كان أمراً غريباً أن الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر يلوح بالحرب مجدداً، بينما اثنان من أكبر داعميه يتجهان للتهدئة، بل انتقاده والتقارب مع حكومة الوفاق التي يناصبها حفتر العداء.
فقد دعت فرنسا أمس الإثنين خليفة حفتر، إلى "الامتناع عن استئناف الأعمال العدائية"، وإلى "تركيز الجهود" على إيجاد حل سياسي، بعدما كان قد طلب الخميس من قواته طرد ما وصفه بـ"المحتل التركي"، وذلك خلال خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الـ69 لاستقلال ليبيا، وهو ما دفع وزير الدفاع التركي إلى توجيه تحذير شديد اللهجة إليه هدد فيه باستهداف الجنرال المتقاعد وقواته إذا اعتدى على القوات التركية في ليبيا.
وفد مصري في طرابلس
واللافت أن حفتر يلوح بالحرب بالتزامن مع زيارة رفيعة المستوى قام بها وفد مصري إلى طرابلس للمرة الأولى منذ نحو ست سنوات، اتفق خلالها الوفد مع حكومة الوفاق على تفعيل ما يعرف باسم الحريات الأربع بين البلدين وهي عبارة عن اتفاقيات مشتركة تتعلق بـ"الإقامة والعمل والتنقل والتملك" وقعتها مصر وليبيا منذ تسعينات القرن الماضي، والمفترض أن تلك الاتفاقيات تمنح مواطني البلدين الجارين حرية التنقل والإقامة دون الحاجة لتأشيرة دخول وكذلك العمل والتملك.
وهو تأكيد لافت على حقيقة تتجاهلها وسائل الإعلام المصرية والإماراتية والسعودية وهي أن مصر ما زالت تعترف بحكومة الوفاق باعتبارها الحكومة الرسمية لليبيا، وليس حفتر.
وترأس الوفد المصري وكيل جهاز المخابرات العامة ورئيس اللجنة المصرية المعنية بالملف الليبي أيمن بديع، وضم المسؤول عن الملف الليبي بوزارة الخارجية السفير محمد أبوبكر.
وكان لافتاً ما نشر أن الوفد المصري سيجتمع مع آمر المنطقة العسكرية الغربية أسامة الجويلي.
وصرح وزير الداخلية المفوض لحكومة المجلس الرئاسي في العاصمة الليبية طرابلس، فتحي باشاغا، عقب اجتماعه مع الوفد الأمني المصري، بأن "اللقاءات كانت مثمرة وبناءة"، مؤكداً أن الطرفين "استعرضا سبل تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي المشترك، بما يحفظ مصالح الدولتين والمنطقة من خطر الإرهاب والجريمة المنظمة".
وأفاد بيان لوزارة خارجية حكومة الوفاق والوفد المصري بأن الوفد المصري "وعد بإعادة فتح السفارة المصرية والعودة للعمل من داخل طرابلس في أقرب وقت ممكن"، مشيراً إلى أنه تم الاتفاق على استئناف الرحلات الجوية من ليبيا لمطار القاهرة، وبرمجة سلسلة من الاجتماعات بين الخبراء والمختصين في البلدين لتعزيز التعاون.
كما قال الناطق باسم وزارة الخارجية في حكومة الوفاق الليبية، محمد القبلاوي، أمس الإثنين، إن وزير الخارجية المصري سامح شكري أجرى اتصالاً هاتفياً بوزير الخارجية محمد الطاهر سيالة، وبحث معه تطورات الأزمة وسبل دعم الاستقرار في ليبيا.
فرنسا تنتقد حفتر وتنفتح على حكومة الوفاق
من جانبه، علق المتحدث باسم الخارجية الفرنسية على تصريحات التي فُهم منها أن حفتر يلوح بالحرب بالقول "لا حل عسكرياً في ليبيا. الأولوية لتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 23 أكتوبر/تشرين الأول، والذي يدعو إلى خروج القوات الأجنبية والمرتزقة الأجانب، واستكمال العملية السياسية بإشراف الأمم المتحدة".
وسبق ذلك انفتاح لافت لحكومة الوفاق على فرنسا، ففي العشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020، زار وزير الداخلية الليبي فتحي باشاغا العاصمة الفرنسية باريس والتقى وزيرة الدفاع فلورنس بارلي، والخارجية جان إيف لودريان، والداخلية جيرالد دارمانين.
وعقب لقائه وزيرة الدفاع الفرنسية، قال باشاغا إن لقاءه "كان مثمراً"، وكتب عبر تويتر: "الاجتماع عُقد في إطار تعزيز تعاوننا الأمني المشترك بما يعزز استقرار البلدين والمنطقة ككل"، فيما قال وزير الداخلية الفرنسي إن لقاءه مع باشاغا "تناول التعاون الأمني المشترك".
وناقش أيضاً وزير الداخلية الليبي في باريس التعاون الثنائي في المجال الأمني ومكافحة الهجرة غير القانونية، وأعلن باشاغا في تغريدة على تويتر توقيع بروتوكول اتفاق مع شركة "إيديميا" الفرنسية للحصول على نظام تحديد هوية بيومتري.
وقبل نحو شهر أيضاً، زار باشاغا القاهرة والتقى مسؤولين مصريين كباراً وذلك لأول مرة منذ توليه منصبه عام 2018، وقالت وسائل إعلام مصرية إن الزيارة ناقشت "التحديات المشتركة وتعزيز التعاون الأمني وتوحيد الجهود لمواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة بما يحفظ الأمن القومي للبلدين".
لماذا جاءت هذه المواقف الفرنسية المصرية المتجهة للتهدئة؟
وفي هذا الإطار يجب ملاحظة عدة أشياء:
أن هذه المواقف لم تقتصر على باريس والقاهرة، ولكن شملت واشنطن وموسكو.
فالسفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، أكد في اتصال هاتفي مع رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، خالد المشري، حرص واشنطن على إنجاح مسار الحوار السياسي وتثبيت وقف إطلاق النار.
بدوره، أفاد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بأنه ناقش مع نظيره التركي، مولود تشاووش أوغلو، أهمية استمرار الحوار بين الليبيين من أجل الخروج بحل سياسي للأزمة.
واللافت أن زيارة الوفد المصري رغم أنه يعد رفيع المستوى ومتنوعاً وهي أول زيارة من نوعها منذ سنوات ورغم أهمية ما أثير في الزيارة، فإنها لم تحظ باهتمام يذكر في وسائل الإعلام المصرية، التي تبنى بعضها خطاب حفتر التصعيدي ضد تركيا.
كما أبرزت وسائل الإعلام المصرية تصريحات وزير الدفاع التركي دون أن تشير إلى أنها جاءت بعد أن أخذ حفتر يلوح بالحرب، رغم انخراط الوفود الليبية في عملية سلام.
ولكن يظل السؤال هل هناك تغير في موقف فرنسا ومصر تجاه الأزمة الليبية أم أن هناك تقسيم أدوار بين حفتر وداعميه الأمر الذي يجعل حفتر يلوح بالحرب بينما يقدم داعموه مؤشرات على التهدئة؟
وإذا لم يكن الأمر كذلك فإلى من يستند الجنرال في خطابه التصعيدي ولماذا عاد حفتر يلوح بالحرب؟ هل هذا رد على تهميشه في العملية السياسية إلى حد كبير؟ أم أن هناك طرفاً يقف وراء هذا التصعيد الكلامي؟
حفتر يلوح بالحرب وحلفاؤه يتواصلون مع خصومه.. ما حقيقة مواقف باريس والقاهرة؟
يجب ملاحظة أن الانتقاد الفرنسي لحفتر، والتواصل المصري مع حكومة الوفاق، جاء محصلة لفشل حفتر الذريع في هجومه المباغت على العاصمة الليبية قبل أكثر من عام، والذي تحول إلى نكسة عسكرية عندما أدى الدعم التركي لحكومة الوفاق لقلب موازين المعركة وتحويل قوات الوفاق من حالة الدفاع عن طرابلس إلى الهجوم على سرت، مما دفع القاهرة للتهديد بالتدخل إذا اقتحمت قوات الوفاق سرت.
وبعد ذلك انطلقت عملية تسوية متعثرة، برعاية الأمم المتحدة، وأثمرت محادثات بين طرفي النزاع الليبيين اتفاقاً على إجراء انتخابات عامة في ديسمبر/كانون الأول 2021، من دون التوصل لاتفاق حول الحكومة التي ستتولى الإشراف على العملية الانتقالية.
ولكن السمة الرئيسية للمفاوضات هي تهميش حفتر باستثناء الجانب العسكري المتعلق بوقف إطلاق النار.
وبعد أن عاد حفتر يلوح بالحرب مجدداً، كان لافتاً زيارة وزير الدفاع التركي بنفسه إلى ليبيا، في إشارة إلى استعداد أنقرة للتحرك إذا خرق حفتر وقف إطلاق النار، وتأتي مواقف تركيا بعد أن حقق تدخلها في النزاع في أذربيجان وأرمينيا نجاحاً يفوق النجاح الذي حققته الوفاق في ليبيا.
وبالتالي فإن مصر وفرنسا حتى لو تناصبان أنقرة العداء فإنهما تعلمان أن كفاءة حفتر العسكرية لا تجعله قادراً على حسم النزاع إذ نشب مجدداً، وأنه رغم حشده العسكري وجلبه مرتزقة النظام السوري بشار الأسد، فإن ذلك يقابله دعم تركي لحكومة الوفاق لتنظيم قواتها وتحويلها إلى جيش محترف، وهو أمر من شأنه معالجة أكبر عيوب هذه القوات التي اشتهرت بالشجاعة والصلابة ولكنها افتقدت دوماً للتنظيم والوحدة.
ولأنقرة تجربة ناجحة في مساعدة أذربيجان في إعادة تنظيم وبناء جيشها ظهرت نتائجها في حرب القوقاز الأخيرة التي انتهت بهزيمة لأرمينيا وتسليمها لمعظم أراضي باكو المحتلة.
في المقابل فإن الدعم الفرنسي السياسي لأرمينيا (وبصورة أقل الإمارات ومصر والسعودية) لم يترجم إلى دعم عسكري فعال، وقد تكون باريس لا تريد أن ترى تكراراً لسيناريو ناغورنو قره باغ حيث يتعرض حلفاؤه للإذلال، وتستبعد هي من التسوية.
وبالنسبة للقاهرة يُعتقد أن هجوم حفتر السابق على طرابلس، لم تكن مصر راضية عنه، لأن القادة المصريين كانوا يرون أن قوات حفتر- ستفشل على الأرجح، حسبما قال الباحث في المعهد السويسري للمبادرة العالمية، جلال حرشاوي لموقع قناة الحرة الأمريكي.
وذلك "لأن كلاً من موسكو والقاهرة يؤمنان أن حفتر يفتقر إلى القوة العسكرية، ولا يرتكز على عوامل اجتماعية وسياسية ضرورية لإنجاح عمليته العسكرية الضخمة التي كانت على بعد نحو ألف كيلومتر من قواعده في شرق ليبيا".
ويرى حرشاوي أن ما تنبأ به المصريون وخافوا منه حدث، متمثلاً في تهيئة الظروف لانتقال واسع للأتراك إلى ليبيا بسبب هجوم حفتر "غير المخطط له".
ومضى يقول: "في الواقع أعطى هجوم حفتر فرصة ذهبية لتركيا للدخول إلى طرابلس، وتحويل ما كان لسنوات عديدة مجرد وجود ظل إلى وجود مادي هائل".
وبعدما أخذ حفتر يلوح بالحرب مجدداً، فإن مخاوف مصر تجددت من هذا السيناريو.
وتابع حرشاوي في تعليقه: "مصر لا تريد مزيداً من الحروب في ليبيا، لسببين؛ أولهما أن استمرار القتال قد يؤدي للسماح لحكومة الوفاق بالاستيلاء على المزيد من الأراضي، مثل سرت والهلال النفطي، وبالتالي الاقتراب من الحدود المصرية، وربما يتسبب في انهيار النظام الأمني الوحيد الموجود في شرق ليبيا، كما أن عودة الحرب قد تجبر مصر على التدخل العسكري خارج حدودها".
هل ينفذ حفتر تهديداته؟
وفيما إذا كان استمرار الوجود العسكري التركي في ليبيا سيدفع الجنرال للهجوم مرة أخرى على طرابلس بعدما أخذ حفتر يلوح بالحرب مجدداً، يعلق حرشاوي، قائلاً: "هذه الدعاية يروج لها حفتر وحلفاؤه، لكنها لا علاقة لها بالواقع. المؤيدون لحفتر يواصلون قول ذلك أو التلميح إلى أن هجوماً جديداً على طرابلس لا يزال يمثل خطراً محتملاً".
لكنه أضاف "بالنظر إلى الكم الهائل من القدرات العسكرية التي تمتلكها حكومة الوفاق الآن، بفضل عام كامل من الاستثمار النشط والإعداد والتدريب التركي، يتضح أن التلويح بذلك مجرد وهم".
وأوضح أنه من الناحية الفنية، لم يعد حفتر قادراً تماماً على شن هجوم جديد على طرابلس، وبالتالي فإن حفتر يلوح بالحرب مجدداً، ولكن من الناحية الواقعية هذا أمر صعب عليه حتى لو أراده.
ويتفق عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية أيمن سلامة مع هذا الكلام ب.
إذ يقول "حتى لو أن حفتر يلوح بالحرب مجدداً فإنه لن يكرر ما فعله مع طرابلس إطلاقاً، حتى حلفاؤه لن يسمحوا له".
ويضيف لموقع الحرة "أي قائد عسكري محترف مكان حفتر لن يحاول مرة أخرى التفكير في الهجوم على طرابلس، بعد أن عادت قواته بخفي حُنَيِن".
وعن تزامن زيارتي وزير الدفاع التركي والوفد المصري، يقول حرشاوي: "القنوات الخلفية بين القاهرة وأنقرة موجودة، إذ أن الدولتين تتحدثان بانتظام منذ ربيع 2020".
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، كشف الكاتب والمحلل السياسي التركي، حمزة تكين، المقرب من الحكومة التركية ومحلل سياسي تركي آخر، وهو فراس رضوان، تحدث إليهما موقع "الحرة"، عن معلومات مؤكدة لديهما تشير إلى اجتماعات مصرية-تركية، على مستوى مخابراتي، بشأن الأوضاع في ليبيا.
ولكم لماذا عاد حفتر يلوح بالحرب مجدداً، رغم نأي مصر وفرنسا وروسيا بأنفسهما عنه.
ولكن من يدعم حفتر؟
التشكك المصري-الروسي في كفاءة حفتر العسكرية (الذي ثبت صحته)، "لم يوقف هجوم الجنرال المتقاعد على طرابلس الذي كان مدعوماً دائماً من الإمارات"، حسب حرشاوي.
وفيما يتعلق بالموقف الإماراتي من تطورات الأزمة الليبية الآن، قال حرشاوي: "لا تتقبل الإمارات الواقع الحالي في ليبيا".
وأضاف أنه على المدى الطويل، ستواصل أبوظبي محاولتها القضاء على أي نظام حكم قد يقبل أو يدافع عن جماعة الإخوان المسلمين أو فصيل سياسي مشابه له في طرابلس.
واستطرد "الإمارات لن تتوقف أبداً عن محاولاتها لجعل الوجود التركي في ليبيا مكلفاً ومؤلماً وغير دائم"، مشيراً في الصدد إلى أن أبوظبي قد تكون تتحرك عبر وجودها العسكري في غرب مصر، حيث "تدير عدة قواعد عسكرية من أجل ليبيا"، حسب قوله.
وتابع "ساعدت أبوظبي في دفع تكاليف قاعدة محمد نجيب، ولديها طائرات مقاتلة من طراز ميراج وطائرات بدون طيار من طراز ونغ لونغ في مطار سيدي براني بالقرب من الحدود الليبية".
وكان السيسي افتتح قاعدة محمد نجيب، أكبر قاعدة عسكرية في إفريقيا والشرق الأوسط، في 2017، بحضور حفتر وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد.