"ذهب الدم" مصطلح يطلق على الذهب الذي يتم تهريبه من مناطق الصراعات حول العالم، فكيف أصبحت الإمارات مركزاً لتلك السلعة الملوثة بالدماء؟
تجارة الذهب في الإمارات
يقول ساشا ليزنيف، نائب مدير السياسة في منظمة The Sentry غير الحكومية التي أصدرت تقريراً عن ذهب الصراعات ودبي في نوفمبر/تشرين الثاني لموقع Middle East Eye البريطاني: "إذا أرادت دبي زيادة أعداد زبائنها على مستوى العالم، فيتعين عليها إصلاح سياسات التدقيق المتعلقة بالذهب. وإلا فإنها تجازف بخسارة الكثير من العملاء، وتجارة الذهب تشكل جزءاً كبيراً من الاقتصاد".
فقد أصبح الذهب شديد الأهمية لاقتصاد دبي حتى إنه بات العنصر الأعلى قيمة في تجارة الإمارة الخارجية، متقدماً على الهواتف المحمولة والمجوهرات والمنتجات البترولية والماس، وفقاً لجمارك دبي.
وهو أكبر صادرات الإمارات بعد النفط، حيث صدّرت ما قيمته 17.7 مليار دولار منه عام 2019. ولم تزِد أهمية الذهب إلا بعد تضاؤل احتياطيات دبي النفطية وسعي الإمارات لتنويع مصادر اقتصادها.
ونظراً لعدم توفر مصدر محلي للذهب، على عكس جارتها السعودية، يتعين على الإمارات استيراد الذهب من أي مكان، سواء بالطرق المشروعة، أو عن طريق التهريب دون طرح أي أسئلة، أو من مناطق الصراعات، أو من طرق مرتبطة بالجريمة المنظمة.
والسؤال هو هل دبي والإمارات مستعدتان لضبط تصرفهما وتنظيف هذه الفوضى؟ فالحفاظ على هذه التجارة يفرض على الإمارات تشديد رقابتها على هذا القطاع، خاصة أنها أصبحت محور العديد من التقارير التي تتحدث عن دورها في تجارة الذهب القذرة، ومواجهتها انتقادات مجموعة العمل المالي (FATF)، الهيئة المسؤولة عن وضع المعايير العالمية لقواعد مكافحة غسيل الأموال، لعدم كفاية الرقابة التي تفرضها على القطاع في تقرير تقييمي نشرته في إبريل/نيسان.
وقد نشرت مجلة فوربس الأمريكية تقريراً في إبريل/ نيسان الماضي عن الانتقادات الدولية الموجهة للإمارات بشأن عمليات غسيل الأموال التي تتخذ من الإمارة الخليجية مقراً لها ومطالبة مجموعة العمل المالي للإمارات باتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمواجهة تلك العمليات.
95% من "ذهب الدم" إلى دبي
وقد خلص التحقيق الذي أجرته منظمة The Sentry إلى أن 95% من الذهب المُصدَّر رسمياً من وسط وشرق إفريقيا، الذي يستخرج معظمه من السودان وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية، يذهب في نهاية المطاف إلى إمارة دبي.
وقال ليجنيف: "الكثير من ذهب الصراعات يُهرَّب إلى الدول المجاورة ثم يُصدَّر منها إلى دبي". ويُشار إلى أن الذهب يمول الصراعات المسلحة في المنطقة منذ سنوات، لكن هذا العام شهد زيادة نتيجة ارتفاع أسعار الذهب وسط تقلبات السوق المرتبطة بجائحة كوفيد-19، حيث ارتفع سعر الأوقية من 364 دولاراً،
أو 25%، إلى أكثر من 1800 دولار منذ يناير/كانون الثاني.
وذهب الدم، كما يمكن أن يطلق عليه، لا يتدفق إلى دبي من إفريقيا وحدها. إذ يقول ديفيد ساود، رئيس قسم الأبحاث والتحليل في شركة الاستراتيجيات I.R. Consilium في واشنطن العاصمة: "يأتي الذهب أيضاً من أمريكا الجنوبية، ودبي تتحول إلى مركز له. فحالما يصل الذهب إلى دبي، يصبح من المستحيل فعلياً تحديد مصدره وظروف منشئه".
وأضحت دبي مركزاً رئيسياً للذهب مهما كان منشؤه بسبب السياسات المتساهلة التي تتبعها. يقول ليجنيف: "إنها مغرية لأنه لا يوجد الكثير من التدقيق عند شراء الذهب، كما أن الثغرات في سياستها وقواعد التنظيم جعلت من البلاد ما يشبه مغناطيساً جاذباً لهذا النوع من الذهب المهرب".
فالفحوصات الجمركية محدودة، والنقود السائلة هي السيد عند شراء الذهب في سوق الذهب في دبي، أو من آلة بيع الذهب في فندق قصر الإمارات في أبو ظبي. ووفقاً لوكالة رويترز، أعلنت الإمارات عام 2016 عن استيرادها ذهباً من 25 دولة إفريقية، بقيمة 7.4 مليار دولار، رغم أن أياً منها لم يعلن عن أي صادرات للإمارات.
سويسرا أيضاً لها دور
لكن دبي ليست اللاعب الوحيد في قطاع الذهب الذي تلطخت يداه بالقذارة بل بالدم كذلك. إذ يقول لاكشمي كومار، مدير السياسات في مؤسسة النزاهة المالية العالمية في واشنطن العاصمة: "ليست دبي وحدها بل سويسرا أيضاً. السويسريون يحصلون على كميات كبيرة من الذهب من دبي. ويقولون إنهم لا يحصلون على الذهب من بلدان بعينها مرتبطة بذهب الصراعات، ولكن من دبي، لكن الذهب في دبي قادم من هذه البلدان. فدبي متواطئة، والأيدي السويسرية ملوثة بالقدر نفسه لأنها لا تستطيع عزل دبي عن السوق".
ويُشار إلى أن سويسرا أكبر مُكرِّر للذهب في العالم، إذ يمر ما يقرب من نصف الذهب بالبلاد في مرحلة ما، وفقاً لمنظمة محاربة الفساد Global Witness. وتجارة سويسرا مرتبطة بالمملكة المتحدة، التي تستورد حوالي ثلث جميع إنتاج الذهب.
وتعالج لندن أيضاً حوالي 80% من جميع الذهب المستخرج، حيث تشحن شركات التكرير الذهب إلى خزائن جمعية أسواق السبائك في لندن (LBMA)، التي تملك ذهباً تزيد قيمته قليلاً عن نصف تريليون دولار، وفقاً لتقديرات شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2020.
وجمعية أسواق السبائك في لندن منظمة خاصة مسؤولة عن وضع معايير أفضل السياسات التي يجب اتباعها في إطار قواعدها العالمية للمعادن الثمينة. لكن الجمعية واجهت انتقادات لختمها الذهب القادم من قائمة "الإنتاج الجيد" خاصتها التي تضم 70 شركة تكرير لا يُفترض بها اعتماد الذهب دون التدقيق الكافي في منشئه ومصدره وتدقيق طرف ثالث مستقل.
على أن عدداً من التقارير ربط بين شركة التكرير السويسرية فالكامبي Valcambi، المدرجة في قائمة جمعية أسواق السبائك للإنتاج "الجيد"، والذهب الوارد من شركة تكرير الكالوتي للمجوهرات العالمية التي تتخذ من الإمارات مقراً لها. والكالوتي متهمة باستيراد الذهب المهرَّب وذهب الصراعات، وإدارة معمل "خفي" للذهب في سورينام بأمريكا الجنوبية، حيث لا يجري في الواقع تكرير الذهب وإنما تقديم شهادات شراء زائفة، وهو ما يعتبر أداة مثالية لغسيل الأموال.
يقول مارك بيث، رئيس مجلس إدارة معهد بازل للحوكمة ومؤلف كتاب Gold Laundering: "كالوتي قصة قديمة، تظهر من حين لآخر. شركة فالكامبي استوردت في عامٍ كان فيه الإنتاج جيداً 300 طن من الإمارات إلى سويسرا، ومن كالوتي وحدها، ما يقرب من 30 مليار دولار في عامين".
وقد نشرت منظمة Global Witness تحقيقاً مفصلاً عن شركتي التكرير أوائل هذا العام. لكن شركة كالوتي لم تستجب لطلب إجراء مقابلة مع موقع Middle East Eye.
فيما قالت شركة فالكامبي لموقع Middle East Eye في رسالة إلكترونية إنه "لم تربطها أي علاقة عمل بكالوتي منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019" وإنه "لم يسبق لها التعامل مع أي مواد قادمة من السودان". وأضافت الشركة الهندية أنها "نجحت في اجتياز جميع عمليات تدقيق جمعية أسواق السبائك منذ عام 2012".
على أن أحد الانتقادات التي توجه لقوانين جمعية أسواق السبائك هو أنها تعتمد على تدقيق طرف ثالث. يقول بيث: "المشكلة هي أن هذا النظام غير ناجح بالمرة. والخلاصة هي أن ذهب الصراعات يمكن أن ينتقل بسهولة من كالوتي إلى فالكامبي، وما يزال بإمكان فالكامبي الحصول على ختم موافقة جمعية أسواق السبائك".
وتبين من تقييم لمعايير جمعية أسواق السبائك في لندن أن المراجعين غير مدربين على التدقيق في عمل شركات تكرير الذهب. وقال كومار: "كانت صدمة لي. ويبدو لي أن جميع هذه المعايير تقريباً ليست مُلزمة، وإنما نوع من التنظيم الذاتي".
واشنطن تحمي الإمارات
يقول كومار: "تدرج مجموعة العمل المالي الكثير من الدول في قوائم سوداء أو رمادية لعدم كفاية ضوابطها لمحاربة غسيل الأموال، لكن الإمارات تضم القدر نفسه أو أكثر من مخاطر غسيل الأموال بسبب أفعالها لكنها لم تُدرَج في هذه القائمة".
وأضاف: "الولايات المتحدة لديها حافز قوي لحماية الإمارات، لأنها حليف مهم في محاربة تمويل الإرهاب وحليف عسكري مهم في المنطقة. وبالنظر إلى اتفاقية السلام التي أبرمتها الإمارات مؤخراً مع إسرائيل، فمن المستبعد أن نرى الإمارات على القائمة السوداء لتعارض ذلك مع أولويات السياسة الخارجية الأمريكية".
لكن جمعية أسواق السبائك في لندن بدأت في ممارسة الضغوط على الإمارات، حيث هددت دبي وغيرها من مراكز الذهب في نوفمبر/تشرين الثاني بإدراجها في قوائمها السوداء لصادرات السبائك الذهبية إذا لم تلتزم بمعاييرها التنظيمية، التي منها التدقيق في المصدر وسلاسل التوريد، وإلغاء التعاملات النقدية والتوقف عن دعم عمليات التعدين الفردية على نطاق محدود.
لكن مركز دبي للسلع المتعددة هاجم خطوة جمعية أسواق السبائك في لندن، وشبهها رئيسه التنفيذي أحمد بن سليم، في منشور له على LinkedIn، بـ"حيلة شبيهة بتغيير قواعد لعبة المونوبولي على أساس اجتهادي لإخراج اللاعبين الآخرين من المنافسة" ووصف خطوتها بأنها "نهج سلطوي للحفاظ على الجزء الأكبر من السيطرة بتقديرات قائمة على الحدس والمعايير المزدوجة".
ولكن في تغير كامل في موقفها، أعلنت الإمارات دعمها لمبادرة جمعية أسواق السبائك في لندن في ديسمبر/كانون الثاني. قال ليجنيف: "هذه فرصة لفرض بعض التغييرات أخيراً، بعد مطالبة العديد منا، نحن المنظمات غير الحكومية والشركات والمسؤولين الحكوميين، الإمارات وغيرها بإصلاحات، ولكن دون جدوى تُذكر".
ولكن هل الإمارات تتغنى فقط بلوائح جمعية أسواق السبائك ومجموعة العمل المالي أم أنها ستشدد بالفعل رقابتها على القطاع؟ هذا ما لا نعرف إجابته بعد.