كان 2020 عاماً سيئاً بالنسبة لدول العالم بسبب جائحة كورونا، لكنه كان الأسوأ على الإطلاق بالنسبة لإيران، التي تلقت ضربات موجعة من أمريكا وإسرائيل، تمثلت في اغتيالات وعقوبات اقتصادية خانقة، إضافة إلى تفشي الوباء وضعف إمكانات مواجهته.
اغتيال سليماني مؤشر على الضعف
بدأ العام باغتيال الجنرال قاسم سليماني فجر الثالث من يناير/كانون الثاني، في ضربة صاروخية أمريكية استهدفت موكب قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لدى وصوله مطار بغداد الدولي. قرار الاغتيال أصدره الرئيس دونالد ترامب ومثّل تصعيداً خطيراً، جعل توقعات اشتعال المنطقة ترتفع بشدة، فسليماني لم يكن مجرد قائد عسكري يمكن استبداله، بل كان يعتبر أكثر شخصية مؤثرة في النظام الإيراني بعد المرشد.
لكن الرد الإيراني على مقتل سليماني جاء ضعيفاً، حيث أطلقت طهران عشرات الصواريخ الباليستية مستهدفة قاعدتين عسكريتين أمريكتين في العراق، وأحدثت أضراراً مادية وبعض الإصابات دون أن تؤدي لمقتل أي عسكري أمريكي.
وأدى إطلاق الصواريخ الإيرانية إلى إسقاط طائرة ركاب أوكرانية بطريق الخطأ ومقتل ركابها، ما وضع إيران في مواجهة مشكلة ضخمة تمثلت في التعامل مع تداعيات إسقاط الطائرة والتعويضات المالية التي يتوجب عليها دفعها، لكن المشاكل المالية لم تكن أبرز نتائج تلك الكارثة.
فالجنرال سليماني مؤسس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني كان العقل المدبر وراء تأسيس أذرع إيران في المنطقة من حزب الله في لبنان، إلى ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، إلى تنسيق الدعم للحوثيين في اليمن، والدعم الإيراني لنظام بشار الأسد في سوريا، وقرار اغتياله يراه أغلب المحللين العسكريين بمثابة إعلان حرب صريح، وبالتالي فإن عجز إيران عن الرد على هذا المستوى كان إشارة واضحة على التغير الواضح في مدى قوة إيران وقدرتها على حماية نفسها.
وفي هذا السياق يبدو الفارق جلياً بين إيران عام 2019 وإيران عام 2020: ففي عام 2019 أخذت طهرن المبادرة في هجومين رئيسيين تجاه الولايات المتحدة وحليفها السعودية، الهجوم الأول هو إسقاط طائرة استطلاع أمريكية، في يونيو/حزيران، بصاروخ أرض-جو، وصفه الجيش الأمريكي بأنه "هجوم بلا مبرر"، حيث كانت الطائرة بعيدة عن الأجواء الإيرانية.
أما الهجوم الثاني فكان استهداف منشآت أرامكو النفطية في السعودية بوابل من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، منتصف سبتمبر/أيلول من نفس العام، ما أدى إلى خسائر فادحة قلصت قدرة عملاق النفط على الإنتاج بأكثر من النصف، والهجوم تبنته ميليشيات الحوثي لكن التقارير الدولية أكدت أن إيران تقف وراء الهجوم.
اغتيال أبو البرنامج النووي
ويوم الجمعة 27 نوفمبر/تشرين الثاني، اغتيل العالم النووي محسن فخري زادة، الملقب بأبو البرنامج النووي الإيراني، في عملية تم تنفيذها في طهران هذه المرة، وتؤكد جميع المؤشرات على أن الموساد الإسرائيلي هو من قام بعملية الاغتيال، وكان ترامب على علم بالعملية قبل تنفيذها، في محاولة لجر إيران إلى فخ الحرب قبل أن يغادر ترامب البيت الأبيض.
وهذه المرة لم ترد إيران بأي شكل من الأشكال، رغم عاصفة التهديد والوعيد على لسان جميع مسؤوليها بداية من المرشد الأعلى ومروراً بالرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف، وصولاً إلى قادة الحرس الثوري، وسط تقارير عن انتظار طهران لتسلم إدارة بايدن مهامها وتطمينات وصلتها من جانب فريق بايدن بالفعل.
لكن بغض النظر عما يدور في كواليس دوائر الحكم في طهران، لا شك أنه ما بين اغتيال سليماني واغتيال فخري زادة فقدت إيران كثيراً من صورتها كقوة إقليمية مؤثرة تمتلك أذرعاً طويلة وأوراق ضغط يمكن أن توظفها كي تحصل على ما تريده أو تحقق أهدافها، كما حدث عام 2015 عندما وقعت الاتفاق النووي مع إدارة أوباما وباقي القوى الموقعة على الاتفاق.
وباء كورونا والاقتصاد المختنق
وكما يقول المثل "المصائب لا تأتي فرادى"، وهو المثل الذي انطبق حرفياً على إيران في عام 2020؛ فبالإضافة إلى التداعيات السلبية الضخمة التي تسببت فيها حملة الضغط القصوى التي طبقها ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018 وإعادة فرض العقوبات الأمريكية وتصعيد تلك العقوبات لتشمل كل شيء تقريباً في إيران، عانت البلاد بشدة من جائحة كورونا بصورة أكبر بكثير من غيرها من بلدان الشرق الأوسط.
صحيح أن الحرب بين إيران والولايات المتحدة لم تندلع كما كان متوقعاً، إلا أن الوباء قتل عشرات الآلاف وأصاب ملايين الإيرانيين. وبعد أن ظلت السلطات الإيرانية تتكتم على تفشي الوباء بين سكانها لأسابيع طويلة، جاء تأكيد طهران في نهاية فبراير/شباط 2020 على وقوع حالات وفاة بسبب الوباء بين مواطنيها، لتكون أول دولة في الشرق الأوسط يتفشى فيها وباء كورونا، ومنها انتقل إلى غالبية دول المنطقة. وشهدت إيران أكثر من موجة تفشي للوباء أودت بحياة أكثر من 55 ألف شخص وأصابت أكثير من 1.2 مليون، بحسب التقارير الرسمية، لكن التقديرات غير الرسمية تتحدث عن أضعاف تلك الأرقام سواء وفيات أو إصابات.
وحتى عندما بدأ العالم يتنفس الصعداء مع بدء إنتاج لقاحات كورونا، وجدت إيران نفسها غير قادرة على أن تكون جزءاً من تلك الصورة المشرقة، بعد أن اتهمت طهران الولايات المتحدة بالعمل على إحباط محاولات إيران شراء اللقاح من خلال المبادرة الدولية التي تديرها منظمة الصحة العالمية. كما تصدت واشنطن أيضاً لطلب إيران الحصول على قرض طارئ بقيمة 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي لمواجهة الوباء القاتل.
أما الاقتصاد الإيراني فمعاناته كانت قد بدأت قبل جائحة كورونا بفعل العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب وكبدت إيران خسائر فادحة انعكست بشكل مباشر على العملة المحلية الريال، والتي تراجعت قيمتها بأكثر من 450%، حيث كان الدولار يعادل نحو 43 ألف ريال إيراني، ووصل هذا العام إلى 319 ألفاً.
وأدى اختناق الاقتصاد بفعل العقوبات الأمريكية وجائحة كورونا إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية، وارتفعت نسبة التضخم بشكل عام، وهو ما أدى إلى تضرر الشعب الإيراني بصورة غير مسبوقة، وتحدثت تقارير هذا الشهر عن تفكير غالبية الإيرانيين، وخصوصاً الشباب، في الهجرة خارج البلاد، بعد أن وصلت البطالة إلى مستويات قياسية.
العام الأسوأ منذ الثورة
بشكل عام يمكن القول إن إيران لم تشهد عاماً أسوأ من 2020 منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، فبالنسبة للشعب الإيراني شهد العام تدهوراً غير مسبوق في مستويات ونوعية المعيشة وانتشر الموت والمرض بفعل وباء كورونا، وبالنسبة لقادة النظام الإيراني فقد تعرضوا لسلسلة من الانتكاسات والهزائم في الداخل والخارج، وعلى رأسها اغتيال سليماني وفخري زادة.
وقد نشرت وكالة بلومبيرغ الأمريكية تقريراً بعنوان "عام سيئ في كل مكان، لكنه أسوأ بالنسبة لإيران"، رصد الموقف الصعب الذي وجد قادة طهران أنفسهم فيه منذ بداية العام واغتيال سليماني، وصولاً إلى نهايته واغتيال فخري زادة والخوف الواضح من إقدام ترامب على توجيه ضربة مفاجئة لمنشآت إيران النووية قبل أن يغادر البيت الأبيض.
فعلى المستوى الإقليمي، شهد عام 2020 انتكاسات واضحة تمثلت في تعرض حزب الله في لبنان إلى ضغوط غير مسبوقة من الاحتجاجات الشعبية من جهة والضغوط الخارجية والعقوبات الدولية من جانب آخر، جعلت قدرة الحزب على الحركة والمناورة لتخفيف الضغوط عن طهران محدودة بشكل ملحوظ. وجاء تفجير مرفأ بيروت مطلع أغسطس/آب وفشل قادة لبنان في تشكيل حكومة ليضع مزيداً من الضغوط والحصار على حزب الله.
وفي العراق، تتعرض ميليشيات الحشد الشعبي للتضييق ومحاولة تحجيم دورها من جانب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وفي سوريا تتعرض إيران بشكل شبه يومي إلى ضربات جوية إسرائيلية تستهدف حزب الله والحرس الثوري الإيراني على الأراضي السورية، كان آخرها مقتل أحد قادة الحرس الثوري في ضربة جوية في منطقة الحدود السورية العراقية.
وفقدت إيران نفوذها وقدرتها على التأثير تماماً في سوريا، لتتولى روسيا هذا الدور منفردة، وهو ما جعل قوات الحرس الثوري الإيراني الموجودة على الأراضي السورية شبه عاجزة تماماً أمام هجمات إسرائيل المتكررة التي تستهدف مواقع ومنشآت الحرس الثوري في سوريا.
هل يحمل 2021 أخباراً أفضل لإيران؟
يرى البعض أن 2021 قد لا تكون أسوأ لإيران من 2020 بأي حال من الأحوال، لكن هل تتحسن الأمور فعلاً، يظل سؤالاً تحكمه عناصر كثيرة ومتداخلة، ربما لا يكون أغلبها بيد طهران من الأساس.
والمعروف أن إيران يحكمها تيار متشدد يمثله المرشد الأعلى والحرس الثوري، وتيار أقل تشدداً يعرف بالليبراليين، يمثله الرئيس الحالي حسن وروحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، وبطبيعة الحال ينتظر التيار الثاني تنصيب إدارة بايدن في البيت الأبيض 20 يناير/كانون الثاني 2021، على أمل أن تعود واشنطن للاتفاق النووي وترفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب.
ويمكن القول إن تيار المرشد والحرس الثوري أيضاً يريدون نفس الأمر وإن صرحوا بالعكس، لكن تظل مسألة عودة بايدن إلى الاتفاق النووي بصيغته وبنوده الحالية أمراً يشبه المهمة المستحيلة بالفعل، في ظل معارضة عنيفة لذلك داخل الولايات المتحدة وخارجها من خلال إسرائيل والسعودية بالأساس.
فالمعارضون لعودة بايدن للاتفاق يضعون شروطاً أهمها تفكيك برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية ووقف إيران تدخلها في شؤون الدول العربية من خلال ميليشياتها في تلك الدول. بينما يعلن قادة إيران أنهم يريدون أن يعوضهم بايدن عن الخسائر الاقتصادية الهائلة التي تسببت فيها عقوبات ترامب، ويرفضون تماماً أي تعديل على الاتفاق النووي بصيغته الموقعة عام 2015. وهذه الصورة توضح مدى الفجوة الهائلة بين الطرفين ومدى صعوبة مهمة إحياء الاتفاق النووي.
صحيح أن بعض المحللين يرون أن إيران لا تزال تمتلك بعضاً من قدرتها على المناورة، أبرزها أن حلفاء واشنطن في الخليج وتحديداً السعودية والإمارات لا يحبذون فكرة شن الولايات المتحدة حرباً شاملة على إيران، فذلك يضع البلدين على خط النار بشكل مباشر، كما أن شن هجوم شامل على إيران لا يضمن تغيير النظام في طهران، بل ربما يؤدي إلى التفاف الإيرانيين حول قيادتهم بصورة أكبر مما هي عليه الآن، بحسب تحليل لمعهد بروكينجز للدراسات.
والنقطة الاستراتيجية الثانية التي يرى البعض أنها تصب في صالح طهران هي قدرتها على إصلاح وإعادة تقوية وكلائها في المنطقة لخدمة أهدافها الإقليمية، والحديث هنا عن لبنان والعراق وسوريا واليمن، حيث تمتلك إيران ميليشيات تمثل كيانات مستقلة موازية لسلطات البلاد الأربع وتأتمر في النهاية بأوامر طهران.
وبالتالي فإن هذه المعطيات جميعاً ربما تشير إلى استبعاد احتمال اندلاع حرب شاملة ضد إيران، تبدأها إسرائيل أو الولايات المتحدة من جهة أو تقدم طهران على إشعالها من الجهة المقابلة، ما يعني أن السيناريو الأقرب هو استمرار الوضع الحالي، أي أن تظل إيران تعاني من العقوبات الأمريكية حتى منتصف العام 2021، والذي تشهد فيه طهران انتخابات رئاسية على الأرجح قد تطيح بحسن روحاني وتأتي برئيس متشدد ليصبح معسكر المرشد مسيطراً على البلاد بشكل كامل بعد أن سيطر المحافظون على البرلمان مطلع عام 2020.
وفي كل الأحوال لا يتوقع أن يكون عام 2021 أسوأ على إيران من العام الذي يلملم أوراقه، لكن تظل حظوظ طهران في العام الجديد مرهونة أكثر بأوراق لا تمتلك أغلبها، ويظل السؤال معلقاً: إلى أين تتجه الأمور؟