جاءت أعمال الشغب التي وقعت في مبنى الكونغرس الأمريكي لتشكّل صدمةً حقيقية للأمريكيين الذين يركزون عادة معظم اهتمامهم على التهديدات الخارجية. والشاهد هنا أن المحاولة الضمنية للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب لقلب نتائج الانتخابات والاحتفاظ بالسلطة من خلال أساليب غير نظامية تنطوي على التهديد الأشد وطأة للديمقراطية التمثيلية في أمريكا منذ عصر الحرب الأهلية.
ويقول بول بيلار، وهو زميل غير مقيم لمركز جامعة جورج تاون للدراسات الأمنية ومعهد بروكينغز، إن الأحداث العنيفة والصادمة التي وقعت في مبنى الكونغرس طرحت دروساً واضحة واقعية ينبغي الالتفات إليها من جانب المستغرقين في السياسة الخارجية وشؤونها.
"العدو الأخطر في الداخل وليس في الخارج"
أول هذه الدروس يتعلق بوضع أنواع التهديدات التي من المفترض أن تواجهها سياسة الأمن الخارجي والقومي في منظورها الصحيح. وتجعل هذه الأحداث المهتمَ يدرك بأن كثيراً من التهديدات والتهديدات المفترضة التي تشغل حيزاً كبيراً من النقاشات ذات الصلة هي في واقع الأمر أقل أهمية بكثير للولايات المتحدة مما قد يوحي به طول المناقشات واحتدامها. فعلى سبيل المثال، ومقارنةً بما حرَّض دونالد ترامب أنصاره على فعله، ما مقدار الضرر الذي يمكن، مثلاً، أن تلحقه طالبان أو النظام الإيراني بالنسيج الاجتماعي والسياسي لأمريكا؟
لذا، بالاستفادة من منظور يلتفت إلى هذه العوامل، فإن الدرس الأول الذي يجب استخلاصه هو الاحتكام إلى قياس مناسب لحجم التهديدات الخارجية عند الموازنة بين تكاليف ومخاطر التدابير المصممة، بحسب المفترض، لمواجهتها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، التدابير العسكرية. وساعتها سيتبين أن بعض التهديدات المفترضة لا تستحق بوضوح هذه التكاليف والمخاطر.
وبحسب بيلار، الذي نشر تحليلاً في موقع Responsible Statecraft الأمريكي، فإن ثمة درساً آخر يتعلق بطبيعة الأمن القومي نفسه، ففي كثير من الأحيان يجري التعامل مع الأمر على أنه نوع من الألعاب التي تدار عبر الطاولة الجيوسياسية، في نوع من تسجيل الانتصارات والخسائر وهكذا، حيث تحتل هذه القوة أو تلك مربعات على اللوحة. والمشكلة الأبرز في ذلك هو أن الخطاب السياسي غالباً ما يغفل أثناء تركيزه على تلك التهديدات، إن وجدت، عما يدور حوله الأمن القومي الأمريكي حقاً، وهو أمن وصحة ورفاهية الشعب الأمريكي.
"هذا هو التقويض الحقيقي للأمن القومي للولايات المتحدة"
بالتالي فإن الأساس المتين الذي تستند إليه حكومة الولايات المتحدة لتعزيز أمن وصحة ورفاهية الشعب الأمريكي هو قدرة هذا الشعب على اختيار من سيحكمه ويصنع سياساته في انتخابات حرة نزيهة. ومن ثم فإن الهجوم على أصل قدرة الشعب الأمريكي على اختيار قادته على هذا النحو- والذي كان الهجوم المادي على مبنى الكونغرس علامة رمزية عنيفة عليه- هو بطريقة أساسية تقويض للأمن القومي للولايات المتحدة.
كان مسؤولون محترفون في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي ووزارة الأمن الداخلي قد أشاروا بالفعل إلى أن المتطرفين اليمينيين، وتحديداً المجموعات المؤمنة بتفوق العرق الأبيض، تشكل التهديد الأكبر فيما يتعلق بإثارة العنف المحلي بدوافع سياسية. غير أن مقاومة إدارة ترامب للاعتراف بهذه الحقيقة أفضت إلى اختزال الأمر في بعض التحذيرات والتوجيهات المخففة، وهو ربما ما كان له دور في الانهيار الأمني الشامل الذي وقع في أحداث مبنى الكابيتول.
ومع ذلك، فإن ثمة سياسات تكمن وراء صعوبة مواجهة التهديدات الإرهابية المحلية، من ناحية أخرى. إذ إن مكتب التحقيقات الفيدرالي لديه فرصة أفضل في مراقبة وتحييد المجموعات المنظمة المعروف اسمها وتوجهها مقارنةً بالأفراد غير المنظمين الذين قد يستجيبون لتحريض غوغائي في أي وقت. ويبدو أن هؤلاء الأفراد من النوع الأخير هم من قاموا بمعظم أعمال التخريب في مبنى الكابيتول.
لقد لوحظ كثيراً خلال السنوات الأربع الماضية أن الضرر الذي ألحقه ترامب وأتباعه بالجمهورية أقل مما كان يمكن أن يكون، وذلك لأن ضغائنهم العميقة هذه يأتي معها افتقارهم إلى الكفاءة في تنفيذ ما يسعون إليه.
"الضربات الداخلية أشد خطراً على أمريكا من أعدائها الخارجيين"
من جهة أخرى، فإن العودة إلى التهديدات الخارجية تلفت إلى ملاحظتين أخريين حول التمرد والعلاقات الخارجية الأمريكية. فالضربات المحلية التي تلحق بالديمقراطية الأمريكية تُضعف الولايات المتحدة في أي منافسة مع القوى العظمى الأخرى. وعندما كُشف عن التدخل الروسي في انتخابات عام 2016، كان السؤال الذي نُوقش كثيراً هو ما إذا كان الهدف الرئيسي لفلاديمير بوتين هو انتخاب ترامب أم زرع الفوضى في الديمقراطية الأمريكية. ومع ذلك فقد مُحي أي تمييز بين الهدفين منذ فترة، وذلك لأن ترامب هو أقوى سلاح لبوتين في زرع الفوضى. وهكذا عند رؤية مشاهد الفوضى في مبنى الكونغرس وكل ما تواطأ ترامب عليه لتشويه سمعة انتخابات أخرى، سيتبادر إلى ذهنك أن بوتين لا بد وأنه يشاهد مبتسماً ما يحدث.
ثم هناك، بالإضافة إلى ذلك، تأثيرات ما يحدث على التصورات، ليس فقط من جانب الحكومات الأجنبية، لكن من جانب الشعوب الأجنبية أيضاً. فقد كانت "القوة الناعمة" لأمريكا، خاصة مكانتها طويلة الأمد باعتبارها الديمقراطية الليبرالية الأبرز في العالم، رصيداً مهماً للولايات المتحدة، وفي المحصلة للأمن القومي للولايات المتحدة. لقد تصدعت هذه الأصول الآن، إن لم تكن انهارت بالفعل. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أنه لا يمكن إعادة بنائها، لكن إعادة البناء ستبدأ من قاعدة متدنية للغاية، كما يقول البروفيسور بيلار.