمال تأثير تلك المكاسب إيجاباً على ما تواجهه الحكومة الانتقالية من أزمات سياسية واقتصادية ما يزال محل تساؤلات عديدة.
فبالرغم من خلافات عديدة خلال الفترة الانتقالية، تبدو الخرطوم متوحدة حول قضية الحدود مع إثيوبيا واستعادة أراضٍ فقدتها قبل 20 عاماً.
وتقول الخرطوم إن "ميليشيات إثيوبية" تستولي على أراضي مزارعين سودانيين في منطقة "الفشقة" (شرق)، بعد طردهم منها بقوة السلاح، متهمة الجيش الإثيوبي بدعم تلك العصابات، وهو ما تنفيه أديس أبابا متهمة الخرطوم بالتوسع في أراض إثيوبية.
وتشهد تلك المنطقة، البالغ مساحتها 251 كم مربعاً، أحداث عنف بين مزارعين سودانيين وإثيوبيين، خاصة في موسم المطر، يسقط خلالها قتلى وجرحى.
توحد لأجل الأرض
توحد السودانيين خلف جيشهم وهو يعيد انتشاره "داخل الأراضي السودانية" بدا جلياً في مواقف مجلس السيادة الانتقالي، بشقيه العسكري والمدني، وكذلك الحكومة المدنية، برئاسة عبدالله حمدوك، إضافة إلى أن كل القوى والأحزاب السياسية أعلنت دعمها للجيش.
وهي خطوة جادة من الخرطوم، بحسب محللين، باعتبار أن الحكومة السابقة (نظام عمر البشير 1989: 2019) تركت أمر الحدود نهباً لدول الجوار شمالاً وشرقاً.
ويرى المنتقدون أنه حان الوقت ليستعيد السودان أراضيه في ظل حكومة جاءت بثورة، في إشارة إلى احتجاجات شعبية منددة بتردي الأوضاع الاقتصادية أجبرت قيادة الجيش، في 11 أبريل/نيسان 2019، على عزل البشير من الرئاسة.
وتحكم السودان سلطة انتقالية منذ 21 أغسطس/آب 2019 وحتى إجراء انتخابات في يناير/كانون الثاني 2024.
وتهيمن على الفترة الانتقالية خلافات حادة بين القوى السياسية ونقص متجدد في سلع استهلاكية أساسية.
وأعلنت "قوى إعلان الحرية والتغيير" (الائتلاف الحاكم) دعمها للجيش من أجل استعادة الأراضي السودانية شرقي البلاد.
وقال عضو المجلس المركزي لـ"قوى إعلان الحرية والتغيير"، إبراهيم الشيخ، في تصريحات صحفية الخميس: "نؤكد على أهمية حشد الدعم السياسي والمعنوي للقوات المسلحة، بعد تمكنها من استرداد هذه المناطق بنسبة 90%".
وفي 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن وزير الخارجية السوداني، عمر قمر الدين، في مؤتمر صحفي، سيطرة جيش بلاده على كامل الأراضي الحدودية مع إثيوبيا.
حماس ثوري
وفق الكاتب والمحلل السياسي، يوسف حمد، فإن "الحكومة الانتقالية في السودان محاصرة بحماس ثوري يطالبها باستعادة وتحرير الأراضي المحتلة في الفشقة، وحلايب" في إشارة إلى المنطقة المتنازع عليها مع مصر.
وأضاف: "أي تحرك في هذا الاتجاه يكسبها (الحكومة) التأييد ويعالج إخفاقات النظام البائد ويطغى على التراجع الاقتصادي والسياسي المستهجن لدى الشارع السوداني الثائر".
وتواجه الحكومة الانتقالية انتقادات شديدة بأنها لم تكمل مهام الثورة، ولذا تكررت مظاهرات ومسيرات احتجاجية رفعت مطالب، أبرزها محاكمة رموز النظام السابق، وتحقيق العدالة لشهداء الثورة، وإصلاح الجيش والأجهزة العدلية وإيقاف التدهور الاقتصادي وتشكيل المجلس التشريعي (البرلمان).
ترسيم الحدود
ومن جانبه قال رئيس مفوضية الحدود، معتز تنقو، في تصريحات صحفية، الخميس، إن الجهود التي بُذلت مع إثيوبيا، عبر الحكومات والحقب المختلفة، لوضع حد نهائي لترسيم الحدود، لم يتم حسمها حتى الآن؛ بسبب الحجج والدعاوى الكثيرة التي تثيرها إثيوبيا، وبينها الموارد المالية والاختلافات الكثيرة حول الحدود، إلى جانب وضع العلامات منذ الاستعمار الإنجليزي.
ورأى "أليكس دي وال"، مختص في الشأن الإفريقي، المدير التنفيذي لمركز السلام العالمي (أهلي)، أنه بعد عام 1998 أحيا السودان وإثيوبيا محادثات كانت قد دخلت في سبات منذ أمد طويل، ليحددا بدقة حدودهما البالغ طولها 744 كيلومتراً.
وتابع "دي وال"، عبر مقال نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في 4 يناير/كانون الثاني الجاري، أن "الفشقة" كانت أصعب منطقة لتسوية الخلاف حولها، فوفقاً لمعاهدات الحقبة الاستعمارية لعامي 1902 و1907، تمتد الحدود الدولية إلى الشرق منها.
وأوضح أن "هذا يعني أن الأرض ملك للسودان، لكن الإثيوبيين استقروا في المنطقة، حيث مارسوا الزراعة، وهم يدفعون ضرائبهم للسلطات الإثيوبية".
مفاوضات مرتقبة بين السودان وإثيوبيا
لكن مراقبين يرون أن تصعيد السودان لقضية الحدود حالياً ليس في صالحه، فهو يعاني أصلاً من أوضاع اقتصادية متدهورة، وأي تصعيد عسكري مع الجارة إثيوبيا قد يدفع بالبلاد إلى مزيد من التدهور.
كما أن الفترة الانتقالية منوط بها إيجاد علاقات خارجية متوازنة من أجل الاستقرار الداخلي، وأن لا تنجر السلطة الانتقالية إلى تنفيذ أجندة خارجية وتخوض حرباً نيابة عن أطراف إقليمية أخرى، وفق المراقبين.
لكن ماجد محمد علي، وهو صحفي سوداني مهتم بشؤون القرن الإفريقي، فقال إنه "بغض النظر عن دوافع تحرك السودان العسكري تجاه الحدود، فإن الحقيقة هي أن السودان استعاد أراضيه".
وتابع: "تبعية منطقة الفشقة الصغرى والكبري للسودان هي انتصار كبير، فما تم خلال السنوات العشرين الماضية من سيطرة المزارعين الإثيوبيين هو أشبه بالاستيطان، عبر مجموعات سكانية بأعداد كبيرة في مشاريع زراعية كبيرة".
وأردف: "لقد خرجت أراضٍ عن سيطرة السودان، والانتشار الأخير داخل أراضي الفشقة أعاد الأراضي إلى السيادة السودانية".
وفي 6 يناير/كانون الثاني الجاري، اتهم ممثل إثيوبيا في لجنة الحدود المشتركة مع السودان، إبراهيم إندريس، خلال مؤتمر صحفي، الخرطوم بـ"انتهاك الاتفاق الموقع بين البلدين عام 1972 بشأن القضايا الحدودية، وذلك بغزو الأراضي الإثيوبية".
وأضاف إندريس أن الاتفاق يدعو إلى استمرار الوضع على الأرض، لحين توصل البلدين إلى حل ودي لمسألة الحدود بينهما.
واستبعد "علي" أن تؤدي تطورات الصراع الحدودي إلى نشوب حرب بين البلدين، قائلاً: "لن تكون هناك حرب، بل مفاوضات يهدف الإثيوبيون من خلالها إلى عقد اتفاقيات لاستخدام الأراضي السودانية في الزراعة".
وفي 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن السودان إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى الحدود مع إثيوبيا، لـ"استعادة أراضيه المغتصبة من ميليشيا إثيوبية" في "الفشقة"، وفق وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا).
وجاء هذا التحرك في أعقاب اندلاع مواجهات مسلحة، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي وقوات "الجبهة الشعبية لتحرير إقليم تيغراي" الحدودي مع السودان.
تاريخ الخلافات بين البلدين
لم يكن الخلاف الأخير الذي أعقب هجوماً مسلحاً استهدف قوة للجيش السوداني في جبل "طورية" (شرق)، منتصف ديسمبر/كانون الأول 2020 هو الأول بل سبقه الكثير من المناوشات بين البلدين.
وتتميز أراضي "الفشقة" بخصوبتها الزراعية اللافتة، وهي مقسمة إلى ثلاثة مناطق، هي: "الفشقة الكبرى" و"الفشقة الصغرى" و"المنطقة الجنوبية".
والنزاع في هذه المنطقة قديم، لكنه ظل بين مزارعين إثيوبيين وسودانيين، حيث يهاجم مسلحون إثيوبيون مزارعين سودانيين، بغرض السلب والنهب، وكثيراً ما سقط قتلى وجرحى، وفق الخرطوم.
ويتهم السودان الجيش الإثيوبي بدعم ما يصفه بـ"الميليشيات الإثيوبية"، وهو ما تنفيه أديس أبابا، وتقول إنها "جماعات خارجة عن القانون".
وفي عام 1995، وعقب محاولة اغتيال فاشلة للرئيس المصري آنذاك، محمد حسني مبارك (1981 – 2011)، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، توغل الجيش الإثيوبي خلال رئاسة مليس زيناوي، داخل السودان، ثم انسحب لاحقاً.
واتهمت القاهرة الرئيس السوداني حينها، عمر البشير (1989 – 2019)، بالمسؤولية عن محاولة الاغتيال، وهو ما نفته الخرطوم.
في 1972، وقع السودان وإثيوبيا اتفاقاً بشأن القضايا الحدودية.
في عام 1963، صادقت الدول الإفريقية في منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حالياً) على عدم تغيير الحدود المرسومة بواسطة الاستعمار، واعتمادها حدوداً فاصلة بين الدول المستقلة، وبالتالي أصبح خط "قوين" هو المعترف به دولياً بين السودان وإثيوبيا.
وذلك الخط تم رسمه في 1902، ضمن اتفاقية أديس أبابا في العام نفسه، خلال فترة الحكم الثنائي (البريطاني– المصري) للسودان، وجرى الترسيم بواسطة الميجر البريطاني "قوين"، فأصبح الخط يُعرف باسمه.
لا يزال السودان وإثيوبيا يعترفان بكل من اتفاقية 1902 (هارنجتون – منيليك)، وبروتوكول الحدود لسنة 1903.
وتقول الخرطوم إن أجزاءً من منطقتي "الفشقة الكبرى" و"الفشقة الصغرى" تحت سيادة إثيوبية فعلية، وإن سيادة السودان على المنطقتين معترف بها من أديس أبابا، لكنها معلقة.
وتقول قومية "الأمهرا" في إثيوبيا إن تلك الأرض هي أرض أجدادهم، وإنهم لن يتركوها.